موافقات الشاطبي - الجزء الثاني2

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

2 219 للذة السخاء والتفضل على الناس والرابع الحج لرؤية البلاد والإستراحة من الأنكاد أو للتجارة أو لتبرمه بأهله وولده أو إلحاح الفقر والخامس الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال والسادس تعلم العلم ليحتمى به عن الظلم والسابع الوضوء تبردا والثامن الاعتكاف فرارا من الكراء والتاسع عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك والعاشر تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث والحادى عشر الحج ماشيا ليتوفر له الكراء وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة وقد التزم الغزالي فيها وفى أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم أنفكاكهما فابن العربي يلتفت إلى وجه الإنفكاك فيصحح العبادات وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الإجتماع وجودا كان القصدان مما يصح انفكاكهما أولا وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها واقع ورأي أصبغ فيها البطلان فإذا كان كذلك اتجه النظران وظهر مغزى المذهبين على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الإنفكاك أوجه لما جاء من الأدلة على ذلك ففى القرآن الكريم ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعنى في مواسم الحج وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة إنه دأب المرسلين فقد قال الخليل عليه السلام إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقال الكليم ففررت منكم لما خفتكم وقد كان رسول الله جعلت قرة عينه في الصلاة فكان يستريح إليها من تعب الدنيا وكان فيها نعيمة ولذته أفيقال إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها 220 كلا بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها وفى الصحيح يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد قال حضرت القاضى أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه على ما لم يكن يعهد من نفسه وسأله عن الدواء فقال اسرد الصوم تصلح معدتك فقال له يا أبا عبد الله على غير هذا دلنى ما كنت لأعذب نفسى بالصوم إلا لوجهه خالصا ولي عادة في الصوم الإثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها قال أبو علي وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام يعنى هذا الحديث وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس وأحسبنى ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس فسلم للحديث وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويكفى من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء فى 221 الحديث وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره وكالتخفيف لأجل الشيخ والضعيف وذى الحاجة وقوله عليه الصلاة والسلام إني لأسمع بكاء الصبي الحديث وكرد السلام في الصلاة وحكاية المؤذن وما أشبه ذلك مما هو عمل خارج عن حقية الصلاة مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ومع ذلك فلا يقدح في حقيقة إخلاصها بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شىء آخر سواه لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه وانتظار الصلاة والكف عن إذاية الناس واستغفار الملائكة له فإن كل قصد منها شاب غيره وأخرجه عن إخلاصه عن غيره وهذا غير صحيح بإتفاق بل كل قصد منها صحيح في نفسه وإن كان العمل واحدا لأن الجميع محمود شرعا فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه لإشتراكهما في الإذن الشرعي فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها كالحديث والأكل والشرب والنوم والرياء وما أشبه ذلك أما مالا منافاة فيه فكيف يقدح القصد إليه في العبادة هذا لا ينبغى أن يقال غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد والثالث ما يرجع إلى المراءآة فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه 222 فهو الرياء المذموم شرعا وأدهى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا وحكمه معلوم فلا فائدة في الإطالة فيه فصل وأما الثانى وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد كالنكاح والبيع والإجارة وما أشبه ذلك من الأمور التى علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهى وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له وإذا علم ذلك بإطلاق فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع فكان حقا وصحيحا هذا وجه ووجه ثان أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحا في التماسه وطلبه لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التى يتسبب عنها ذلك الحظ بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائى بتزوجه أو ليعد من أهل العفاف أو لغير ذلك لصح تزوجه من حيث لم بشرع فيه نية العبادة من حيث تزوج فيقدح فيها الرياء والسمعة بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا ووجه ثالث أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة كقوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم 223 أزواجا لتسكنوا إليها وقال هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا وقال الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقال ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله وقال وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا إلى آخر الآيات إلى غير ذلك مما لا يحصى وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات وقطع للأهواء كالصلاة والصيام والحج والجهاد إلا ما نحا نحو قوله وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم بعد قوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقتضى به الأوطار وتفتح به أبواب التمتع واللذات النفسانية وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ودفع المضرات وأضراب ذلك فإن الإتيان بها في معرض الإمتنان مناسب وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية ولا نقصا من حق الربوبية لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذى امتن بها وذلك صحيح فإن قيل فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق لما تقدم 224 فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل ثم أتبعه آثارا حسنة من التمتع باللذات والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع فكان قصد هذا القاصد بريئا من الحظ وقد انجر في قصده الحظ فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع فلا مخالفة للشارع من جهة القصد بل له موافقتان موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول وهو التمتع وموافقة من جهة أن أمر الشارع فىالجملة يقتضي إعتبار المكلف له في حسن الأدب فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف وأيضا ففى قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل فهو بامتثال الأمر ملب للشارع في هذا القصد بخلاف طلب الحظ فقط فليس له هذه المزية فإن قيل فطالب الحظ في هذا الوجه ملوم إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة فالجواب أنه لم يهمله مطلقا فأنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي وأيضا فالداخل في حكم هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي وأيضا فالداخل بحكم الشرط العادى على أنه لم يلد ويتكلف التربية والقيام بمصالح 225 الأهل والولد كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها لكن لا يستوي القصدان قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن فثبت بالضمن فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم غير قادح في العمل فإن قيل فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال وإنما طلب حظه مجردا بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع وأما العمل بالحظ والهوى بحيث يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه فليس من الحق في شىء وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر فإن قيل أما كونه عاملا على قصد المخالفة فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق وأما عمله علىغير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسى فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق وإذا وافق أمر الشرع جهلا فسيأتي أن يصح عمله على الجملة فلا يكون عمله بالهوى أيضا وإلى هذا فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول أنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر آنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة فلا يستلزم أن يكون موافقا له بل الحالات ثلاث 226 حال يكون فيها قاصدا للموافقة فلا يخلو أن يصيب بإطلاق كالعالم يعمل على وفق ما علم فلا إشكال أو يصيب بحكم الإتفاق أولا يصيب فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه لم يقصد مخالفة لكن فرط في الإحتياط لذلك العمل فيؤاخذ في الطريق وقد لا يؤآخذ إذا لم يعد مفرطا ويمضي عمله إن كان موافقا وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف لا اعتبار بما يخالف فيه لأنه مخالف القصد بإطلاق وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته كمن عقد عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا أو شرب جلابا يظنه خمرا إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة فهو العمل في مجرد الحظ أو الغفلة كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل أو يدري ولكنه إنما قصده مجرد العاجلة معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع وحكمه في العبادات عدم الصحة لعدم نية الإمتثال ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع وإلا فعدم الصحة وفي هذا الموضع نظر إذ يقال إن المقصد هنا لما انتفي فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة وقد يظر لهذا تأثير في تصرفات المحجور كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا وإن وافقت المصلحة وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة 227 منها لا ما خالفها على تفصيل أصله هذا النظر وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض فهو بهذا القصد مخالف للشارع وقد يقال القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع فصح فصل حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام فكل ما خالف قصد الشارع فهو باطل على الإطلاق لكن بالتفسير المتقدم والله أعلم المسألة السابعة المطلوب الشرعي ضربان أحدهما ما كان من قبيل العاديات الجارية بين الخلق في الإكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية التي هي طرق الحظوظ العاجلة كالعقود على اختلافها والتصاريف المالية على تنوعها والثاني ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف من جهة توجهه إلى الواحد المعبود فأما الأول فالنيابة فيه صحيحة فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه فيما لا يختص به منها فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه كالبيع والشراء والأخذ والإعطاء والإجارة والإستئجارة والخدمة والقبض والدفع وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا كالأكل والشرب واللبس والسكنى وغير ذلك مما جرت به العادات وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الإستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا فإن مثل هذا مفروغ من 228 النظر فيه لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره ومثل ذلك وجوه العقوبات والإزدجار لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال فإن النيابة فيه تصح فإن كان دائرا بين الأمر المالي وغيره فهو مجال نظر واجتهاد كالحج والكفارات فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد فلا تصح النيابة فيه أو المال فتصح والكفارة بناء على أنها زجر فتختص أو جبر فلا تختص وكالتضحية في الذبح بناء على ما بني عليه في الحج وما أشبه هذه الأشياء فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف فلا نيابة وإلا صحت النيابة وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة دليل لوضوح الأمر فيه وأما الثاني فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد ولا يغنى فيها عن المكلف غيره وعمل العامل لا يجتزى به غيره ولا ينتقل بالقصد إليه ولا يثبت إن وهب ولا يحمل إن تحمل وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وفي القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى في مواضع وفي بعضها وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل 229 منه شيء ولو كان ذا قربى ثم قال ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وقال تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وقال وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء الآية وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا كقوله يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها وقال واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وقال واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل الآية إلى كثير من هذا المعنى وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين يا بني فلان إني لا أملك لكم من الله شيئا والثاني المعنى وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله والتوجه إليه والتذلل بين يديه والإنقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ومراقبا له غير غافل عنه وأن يكون ساعيا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها إذا ناب عنه غيره في ذلك وإذا قام غيره في ذلك مقامة فذلك الغير هو الخاضع المتوجه والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية والإتصاف لايعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المديان صار المديان متصفا بأنه مؤد لدينه فلا مطالبة 230 للغريم بعد ذلك به وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب ولا نيابة إذ ذاك على حال والثالث أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات كالأكل والشرب والوقاع واللباس وما أشبه ذلك وفى الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر وكل ذلك باطل بلا خلاف من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر التعبدات وما تقدم من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص لأنها 231 محكمات نزلت بمكة احتجاجا على الكفار وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا المعنى لم يكن فيها رد عليهم ولما قامت عليهم بها حجة أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي الظاهر وأما على قول غيرهم فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية ولا ينصرف عنها فإن قيل كيف هذا وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير وعلى ما لم يعمل أشياء أحدها الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم وهى جملة منها أن الميت يعذب ببكاء الحي عليه وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له أجرها أو عليه وزرها وأن الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث وأنه ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها وفى القرآن والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم وفى 232 الحديث إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وفى رواية أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه وقيل يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضيه قال تقضه عنها وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم فلا تكون صحيحة والثانى أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها وهى قاعدة الصدقة عن الغير وهى عبادة لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره فإذا تصدق الرجل عن الرجل أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع به ولا سيما إن كان ميتا فهذه عبادة حصلت فيها النيابة ويؤكد ذلك ما كان 233 من الصدقة فرضا كالزكاة فإن اخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير والزكاة أخية الصلاة والثالث أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهى تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه وكذلك الدعاء للغير فإن حقيقتة خضوع لله وتوجه إليه والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الإستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما وقد استغفر النبي لأبويه حتى نزل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وقال في ابن أبي لأستغفرن لك ما أنه عنك حتى نزل استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ونزل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية وإن كان قد نهي عنه فلم ينه عن الإستغفار لمن كان حيا منهم وقال عليه الصلاة 234 والسلام اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وعلى الجملة فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة والرابع أن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات صحيحة وكذلك بعض العبادات البدنية وإن كانت واجبة على الإنسان عينا وكذلك المالية وأولها الجهاد فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل إذا أذن الإمام والجهاد عبادة فإذا جازت النيابة في مثل هذا فلتجز في باقي الأعمال المشروعة لأن الجميع مشروع والخامس أن مآل الأعمال التكليفية أن يجازي عليها وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل خيرا كان الجزاء أو شرا وهو أصل متفق عليه في الجملة وذلك ضربان أحدهما المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه فإنه إن كانت باكتساب كفر بها من سيآته وأخذ بها من أجر غيره وحمل غيره وزره ولم يعمل بذلك فضلا عن أن يجد ألمه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المفلس يوم القيامة وإن كانت بغير اكتساب فهي 235 كفارات فقط أو كفارات وأجور وكما جاء فيمن غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه إنسان أو حيوان أنه له أجر وفيمن ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة أو شرب في نهر أو استن شرفا أو شرفين ولم يرد أن يكون ذلك فهي له حسنات وسائر ما جاء في هذا المعنى والضرب الثاني النيات التي تتجاوز الأعمال كما جاء أن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عن عذر وكذلك سائر الأعمال حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمنى أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان فهما في الأجر سواء وفي الآخر فهما في الوزر سواء وحديث من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة والمسلمان يلتقيان بسيفيهما 236 الحديث إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره فأولى أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل فالجواب أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة النيابة فإن للنظر فيها متسعا أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة فليست من هذا الباب فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية ولا كلام فيها وأما قاعدة الدعاء فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة لأنه شفاعة للغير فليس من هذا الباب وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية فإنها مصالح معقولة المعنى لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه فله أجر ذلك فإن العبادة منه صدرت لا من النائب والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات فهي في الحقيقة معقولة المعنى كسائر فروض الكفايات التي هى مصالح الدنيا لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الآخروي إلا إذا 237 قصد وجه الله تعالى وإعلاء كلمة الله فإن قصد الدنيا فذلك حظه مع أن المصلحة الجهادية قائمة كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد شعبة منها على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد بالجعل لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا فهذا الأصل لا اعتراض به أيضا وأما قاعدة المصائب النازلة فليست من باب النيابة في التعبد وإنما الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك وكون حسنات الظالم تعطي المظلوم أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم فمن باب الغرامات فهي معاوضات لأن الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار إذ لا دينار هناك ولا درهم وقد فات القضاء في الدنيا ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلىالجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى كما أنه لو تمنى أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر كان له وزر من عمل ولا يعد في الدنيا كمن عمل حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة فليست من النيابة في شيء وإن فرضت النيابة فالنائب هو المكتسب فعمله عليه أو له فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال فإنه عمدة من خالف في المسألة 238 فحديث تعذيب الميت ببكاء الحي ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض إذا ظن الموت أهله على البكاء عليه وأما من سن سنة وحديث ابن آدم الأول وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث وما أشبه ذلك فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور لأنه الذي تسبب فيه أولا فعلى جريان سببه تجري المسببات والكفل الراجع إلى المتسبب ناشىء عن عمله لا عن عمل المتسبب الثاني وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم الآية لأن ولده كسب من كسبه فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب وبذلك فسر قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب أن ولده من كسبه فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة وذلك قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة وذلك الصيام والحج وأما النذر فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام والذي يجاب به فيها أمور أحدها أن الأحاديث فيها مضطربة نبه البخاري مذسلم على اضطرابها فانظره في الإكمال وهو مما يضعف الإحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا فكيف إذا عارضته وأيضا فإن الطحاوي قال في حديث من مات وعليه صوم صام عنه وليه إنه لم يرو إلا من طريق عائشة وقد تركته فلم تعمل به وأفتت بخلافه وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر إنه لا يرويه إلا ابن عباس وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد 239 والثاني أن الناس على أقوال في هذه الأحاديث منهم من قبل ما صح منها بإطلاق كأحمد ابن حنبل ومنهممن قبل من قال ببعضها فأجاز ذلك في الحج دون الصيام وهو مذهب الشافعي ومنهم من منع بإطلاق كمالك بن أنس فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف لأنهم تبع ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت وبيع العبد بماله واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية والثالث أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا وذلك أنه قال سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه وقال هذا القائل لا يعمل أحد عن أحد شيئا فإن عمله فهو لنفسه كما قال تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والرابع أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في في تلك الأعمال كما إذا أمر بأن يحج عنه أو أوصى بذلك أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وهو قول بعض العلماء والخامس أن قوله صام عنه وليه محمول على ما تصح فيه النيابة وهو الصدقة مجازا لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضى وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره وذلك في الصيام الإطعام وفي الحج النفقة عمن يحج عنه أو ما أشبه ذلك 240 والسادس أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي فلا يعارض الظن القطع كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة وهذا الوجه هو نكتة الموضع وهو المقصود فيه وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن وبالله التوفيق فصل ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع وهي مسألة هبة الثواب وفيها نظر فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين أحدهما أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص وهو المال وأما في ثواب الأعمال فلا وإذا لم يكن لها دليل فلا يصح القول بها والثاني أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب وقد نطق بذلك القرآن كقوله تعالى تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ثم قال ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وقوله جزاء بما كانوا يعملون ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو كثير وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات كاستباحة الإنتفاع بالمبيع مع عقد البيع واستباحة البضع مع عقد النكاح فلا خيرة للمكلف فيه هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل وإذا كان كذلك اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ولا في يده منه شيء فإذا لا يصح فيه تصرف لأن التصرف من توابع الملك الإختياري وليس في الجزاء ذلك فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك كما لا يصح لغيره وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين 241 أحدهما أن أدلته من الشرع هي الأدلة على حواز الهبة في الأموال وتوابعها إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها وإما بالقياس عليها لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب لا يصح فيها غير ذلك فإذا كان كذلك صح وجود الدليل فلم يبق للمنع وجه والثاني أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب وكالتوابع مع المتبوعات يقضي بصحة الملك لهذا العامل كما يصح في الأمور الدنيوية وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة لا يقال أن الثواب لا يملك كما يملك المال لأنه إما أن يكون في الدار الآخرة فقط وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن لأنا نقول هو وإن لم يملك نفس الجزاء فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى واستقر له ملكا بالتمليك وإن لم يحزه الآن ولا يلزم من الملك الحوز وإذا صح مثل هذا في المال وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها صح فيما نحن فيه فقد يقول القائل ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ويقول إن اشترى لي وكيلي عبدا فهو حر أو هبة لأخي وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك 242 في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله وإن لم يعلم به الموكل فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب والله الموفق للصواب المسألة الثامنة من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها والدليل على ذلك واضح كقوله تعالى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون وقوله يقيمون الصلاة وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة وجاء هذا كله في معرض المدح وهو دليل على قصد الشارع إليه وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وفي الحديث أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل وقال خذوا من العمل ماتطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته وكان عمله ديمة وأيضا فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا فما رعوها حق رعايتها إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والإستمرار 243 فصل فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين أحدهما من جهة شدة التكليف في نفسه بكثرته أو ثقله في نفسه والثاني من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا وحسبك من ذلك الصلاة فإنها من جهة حقيقتها خفيفة فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت والشاهد لذلك قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق والرجاء الذي هو حاد وذلك ما تضمنه قوله الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم الآية فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ولأجل الدخول في الفعل على قصد الإستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ونهى عن التشديد وقد قال عليه الصلاة والسلام إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وقال من يشاد هذا الدين يغلبه وهذا يشمل التشديد بالدوام كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال والأدلة على هذا المعنى كثيرة 244 المسألة التاسعة الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة والدليل على ذلك مع أنه واضح أمور أحدها النصوص المتضافرة كقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا وقوله قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا وقوله عليه الصلاة والسلام بعثت إلى الأحمر والأسود وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره لم يكن مرسلا للناس جميعا إذ يصدق على من لم يكلف 245 بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا وذلك باطل فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن فلا اعتراض به وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع فظاهر الأمر فيه والثاني أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة فلو وضعت على الخصوص لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله كقوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إلى قوله خالصة لك من دون المؤمنين وقوله ترجى من تشاء منهن الآية وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الإختصاص به بالدليل ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام 246 أو غير راجع إليه كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق الجذعة وخصه بذلك قوله ولن تجزىء عن أحد بعدك فهذا لا نظر فيه إذ هو راجع إلى جهة رسول الله ولأجله وقع النص على الإختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الإختصاص والثالث إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولذلك صيروا أفعال رسول الله حجة للجميع في أمثالها وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم إما بالقياس أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي أو غير ذلك من المحاولات بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به وقد قال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج الآية فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة والرابع أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر 247 وهذا باطل فما لزم عنه مثله ولا أعنى بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها من القضاء والإمامة والشهادة والفتيا في النوازل والعرافة والنقابة والكتابة والتعليم للعلوم وغيرها فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها فالتكليف عام لا خاص من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى بناء على منع التكليف بما لا يطاق وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص كمراتب الإيغال في الأعمال ومراتب الإحتياط على الدين وغير ذلك فصل وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة منها أنه يعطى قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله كثيرا ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع فلا يصح 248 مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها وهو معنى القياس وتأيد بعمل الصحابة رضى الله عنهم فانشرح الصدر لقبوله ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله ومنها أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا فقال على مذهبنا أو على مذهبكم ثم قال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبكم فكذا وكذا وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدق بهذا الظاهر مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هى أعلى مما بث في الجمهور ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة وكلا الفريقين في طرف وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق كما تبين آنفا ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة حتى يتبين ذلك والله المستعان ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الإتصاف بطلبها والميل إليها فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها واستجلاب النشاط في الطاعة لا على قصد التلهي 249 وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم إن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم فليعتن به وبالله التوفيق المسألة العاشرة كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله إلا ما خص به كذلك المزايا والمناقب فما من مزية أعطيها رسول الله سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منا أنموذجا فهي عامة كعموم التكاليف بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه وأشركهم معه فيه ثم ذكر من ذلك أمثلة وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء أما أولا فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون ولكن الله من على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام إذ قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله وقال في الأمة لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهذا واضح فلا تطول به وأما ثانيا فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة تقتصر منها على ثلاثين وجها أحدها الصلاة من الله تعالى فقال تعالى في النبى عليه الصلاة والسلام إن الله وملائكته يصلون على النبى الآية وقال في الأمة هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وقال أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة 250 والثاني الإعطاء إلى الإرضاء قال تعالى في النبي ولسوف يعطيك ربك فترضى وقال في الأمة ليدخلنهم مدخلا يرضونه وقال رضي الله عنهم ورضوا عنه والثالث غفران ما تقدم وما تأخر قال تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وفي الأمة ما روى أن الآية لما نزلت قال الصحابة هنيئا مريئا فما لنا فنزل ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم فعم ما تقدم وما تأخر وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وقال في الأمة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم الآية وهو الوجه الرابع والخامس الوحي وهو النبوة قال تعالى إنا أوحينا إليك وسائر ما في هذا المعنى ولا يحتاج إلى شاهد وفي الأمة الرؤيا الصالحة جزء من ستة 251 وأربعين جزءا من النبوة والسادس نزول القرآن على وفق المراد قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة وقال تعالى أيضا ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف فيهن على عدد معلوم وفي الأمة قال عمر وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي بعض نسائه فدخلت عليهم فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن الآية وحديث التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي أن 252 زوجي ظاهر مني وقد طالت صحبتي معه وقد ولدت له أولادا فقال عليه الصلاة والسلام قد حرمت عليه فرفعت رأسها إلى السماء فقالت إلى الله أشكو حاجتي إليه ثم عادت فأجابها ثم ذهبت لتعيد الثالثة فأنزل الله قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية ومن هذا كثير لمن تتبع ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت إذ قالت وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرءي ببرآءتي ولكن الله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها وقال هلال ابن أمية والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد فنزل والذين يرمون أزواجهم الآية وهذا خاص بزمان رسول الله لانقطاع الوحي بانقطاعه والسابع الشفاعة قال تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقد ثبت شفاعة هذه الأمة كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس يشفع في مثل ربيعة ومضر أئمتكم شفعاؤكم وغير ذلك والثامن شرح الصدر قال تعالى ألم نشرح لك صدرك الآية وقال في الأمة أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه والتاسع الإختصاص بالمحبة لأن محمدا حبيب الله ثبت ذلك في الحديث إذ خرج عليه الصلاة والسلام ونفر من أصحابه يتذاكرون فقال بعضهم عجبا 253 إن الله اتخذ من خلقه خليلا وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه الله تكليما وقال آخر فعيسى كلمه الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم وقال قد سمعت كلامكم وعجبكم إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك وموسى نجي الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر وفي الأمة فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك وهو العاشر وأنه أكرم الأولين والآخرين وقد جاء في الأمة كنتم خير أمة أخرجت للناس وهو الحادي عشر والثاني عشر أنه جعل شاهدا على أمته اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام وفي القرآن الكريم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا والثالث عشر خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي وفي حق الأمة كرامات وقد وقع الخلاف هل يصح أن يتحدي الولي 254 بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا وهذا الأصل شاهد له وسيأتي بحول الله وقدرته والرابع عشر الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ففي القرآن ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد وسميت أمته الحمادين الجهادين والخامس عشر العلم مع الأمية قال تعالى هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم وقال فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله الآية وفي الحديث نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب والسادس عشر مناجاة الملائكة ففي النبي ظاهر وقد روى في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا والسابع عشر العفو قبل السؤال قال تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم وفي الأمة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والثامن عشر رفع الذكر قال تعالى ورفعنا لك ذكرك وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان وفي كلمة الأذان فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير وجاء في بعض الأحاديث عن 255 موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم والتاسع عشر أن معاداتهم معاداة لله وموالاتهم موالاة لله قال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله وفي الحديث من آذاني فقد آذى الله وفي الحديث من آذى وليا فقد بارزني بالمحاربة وقال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله وتمام العشرين الاجتباء فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وفي الأمة هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق وقال في الأمة ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا والحادي والعشرون التسليم من الله ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام وقال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم 256 وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة ا اقرأ عليها السلام من ربها ومني والثاني والعشرون التثبيت عند توقع التفلت البشري قال تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وفى الأمة يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة والثالث والعشرون العطاء من غير منة قال تعالى وإن لك لأجرا غير ممنون وقال في الأمة فلهم أجر غير ممنون والرابع والعشرون تيسير القرآن عليهم قال تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم أن علينا بيانه قال ابن عباس علينا أن نجمعه في صدرك ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه على لسانك وفي الأمة ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر والخامس والعشرون جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة إذ يقال في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين 257 والسادس والعشرون أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم والسابع والعشرون أمر الله تعالى بالطاعة لهم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وهم الأمراء والعلماء وفي الحديث من أطاع أميري فقد أطاعني وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله والثامن والعشرون الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان كقوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وفي الأمة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما والتاسع والعشرون العصمة من الضلال بعد الهدى وغير ذلك من 258 وجوه الحفظ العامة فالنبي قد عصمه الله تعالى من ذلك كله وجاء في الأمة لا تجتمع أمتى على ضلالة وجاء احفظ الله يحفظك وفى القرآن لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين تفسيره في قوله لا تجتمع أمتى على ضلالة وفى قوله وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها وتمام الثلاثين إمامة الأنبياء ففى حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء قال وقد رأيتنى في جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم وفى حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان إن إمام 259 هذه الأمة منها وأنه يصلى مؤتما بإمامها ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة والحمد لله على ذلك فصل وهذا الأصل ينبنى عليه قواعد منها أن جميع ما اعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هى مقتبسة من مشكاة نبينا لكن على مقدار الإتباع فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته كيف وهو السراج المنير الذى يستضىء به الجميع والعلم الأعلى الذى به يهتدى في سلوك الطريق ولعل قائلا يقول قد ظهرت على أيدى الأمة أمور لم تظهر على يدى النبي ولا سيما الخواص التى اختص بها بعضهم كفرار الشيطان من ظل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقد نازع النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته الشيطان وقال لعمر ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وجاء في عثمان بن عفان رضى الله عنه أن ملائكة السماء تستحي منه ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي وجاء في أسيد 260 ابن حضير وعباد بن بشر أنهما خرجا من عند رسول الله في ليلة مظلمة فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فافترق النور معهما ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي فيقال كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها فهى أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي فهى كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الإتباع والإقتداء به ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والإستقلال لم تكن المتابعة شرطا فيها ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر 261 ألا ترى أن خاصيته المذكورة هى هروب الشيطان منه وذلك حفظ من الوقوع فىحبائله وحمله إياه على المعاصى وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر وأيضا فإن فرار الشيطان أو بعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة وقد زادت مزية النبي فيه خواص منها أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد ثم تذكر قول سليمان عليه السلام هب لي ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى ولم يقدر عمر على شىء من ذلك ومنها أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع على ذلك من نفسه ومن عمر ولم يطلع عمر على شىء منه ومنها أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه وعمر لم يكن آمنا وإن بعد عنه وأما منقبة عثمان فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي بل نقول هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها وأيضا فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهى شدة حيائه وقد كان النبي أشد الناس حياء وأشد حياء من العذراء في خدرها فإذا كان الحياء أصلها فالنبى عليه الصلاة والسلام هو الذى حواه على الكمال وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء بل 262 كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة فكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهذا أبلغ حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته بعده وفي زمانه فهذا التقرير هو الذي ينبغي الإعتماد عليه والأخذ لهذه الأمور من جهته لاعلى الجملة فربما يقع للناظر فيها ببادىء الرأى إشكال ولا إشكال فيها بحول الله وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية فصل ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته فهي صحيحة وإن لم يكن لها أصل فغير صحيحة وإن ظهر ببادىء الرأى أنها كرامة إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة بل منها ما يكون كذلك ومنها ما لا يكون كذلك وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم والنقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض ليس لها في الصحة مدخل ولا يوجد لها في كرامات النبي منبع لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص فدعاء النبي لم يكن على تلك النسبة ولا تجري فيه تلك الهيئة ولا اعتمد على قران في الكواكب ولا التمس سعودها أو نحوسها بل تحرى مجرد الإعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه معرضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها إذ قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث وإن تحرى 263 وقتا أو دعا إلى تحريه فلسبب برىء من هذا كله كحديث التنزل وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار وأشباه ذلك والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح والتي روعي فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفصل فذلك غير ثابت النقل ولا تجد له أصلا بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي هذا وإن كان الإنفعال الخارق حاصلا به فليس بدليل على الصحة كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك ولا يكون شاهدا على صحته بل هو باطل صرف وتعد محض وهذا الموضع مزلة قدم للعوام ولكثير من الخواص فليتنبه له فصل ومنها أنه لما ثبت أن النبي حذر وبشر وأنذر وندب وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح والكشف الواضح والرؤيا الصالحة كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على طريق من الصواب وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع لكن مع مراعاة شرط ذلك ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران 264 أحدهما أن النبي قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا وتحذيرا وتبشيرا وإرشادا مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الإختصاص به دون غيره ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين وقولهما له نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة وفي رواية فقال رسول الله إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقوله لثعلبة بن حاطبة وسأله الدعاء له بكثرة المال قليل تودي شكره خير من كثير لا تطيقه وقال لأنس اللهم كثر ماله وولده ودل عليه الصلاة الصلاة 265 الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل واحد منهم عملا بالفراسة الصادقة فيهم وقال لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه فأعطاها عليا رضي الله عنه ففتح الله على يديه وقال لعثمان بن عفان إنه لعل الله أن يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه فرتب على الإطلاع الغيبي وصاياه النافعة وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدوأحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع بين يديه صحفه وترفع أخرى ثم قال آخر الحديث وأنتم اليوم خير منكم يومئذ وأخبر بملك معاوية ووصاه وأن عمارا تقتله الفئة الباغية وبأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ثم وصاهم كيف يصنعون وأنهم سيلقون بعده أثرة ثم أمرهم بالصبر إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق والتحذير والتبشير وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى 266 والثانى عمل الصحابة رضى الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي كقول أبي بكر إنما هما أخواك وأختاك وقول عمر يا سارية الجبل فأعمل النصيحة التى أنبأ عنها الكشف ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس وقال أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان فقال مع أيهما كنت قال مع القمر قال كنت مع الآية الممحوة لا تلى عملا أبدا ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور والكلام فيه يحتمل بسطا فلنفرده بالكلام عليه وهى المسألة الحادية عشرة وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه بل هو إما خيال أو وهم وإما من القاء الشيطان وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع وذلك أن التشريع الذى أتى به رسول الله عام لا خاص كما تقدم في المسألة قبل هذا وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذى نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل ومن أمثله ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر فرأى الحاكم في منامه أن النبي قال له لا تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ولا بشارة ولا نذارة لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة وكذلك 267 سائر ما يأتي من هذا النوع وما روى أن أبا بكر رضى الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت فهى قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لإحتمالها فلعل الورثة رضوا بذلك فلا يلزم منها خرم أصل وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس أو أن هذا الشاهد كاذب أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو أو ما أشبه ذلك فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمم ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لزيد على حال فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه وقد جاء في الصحيح إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث فقيد الحكم 268 بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك وقد كان كثير من الأحكام التى تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع لا على وفق ما علم وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التى لا ريبة فيها لا من الخوارق التى تداخلها أمور والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ولذلك لم يعتبره رسول الله وهو الحجة العظمى وحكى ابن العربي عن قاضى القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا قال ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها فإن قيل هذا مشكل من وجهين أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال فرأى بالبادية شجرة تين فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة أن 269 لا تأكل منى فإنى ليهودي وعن عباس ابن المهتدى أنه تزوج امرأة فليلة الدخول وقع عليه ندامة فلما أراد الدنو منها زجر عنها فامتنع وخرج فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها هل هذا المتناول حلال أم لا كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك فيمتنع منه وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضى الله عنه وغيره في قصة الشاه المسمومة وفيه فأكل رسول الله وأكل القوم وقال ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث فبنى رسول الله على ذلك القول وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ وذلك في قصة بقرة بنى إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله فرتب عليه الحكم بالقصاص وفى قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكرامات الأولياء رضى الله عنهم والثانى أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الإجتناب فكذلك ههنا إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين الكشف الغيبي فلا بد أن يبني الحكم على هذا كما يبني على ذلك ومن فرق بينهما فقد أبعد 270 فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا وعملا بما هو مشروع على الجملة وذلك من وجهين أحدهما الإعتبار بما كان من النبي فيه فيلحق به في القياس ما كان في معناه إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع وإنما يختص به من حيث كان معجزا وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناء على ما ثبت عنده من العادات أما قتل الغلام فلا يمكن القول به وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول دمي عند فلان والثاني على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ الجارى عليها العمل بالقياس ولكن أن قدرنا عدمه فنقول إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذى هو الإثم وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر فيدخل فيها هذا النمط وقد قال عليه الصلاة والسلام البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند من 271 فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا ألبتة فهو حكم منسوخ ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال فعمدة الشريعة تدل على خلافة فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا فإن سيد البشر صلى الله عيله وسلم مع إعلامه بالوحي يجرى الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم ولم يكن ذلك بمخرجة عن جريان الظواهر على ما جرت عليه ولا يقال إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفا أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه فالعلة أمر آخر لا ما زعمت فإذا عدم ما علل به فلا حرج لأنا نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعى واليمين على من أنكر ولم يستثن من ذلك أحد حتى إن رسول الله احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه فقال من يشهد لي حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعى واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد فالإعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي 272 الشرعية ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع بل عدوا أنه من الشيطان وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة وما ذكر من تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم كما لو وجد في الفلاة صيدا فقال له إني مملوك وما أشبه ذلك لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك وكذلك سائر ما في هذا الباب أو نقول كان المتناول مباحا له فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر واعتمادا على الشرع في معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ولا أن تعود على شىء منه بالنقض كيف وهى نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو يعود الفرع على أصله بالنقض هذا لا يكون ألبتة وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين إذ قال عليه الصلاة والسلام إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان وإن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان فجاءت به على احدى الصفتين وهى المقتضية للمكروه ومع ذلك فلم يقم الحد عليها وقد جاء في الحديث نفسه لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تغرس به لا حكم له حين شريعة الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها والجواب على السؤال الثانى أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس 273 ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به وأيضا فإن الخوارق إن جاءت تقتضى المخالفة فهى مدخولة قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا غير الموافقة كمن يقال له لا تفعل كذا وهو مأمور شرعا بفعله أو إفعل كذا وهو منهي عنه وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب أو من سلك وحده بدون شيخ ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء فإن قيل هذا يقتضى أن لا يعمل عليها وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها قيل إن المنفى هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية فأما العمل عليها مع الموافقة فليس بمنفى فصل إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التى فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم وذلك على أوجه أحدها أن يكون في أمر مباح كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل وما أشبه ذلك فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضى ذلك لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم والثانى أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها فإن العاقل لا يدخل على نفسه ما لعله يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره والكرامة كما أنها خصوصية كذلك هى فتنة واختبار لينظر كيف تعملون 274 وقد تقدم ذكره فإذا عرضت حاجة أو كان لذلك سبب يقتضيه فلا بأس وقد كان رسول الله يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه يراهم من وراء ظهره لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك وهكذا سائر كراماته ومعجزاته فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ولكنه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ولا يخلو إخباره من فوائد ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به هي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا والثالث أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته فهذا أيضا جائز كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة فله أن يجري بها مجرى الرؤيا كما روى عن أبي جعفر بن تركان قال كنت أجالس الفقراء ففتح على بدينار فأردت أن أدفعه إليهم ثم قلت في نفسى لعلي أحتاج إليه فهاج بي وجع الضرس فقلعت سننا فوجعت الأخرى حتى قلعتها فهتف بي هاتف إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة وعن الروذبارى قال في استقصاء في أمر الطهارة فضاق صدرى ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبى فقلت يارب عفوك فسمعت هاتفا يقول العفو في العلم فزال عنى ذلك وعلى الجملة فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق 275 وهو المطلوب وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر وهى المسألة الثانية عشرة إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم فهى عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد إليها كل ما في الظاهر والدليل على ذلك أشياء منها ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة والثانى أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم أو تقييد إطلاق أو تأويل ظاهر أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكما عليهما وصارت هي محكوما عليها بغيرها وذلك باطل بإتفاق فكذلك ما يلزم عنه والثالث أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالا من أعمال الشيطان كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلى ويدعو ويتضرع وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ثم بدا له وجه كالقمر وقال له تملأ من وجهى يا أبا ميسرة فأنا ربك الأعلى فبصق فيه وقال له اذهب يا لعين عليك لعنة الله وكما يحكى عن عبد القادر الكيلانى أنه عطش عطشا شديدا فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ثم نودي من سحابة يا فلان أنا ربك وقد أحللت 276 لك المحرمات فقال له اذهب يا لعين فاضمحلت السحابة وقيل له بم عرفت أنه إبليس قال بقوله قد أحللت لك المحرمات هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحى إلى رسول الله خديجة بنت خويلد زوجة رضى الله عنها فإنها قالت له أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك قال نعم قالت فإذا جاءك فأخبرنى به فلما جاء أخبرها فقالت قم يابن عم فاجلس على فخدى اليسرى فجلس ثم قالت هل تراه قال نعم ثم حولته إلى فخدها اليمنى ثم إلى حجرها وفى كل ذلك تقول هل تراه فيقول نعم قال الرواي فتحسرت وألقت خمارها والنبي جالس في حجرها ثم قالت هل تراه قال لا وفى رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها فذهب عند ذلك فقالت يا ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان ولا يقال إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي لأنا نقول إن كان كما قلت على فرض تسليمة فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها وشاهد يشهد لها وإذ ذاك يلزم التسلسل وهو محال ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده لأن الآلام واللذات من المواجد التى لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ومذموما إذا كان لغير الله ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي إذ لا يصح أن يقال 277 هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل فمن أين أدرك أنه محمود شرعا فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم لأن البحث جار فيه أيضا وإنما الذى يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها إذ هى مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده فإذا وردت على صاحبها فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ولا يتعلق بها حكم شرعي كذلك في مسألتنا بل أشبه شىء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ويقع منهم الوعد فيؤحذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات فلا يفون ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم وهو داخل عليهم شاءوا أن أبوا فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة وما اعترض به لا اعتراض به فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة لإنسان في كسبها ولا دفعها فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات وقد مر أن الأسباب هى التى خوطب المكلف بها أمرا أونهيا ومسبباتها خلق لله فالخوارق من جملتها وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب لأجل 278 أن عادة الله فىالمسببات أن تكون على وزان الأسباب في الإستقامة والإعوجاج والإعتدال والإنحراف فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها كذلك ما نحن فيه وقد قال تعالى إنما تجزون ما كنتم تعملون وقال هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها وهوعام في الجزاء الدنيوي والأخروي وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات فالموضوع مقطوع به فىالجملة وإذا ثبت هذا فما ظهر فىالخارقة من استقامة أو اعوجاج فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة والنتائج تتبع المقدمات بلا شك فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها فلا تسلم لصاحبها وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه كالشكر ونحوه فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها لا يخرج عن حكمه شىء منها والله أعلم فصل ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة فإن ساغت هناك فهى صحيحة مقبولة في موضعها وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدى الأنبياء عليهم السلام فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا فلا يمكن فيها غير 279 ذلك ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه وقال له ابنه يا أبت أفعل ما تؤمر وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجارى العادات فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا ساغت في نفسها وإلا فلا كالرجل يكاشف بامرآة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وأن لم يكن مقصودا له أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شىء من اعضائها التى لا يسوغ النظر إليها في الحسن أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف وهو يقول أنا ربك أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له أنا ربك أو يرى ويسمع من يقول له قد أحللت لك المحرمات وما أشبه ذلك من الأمور التى لا يقبلها الحكم الشرعي على حال ويقاس على هذا ما سواه وبالله التوفيق المسألة الثالثة عشرة لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين وجب أن ينظر في حكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول الملكف تحت حكم التكليف فمن ذلك أن مجارى العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون وأعنى في الكليات لا في خصوص الجزئيات والدليل على ذلك أمور أحدها أن الشرائع بالاستقراء إنما جىء بها على ذلك ولنعتبر بشريعتنا فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان 280 واحد وعلى مقدار واحد وعلى ترتيب واحد لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهى أفعال المكلفين كذلك وأفعال المكلفين إنما تجرى على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتببه ولو اختلفت العوائد في الموجودات لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب فلا تكون الشريعة على ما هى عليه وذلك باطل والثانى أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كالاخبار عن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال وأن سنة الله لا تبديل لها وأن لا تبديل لخلق الله كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال فإن الخلاف بينهما محال والثالث أنه لولا أن اطراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه لأن الدين لا يعرف إلا عند الإعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الإعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما 281 اطردت في الماضى ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدى لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقة اضطرارا لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدى لكن العلم حاصل فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا وهو المطلوب فإن قيل هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم بل إن كان فمظنون والدليل على ذلك أمران أحدهما أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر والإمداد ممكن أن لا يوجد كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم فكذلك وجوده في الزمان الثانى ممكن وعدمه كذلك فإذا كان كذلك فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده هل هذا إلا عين المحال والثانى أن خوارق العادات في الوجود غير قليل بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدى الأنبياء عليهم السلام من ذلك وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفى الأمم قبلها من العادات والوقوع زائد على مجرد الإمكان فهو أقوى في الدلالة فإذا لا يصح أن يكون مجارى العادات معلومة البتة فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا وإنما اندفع بالسمع القطعي وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة لم يفد حكم الجواز العقلي 282 ولا يقال إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال لأنا نقول إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد وليس كذلك هنا بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه في أصل الإمكان والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع وكم من جائز غير واقع وكذلك نقول العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم ويمكن أن يوجد فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد فواجب وجوده ومحال استمرار عدمه وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ولذلك قالوا من الجائز تنعيم من مات على الكفر وتعذيب من مات على الإسلام ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون وأن المسلمين هم المنعمون فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد كذلك ههنا فالجواز من حيث نفس الجائز والوجوب أو الإمتناع من حيث أمر خارج فلا يتعارضان وعن الثانى أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التى لا تخرم كلية ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا في العمل على مقتضى العادات ألبتة ولولا استقرار العلم بالعادات لما ظهرت الخوارق كما تقدم وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات وأصله للفخر الرازى رحمه الله تعالى فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي أن اقترنت بالتحدى أو ولاية الولي إن لم تقترن أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم فىالماضى 283 والحال غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الإستقبال وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي والعمل بخبر الواحد قطعي والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي إلى أشباه ذلك فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل ظنيا أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا وكذلك سائر المسائل ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية وهذا كله ظاهر المسألة الرابعة عشرة العوائد المستمرة ضربان أحدهما العوائد الشرعية التى أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا أو نهى عنها كراهة أو تحريما أو أذن فيها فعلا وتركا والضرب الثانى هى العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي فأما الأول فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات وطهارة التأهب للمناجاة وستر العورات والنهي عن الطواف بالبيت على العرى وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا حتى يقال مثلا إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو إن كان كشف العورة الآن ليس 284 بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي باطل فرفع العوائد الشرعية باطل وأما الثانى فقد تكون تلك العوائد ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهى أسباب لأحكام تترتب عليها فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام والبطش والمشي وأشباه ذلك وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما والمتبدلة منها ما يكون متبدلا فىالعادة من حسن إلى قبح وبالعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوى المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية فالحكم الشرعي يختلف لإختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة آخرى إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور أو بالنسبة إلى غلبة الإستمعال في بعض المعانى حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما وقد كان يفهم منه قبل ذلك شىء آخر أو كان مشتركا فاختص وما أشبه ذلك والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرا في الإيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحا ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها كما إذا كانت العادة 285 فى النكاح قبض الصداق قبل الدخول أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة أو بالعكس أو إلى أجل كذا دون غيره فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه ومنها ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف كالبلوغ فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الإحتلام أو الحيض أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لدات المرأة أو قراباتها أو نحو ذلك فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الإنتقال ومنها ما يكون في أمور خارقة للعادة كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى كالبائل أوالمتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم فإنه إن لم يصر كذلك فالحكم للعادة العامة وقد يكون الإختلاف من أوجه غير هذه ومع ذلك فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه فصل وأعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة بإختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج فى 286 الشرع إلى مزيد وإنما معنى الإختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ مثلا فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ فإذا بلغ وقع عليه التكليف فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس بإختلاف في الخطاب وإنما وقع الإختلاف في العوائد أو في الشواهد وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا بناء على نسخ تلك العادة ليس بإختلاف في حكم بل الحكم أن الذى ترجح جانبه بمعهود أو أصل فالقول قوله بإطلاق لأنه مدعى عليه وهكذا سائر الأمثلة فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق والله أعلم المسألة الخامسة عشرة العوائد الجارية ضرورية الإعتبار شرعا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعا أمرا أو نهيا أو إذنا أم لا أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك فالعادة جرت بأن الزجر سبب الإنكفاف عن المخالفة كقوله تعالى ولكم في القصاص حياة فلو لم تعتبر العادة شرعا لم ينحتم القصاص ولم يشرع إذ كان يكون شرعا لغير فائدة وذلك مردود بقوله ولكم في القصاص حياة وكذلك البذر سبب لنبات الزرع والنكاح سبب للنسل والتجارة سبب لنماء المال عادة كقوله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم وابتغوا من فضل الله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وما أشبه ذلك مما يدل على 287 وقوع المسببات عن أسبابها دائما فلو لم تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب لكان خلافا للدليل القاطع فكان ما أدى إليه باطلا ووجه ثان وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات فإنه جار ههنا ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع 288 بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح والتشريع دائم كما تقدم فالمصالح كذلك وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع ووجه رابع وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع وذلك أن الخطاب إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف أو لا فإن اعتبر فهو ما أردنا وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر وعلى غير العالم والقادر وعلى من له مانع ومن لا مانع له وذلك عين تكليف ما لا يطاق والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة فصل وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة وإنما ينظر في انخراقها ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي فيخلفها في الموضع حالة إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس أو من غير ذلك فإن كانت منخرقة بعذر فالموضع للرخصة وإن كانت من غير ذلك فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي كما في البائل من جرح صار معتادا فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم وإما إلى غير عادة أو إلى عادة لا تخرم العادة الأولى فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص كالمرض 289 المعتاد والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك وإن انخرقت إلى غير معتاد فهل يكون لها حكمها في نفسها أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ولا بد من تمثيلها أولا ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق فمن ذلك توقف عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه عن إكراه من منع الزكاة وقوله لمن كتب له بذلك دعوه وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره والأب عارف بما يراد من ابنه وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث وحديث أبي زيد مع خديمه لما خضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي فقالا للخديم كل معنا فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر صوم شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو زيد 290 دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة وقطعت يده ومنه دخول البربة بلا راد ودخول الأرض المسبعة وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على مايسوغ شرعا وعند ذلك فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريب من جنس العادي أو لا يكون من جنسه فإن كان الأول لحق بجنس أحكام العادات مثاله الأمر بالإفطار فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه وهم الأكثر فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ومثل هذا مخوف العاقبة لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة لعله كان نوعا من الإجتهاد إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به وكذلك وقع فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله حتى إذا أصر على الإمتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط فلذلك سأله الحجاج عن ابنه والصدق من عزائم العلم وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها بل هو أعظم أجرا كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس 291 الكذب وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين بعد ما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو وقد قيل عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وهو أصل صحيح شرعي ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم فإنه عقد على نفسه أن لايعتمد على غير الله فلم يترخص وهو أصل صحيح ودل على خصوص مسألته قوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه ووكالة الله أعظم من وكالة غيره وقد قال هود عليه الصلاة والسلام فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم الآية ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء لقوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وأيضا فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عيله وسلم على أن لا يسألوا أحدا شيئا فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه فقال أبو حمزة رب إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا قال فخرج حاجا من الشام يريد مكة إلى آخر الحكاية وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه فليس بجار على غير الأصل الشرعي ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال فهذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها فمن كان هذا حاله فالأسباب عنده كعدمها فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ولا رجاء في مرجو مخلوق إذ لا مخوف ولا 292 مرجو إلا الله فليس هذا إلقاء باليد إلى التكهله وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك وإن قارب السبع هلك وأما إذا لم يحصل ذلك فلا على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والإقتيات بالنبات وكل هذا راجع إلى حكم عادي ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم بحيث يرجع إلى الأحكام العادية بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك فصل وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي كالمكاشفة فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس أم يعاملون معاملة أخرى خارحة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس وإن كانت مخالفة في الظاهر لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربى بذلك حتما وقد مر مايستدل به على ذلك ومن الدليل عليه ايضا أوجه أحدها أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها قاعدة ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب ولا عقاب ولا إكرام ولا إهانة ولا حقن دم ولا إهداره ولا إنفاذ حكم من حاكم وما كان هكذا فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح وهو الذي انبنت الشريعة عليه والثاني أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه لأنها 293 مخصوصة بقوم مخصوصين وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم ولا أيضا تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين أعني في نصب أحكام العامة إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه أو السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة ولا أيضا للوليين إذا ترافقا إلى الحاكم في قضية وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال كيف وهم يقولون إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادىء الرأي منه أنه عصيان فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشروع لتطرق الإحتمالات وهذا هو الوجه الثالث والرابع أن أولى الخلق بهذا رسول الله ثم الصحابة رضي الله عنهم ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد إلى غيره وما سوى ذلك فقد أنكر على من قال من له يحل الله لنبيه ما شاء ومن قال إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب وقال إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه ولم يثبت أنه مس بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين وكانت النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها وقد مر من هذا أشياء وهو الذي قعد القواعد ولم يستثن وليا من غيره وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي 294 وأصحاب الخوارق وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان وهم الأولياء حقا والفضلاء صدقا وفي قصة الربيع بيان لهذا حيث قال وليها أو من كان والله لا تكسر ثنيتها والنبي يقول كتاب الله القصاص ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فكان يرجيء الأمر حتى يبرز أثر القسم بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فبين أن ذلك القسم قد أبره الله ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي وهو العفو والعفو منتهض في ظواهر الحكم سببا لإسقاط القصاص والخامس أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات ونقض لمصالحها الموضوعات ألا ترى أن رسول الله قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الإعتبار فقال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فمثله يلغي في جريان أحكام الخوارق على أصحابها حتى لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفيه شريعة أخرى ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى رضي الله عنه فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام 295 خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب أمورا يطلب بالتحرز منها شرعا فلا ينبغى أن يخضوا بزائد على مشروع الجمهور ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالبين فيهم مذهب الإباحة وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم وهذا تعريض لهم إلى سوء المقالة وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا برآء من هذه الطوارق المنخرقة غير أن الكلام جرى إلىالخوض في هذا المعنى فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي المحافظون على اتباعها لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق ولأجله وقع البحث في هذه المسائل حتى يتقرر بحول الله ما يفهم به عنهم مقاصدهم وما توزن به أحوالهم حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى نفعهم الله ونفع بهم ثم نرجع إلى تمام المسألة فنقول وليس الإطلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية والقدوة في ذلك رسول الله ثم ما جرى عليه السلف الصالح وكذلك القول في انخراق العادات لا بنبغى أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما لقوله تعالى والله يعصمك من الناس ولا غاية وراء هذا ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر ويتوقى ما العادة أن يتوقى ولم يكن ذلك نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها بل هى أعلى وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها 296 وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكل ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب ومع ذلك فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التى ندبوا إليها ولم يتركهم النبي مع هذه الحالة التى تسقط حكم الأسباب وتقضى بإنخرام العوائد فدل على أنها العزائم التى جاء الشرع بها لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام قيدها وتوكل وقد كان المكملون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدبا بآداب رسول الله ونظرا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره وأما قصة الخضر عليه السلام وقوله وما فعلته عن أمرى فيظهر به أنه نبي وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال وإن سلم فهى قضية عين ولأمر ما وليست جارية على شرعنا والدليل على ذلك أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم وإن علم أنه طبع كافرا وأنه لا يؤمن أبدا وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وإن أذن له من عالم الغيب في ذلك لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخر لا يعلمها هو فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه بل هو على ضربين أحدهما ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها فهذا لا يصح العمل عليه ألبتة والثانى ما لم يخالف العمل به شيئا من 297 الظواهر أو إن ظهر منه خلاف فيرجع بالنظر الصحيح إليها فهذا يسوغ العمل عليه وقد تقدم بيانه فإذا تقرر هذا الطريق فهو الصواب وعليه يربي المربي وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ وأولى برسوخ القدم وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدى به فيه والله أعلم المسألة السادسة عشرة العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود أحدهما العوائد العامة التى لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال كالأكل والشرب والفرح والحزن والنوم واليقظة والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المولمات والخبائث وما أشبه ذلك والثانى العوائد التى تختلف بإختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيآت اللباس والمسكن واللين في الشدة والشدة فيه والبطء والسرعة في الأمور والأناة والاستعجال وما كان نحو ذلك فأما الأول فيقتضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضى والمستقبل مطلقا كانت العادة وجودية أو شرعية وأما الثانى فلا يصح أن يقضى به عل ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة وكذلك في المستقبل ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية 298 وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الإستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهى العادة التى تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة وأما الضرب الثانى فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية وهى التى يتعلق بها الظن لا العلم فإذا كان كذلك لم يصح أن يحكم بالثانية على من مضى لإحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون لتكون حجة في الآخرين ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها ورد القضاء بالعامة إليها وليس هذا الإستعمال بصحيح بإطلاق ولا فاسد بإطلاق بل الأمر فيه يحتمل الإنقسام كما تقدم وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه هل يلحق بالأول فيكون حجة أم لا فلا يكون حجة المسألة السابعة عشرة المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة 299 أو المفسدة الناشئة عنها وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد بخلاف ما كان راجعا إلى حاجى أو تكميلي فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ولا بحد معلوم يخصه فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري والإستقراء يبين ذلك فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه إلا أن المصالح والمفاسد ضربان أحدهما ما به صلاح العالم أو فساده كإحياء النفس في المصالح وقتلها في المفاسد والثانى ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد وهذا الثانى ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب وكذلك الأول على مراتب أيضا فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ثم النفس ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقى نفسه به وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلاببذل بضعها جاز لها ذلك وهكذا سائرها ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل به على مراتب فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية 300 والمعصية صغيرة من الصغائر وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا كما أن الجزيئات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد بل لكل منها مرتبة تليق بها المسألة الثامنة عشرة الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الإلتفات إلى المعانى وأصل العادات الإلتفات إلى المعاني أما الأول فيدل عليه أمور منها الإستقراء فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيآت مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب وفى هيئة أخرى غير مطلوب وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر وهكذا سائر العبادات 301 كالصوم والحج وغيرهما وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الإنقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه وهذا المقدار لا يعطى علة خاصة يفهم منها حكم خاص إذ لو كان كذلك لم يجد لنا أمر مخصوص بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ولكان المخالف لما حد غير ملوم إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا وليس كذلك باتفاق فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود وأن غيره غير مقصود شرعا والثانى أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلا واضحا كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود إلا أن يتبيى بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور فلا لوم 302 على من اتبعه لكن ذلك قليل فليس بأصل وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع وأيضا فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره والجمع بين الصلاتين وما أشبه ذلك وإلى هذا فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله سها فسجد وقوله لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ونهيه عن الصلاة طرفي النهار وعلل ذلك بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم فى 303 وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها فتجب فيها النية قياسا على التيمم وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع بل هو من المسمى شبها بحيث لا يتفق على القول به القائلون وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجدوا سواه فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة فالركن الوثيق الذى ينبغي الإلتجاء إليه 304 الوقوف عند ما حد دون التعدي إلى غيره لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات فكان أصلا فيها والثالث أو وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها والمشي على غير طريق ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها فافترقنا إلى الشريعة في ذلك ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في عدم اهتدائهم فقال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والحجة ههنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق والله أعلم فإذا ثبت هذا لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع وهو معنى التعبد ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح وهو رأى مالك رحمه الله إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه وركنا يلجأ إليه 305 فصل وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور أولها الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات وقال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب وقال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وفي الحديث لا يقضي القاضي وهو غضبان وقال لا ضرر ولا ضرار وقال القاتل لا يرث 306 ونهى عن بيع الغرر وقال كل مسكر حرام وفي القرآن إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك وقد توسع في 307 هذا القسم مالك رحمه الله حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان ونقل عنه أنه قال إنه تسعة أعشار العلم حسبما يأتي إن شاء الله والثالث أن الإلتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهي الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول وهي كثيرة وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام فصل فإذا تقرر هذا وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص كطلب الصداق في النكاح 308 والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول والفروض المقدرة في المواريث وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها غيرها فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك لتمييز النكاح عن السفاح وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ولكنها أمور جملية كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات وهذا المقدار لا يقضى بصحة القياس على الأصل فيها بحيث يقال إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ولا ما أشبه ذلك فإن قيل وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا فالجواب أن يقال أمور التعبدات فعلتها المطلوبة مجرد الإنقياد من غير زيادة ولا نقصان ولذلك لما سئلت عائشة رضى الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة قالت للسائلة أحرورية أنت إنكار عليها أن يسئل عن مثل هذا إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ثم قالت كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وهذ يرجح التعبد على التعليل بالمشقة وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع هى السنة يا ابن أخي وهو كثير ومعنى هذا التعليل أن لا علة وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا فلها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه 309 المصالح إذ لو ترك الناس والنظر لا تنشر ولم ينضبط وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي والضبط أقرب إلى الإنقياد ما وجد إليه سبيل فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة وأسبابا معلومة لا تتعدى كالثمانين في القذف والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان وخص قطع اليد بالكوع وفى النصاب المعين وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة وكذلك الأشهر والقروء في العدد والنصاب والحول في الزكوات وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين وهو المعبر عنه بالسرائر كالطهارة للصلاة والصوم والحيض والطهر وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع لكن له نظران نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه كما في مذهب مالك مثلا مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه ونظر من جهة أن له ظوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه وقد فهم من الشرع الإلتفات إلى كليه فليجر بحسب الإمكان في مظانه وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهى عنه والتوسل بها إليه وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح فلا بد من اعتباره ومن الناس من توسط بنظر ثالث فخص هذا المختلف فيه 310 بالظاهر فسلط الحكام على ما اطعلوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته المسألة التاسعة عشرة كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه أحدها أن معنى الإقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو 311 مكلف عرف المعنى الذى لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم فإنه عبد مكلف فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء بخلاف المصلحة فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين وإذا كان كذلك فالتعبد لازم لا خيرة فيه واعتبار المصلحة فيه الخيرة وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا وإذا وقع الأمر والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا فإنه محال فالتعبد بالإقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح وأيضا فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقلبين فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هى علة الأمر بالعقل يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض فالأمران على مذهبهم لا زمان ولا يقول أحد منهم إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد والثانى أنا إذا فهمنا بالإقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ولم نعلم حصر المصلحة والحكم يمقتضاها في ذلك الذى ظهر وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا إذ هو قطع على غيب بلا دليل وذلك غير جائز فقد بقي لنا إمكان 312 حكمة أخرى شرع لها الحكم فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد فإن قيل لو جاز ذلك لم نقض بالتعدى على حال فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التى جهلناها وإن وجدت فيه العلة التى علمناها فإذا أمكن ذلك لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد لأن القياس قد صح 313 كونه دليلا شرعيا ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ولم نكلف أن ننفي ما عداها فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية أو صالح لكونه علة كاف في تعدي الحكم به وأيضا فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل وجميعها معلوم فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر فإذا ثبت هذا لم يبق للسؤال مورد فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ولا علينا والوجه الثالث أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين أحدهما ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول إن شرعية الأحكام لأجله والثاني مالا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ولا يطلع عليه إلا بالوحي كالأحكام التي أخبر 314 الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو وقذف الرعب والقحط وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة ألبتة لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل وإذ ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان والرابع أن السائل إذا قال للحاكم لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان فأجاب بأني نهيت عن ذلك كان مصيبا كما أنه إذا قال لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم كان مصيبا أيضا والأول جواب التعبد المحض والثاني جواب الالتفات إلى المعنى وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما جاز القصد إلى التعبد وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد فلما صح القصد مطلقا صح المقصود له مطلقا وذلك جهة التعبد وهو المطلوب 315 والخامس أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة وإلا فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق لله خاصة وهو راجع إلى التعبد وما هو حق للعبد ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقا لله كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ولايقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة وإن كانت براءة رحمها حقا له وما أشبه ذلك من 316 المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم فقد صار إذا كل تكليف حقا لله فإن ما هو لله فهو لله وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء إن النهي يقتضى الفساد بإطلاق علمت مفسدة النهي أم لا انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا وقوفا مع نهى الناهي لأنه حقه والإنتهاء هو القصد الشرعي في النهي فإذا لم يحصل فالعمل باطل بإطلاق فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد وإذا لم يخل فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ومنها ما لا يصح إلا بنية وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله كالزكاة والزبائح والصيد والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها وكذلك التروك إذا تركت بنية وهذا متفق عليه ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق لما حصل الثواب فيها أصلا لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها والمأمور به متقرب إلى الله به وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة وكل عبادة مفتقرة إلى نية فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرةإلى نية فإن قيل إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب لا من كونها طاعة متقربا بها قيل هذا غير صحيح إذ لو كان كذلك لصح الثواب بدون النية لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية 317 وأيضا فلو حصل الثواب بغير نية لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها وليس كذلك بإتفاق وإن حصل حق العبد فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة وهو دليل سادس في المسألة فإن قيل فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية وأن لا يصح عمل من لم ينو أو يكون عاصيا قيل قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة فما كان المغلب فيه التعبد فمسلم ذلك فيه وما غلب فيه جهة العبد فحق العبد يحصل بغير نية فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله فإن راعى جهة الأمر فهو من تلك الجهة عبادة فلا بد فيه من نية أى لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم أو أقرض بقصد دنيوي وكذلك البيع والشراء والأكل والشرب والنكاح والطلاق وغيرها ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يثابرون على إحضار النيات في الأعمال ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم فصل ويتبين بهذا أمور منها أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا فليس كذلك 318 بإطلاق بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ولذلك قال في الحديث حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم وعادتهم في تفسير حق الله أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف كان له معنى معقول أو غير معقول وحق العبد ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا فإن كان من المصالح الأخروية فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ومعنى التعبد عندهم أنه مالا يعقل معناه على الخصوص وأصل العبادات راجعة إلى حق الله وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد فصل والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام أحدها ما هو حق لله خالصا كالعبادات وأصله التعبد كما تقدم فإذا طابق الفعل الأمر صح وإلا فلا والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى فإذا وقع طابق قصد الشارع أو لا خالف وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل وأيضا فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع 319 فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه وعدم تحقق البراءة موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق لا بفعل غير مطابق والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهى عنه إما بناء على أن النهي يقتضى الفساد بإطلاق وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهى عنه غير مطابق لقصد الشارع إما بأصله كزيادة صلاة سادسة أو ترك الصلاة وإما بوصفه كقراءة القرآن في الركوع والسجود والصلاة في الأوقات المكروهة إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ولأمر به أو أذن فيه فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهى عنه بعد الوقوع أو المأمور به من غير المطابق فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الإنفكاك وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح فيجرى على حكمه وقد مر أن هذا قليل وأن التعبد هو العمدة والثانى ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد والمغلب فيه حق الله وحكمه راجع إلى الأول لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا فهو كغير المعتبر إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر والفرض خلافة كقتل النفس إذ ليس للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها فإذا رأيت من يصحح المنهى أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع فذلك للأمور الثلاثة الأول 320 ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب والثالث ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب وأصله معقولية المعنى فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له وإن وقعت المخالفة فهنا نظر أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ أو لا فإن فرض غير حاصل فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل وإن حصل ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر أو غير السبب المخالف صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري لأن النهي لأجل فوت العتق فإذا حصل فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق الغير إذا أسقط ذو الحق حقه لأن النهي قد فرضناه لحق العبد فإذا رضي بإسقاطه فله ذلك وأمثلة هذا القسم كثيرة فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع فذلك لأحد الأمور الثلاثة 321 المسألة العشرون لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى حسبما بين لنا الكتاب والسنة اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ألا ترى إلى قوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وقوله وهو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وقال فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون وقوله فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون وقال لئن شكرتم لأزيدنكم الآية والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم وهو راجع إلى الإنصراف إليه بالكلية ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الإستطاعة في كل حال وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 322 ويستوى في هذا ما كان من العبادات أو العادات أما العبادات فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة فهي مصروفة إليه وأما العادات فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات فقد قال تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية فنهى عن التحريم وجعله تعديا على حق الله تعالى ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام من رغب عن سنتي فليس مني وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وقوله وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم الآية فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها منها مجرد التحريم وهو المقصود ههنا وأيضا ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ولا خيرة فيه للعبد فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير حتى يسقط حقه بإختياره في بعض الجزئيات لا في الأمر الكلي ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف فإذا العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين أحدهما من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات والثاني من جهة الوضع التفصيلي 323 الذي يقتضيه العدل بين الخلق وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة فصار الجميع ثلاثة أقسام وفيها أيضا حق للعبد من وجهين أحدهما جهة الدار الآخرة وهو كونه مجازى عليه بالنعيم موقى بسببه عذاب الجحيم والثاني جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا لكن بحسبه في خاصة نفسه كما قال تعالى قل هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة وبالله التوفيق القسم الثاني من الكتاب فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف وفيه مسائل المسألة الأولى أن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر 324 ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ويقصد به شيء آخر فلا يكون كذلك بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون وقد قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فاعبد الله مخلصا له الدين إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقال ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا بعد قوله فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلى قوله إلا أن تتقوا منهم تقاة وفي الحديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى إلى آخره وقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله 325 وفيه أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي وتصديقه قول الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وأباح عليه الصلاة والسلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو يصد له وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه لا يقال إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال والدليل على ذلك أشياء منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه وهو لم ينو ذلك فيلزم أن أن لا يصح وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ويتسلسل أو يكون الإكراه عبثا 326 وكلاهما محال أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب ومنها أن الأعمال ضربان عادات وعبادات فأما العادات فقد قال الفقهاء إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء وكذلك الصوم والزكاة وهي عبادات وألزموا الهازل العتق والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة وفي الحديث ثلاث جدهن وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة وفي حديث آخر من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر أن 327 صومه صحيح ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة وأصل مسألة الرفض مختلف فيها فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الإمتثال عقلا وهو النظر الأول المفضى إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به فإن قصد الإمتثال فيه محال حسبما قرره العلماء فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية وإذ ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا لأنا نجيب عن ذلك بأمرين أحدهما أن نقول إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار وهنا يصح أن يقال إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به إمتثال أمر الشارع أولا وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية وعليه يدل ما تقدم من الأدلة فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا فلو فرضنا العمل مع عدم الإختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة فليس هذا النمط بمقصود للشارع فبقي ما كان مفعولا بالإختيار لا بد فيه من القصد وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين فإنه 328 إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالإعتبار وعدمه وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة وإن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا وكذلك ما في معناه والضرب الثانى ليس من ضرورة كل فعل وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هى تعبديات فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الإختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شىء إلا النظر الأول لعدم إمكانه لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة بناء على منع التكليف بما لا يطاق أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال في صحته لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل فإنه محال فصار في عداد ما لا قدرة عليه فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا والثانى من وجهى الجواب بالكلام على تفاصيل ما اعترض به فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدى الغصاب وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزىء 329 فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوى القربة كالإكراه على الصلاة لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد فلم يطلبوا بالشق عن القلوب وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الإمتثال وإلا كانت باطلة وبيان بطلانها في كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى فالطهارة والزكاة من ذلك وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه قصد سواه ولهذا نظائر في العاديات كنكاح الشغار فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه 330 وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات وإما قاصد أن لا يقع وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل وهو الإباحة أو غيرها وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله أو يقال إنه قاصد بالعقد الذى هو جد شرعي اللعب فناقض مقصود الشارع فبطل حكم الهزل فيه فصار إلى الجد ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة فالنية الأولى مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي وهو لم يكن فصح الصوم ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية 331 الأولى فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنقل لغوا لم يصادف محلا وعلى هذا السبيل تجرى مسألة الرفض وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال وقد تقدم بيانه في الوجه الأول وبالله التوفيق المسألة الثانية قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة إذ قد مر أنها موضوعة لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجرى على ذلك في أفعاله وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة هذا محصول العبادة فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته ومقدار وسعه وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه وإليه يرجع قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة وقوله ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وهو الذى جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم 332 فيما آتاكم والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال الأمير راع والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه يجري أحكامه ومقاصده مجاريها وهذا بين فصل وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب إذ مر هنالك خمسة أوجه منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتي يتبين له ما أراد إن شاء الله 333 المسألة الثالثة كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل أما أن العمل المناقض باطل فظاهر فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها فالدليل عليه أوجه أحدها أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أوتروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح فإذا جاء الشارع بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهي عنه رحمة بالعباد فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع 334 وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا وذلك مضادة للشريعة ظاهره والثاني أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن وهذه مضادة أيضا والثالث أن الله تعالى يقول ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية وقال عمر بن عبد العزيز سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصير والأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة والرابع أن الآخذ بالمشروع لم حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به والخامس أن الملكف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها 335 في الأمر والنهي فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة بل قصد قصد آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه والسادس أن هذا القاصد مستهزىء بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها ولا تتخذوا آيات الله هزوا والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجله ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهره والأدلة على هذا المعنى كثيرة وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح والذبح لغير الله والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرآة ينكحها والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا والسلف ليجربه نفعا والوصية بقصد المضارة للورثة ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها وما أشبه ذلك 336 وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء منها ما تقدم في المسألة الأولى كنكاح الهازل وطلاقه وما ذكر معهما فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما وقد تقدم جوابه ومن ذلك المكره بباطل فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حاله الإختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه إلى مسائل من هذا النحو ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا غير ذلك مقصود به خلاف ما قصده الشارع مع أنها عند القائل بها صحيحة ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بإنعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ثم يصححه لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شىء فكيف يقال إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع هل هذا إلا عين المحال وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصد في استجلاب المصالح ودرء المفاسد بل الشريعة لهذا وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة 337 الكفر خوف القتل أو التعذيب وفى سائر المصالح العامة والخاصة إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة وهو الذى يتفق عليه جيمع أهل الإسلام ويقع الإختلاف في المسائل التى تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى المسألة الرابعة فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أوتركه موافقا أو مخالفا وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته فالجميع أربعة أقسام أحدها أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها يقصد بها امتثال الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه وكذلك ترى الزنى والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال فلا إشكال في صحة هذا العمل والثانى أن يكون مخالفا وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك فهذا أيضا طاهر الحكم والثالث أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده المخالفة وهو ضربان أحدهما أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا والآخر أن يعلم بذلك فالأول كواطىء زوجته ظانا أنها أجنبيه وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرىء منها في نفس الأمر فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ويحكى الأصوليون في هذا النحو الإتفاق على العصيان في مسألة من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة 338 فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطىء زوجته لم يختلط نسب من خلق من مائة ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطىء معرة وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة فإن قيل فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان في حقه لكنه عاص بإتفاق هذا خلف وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر فكان يجب الحد على الواطىء والزجر على الشارب وشبه ذلك لكنه غير واجب باتفاق أيضا هذا خلف فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي فهو عاص في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي كالغاصب لما يظن أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد 339 ولا يقال إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره لأن المتوقع من ذلك غير موجود فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده خاصة لأنا نقول لا يصح ذلك لأن العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر وهما مظنتان للإختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى فالله هو خالق الولد من الماء والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد تعاطيا السبب على كماله فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم وأما الإثم فعلى وفق ذلك وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ههنا والثانى أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ومثاله أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك فهذا القسم أشد من الذي قبله وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التى جعلت مقاصد وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا فلا يصح جملة وقد قال الله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقد تقدم بيان هذا المعنى 340 والقسم الرابع أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا فهو أيضا ضربان أحدهما أن يكون مع العلم بالمخالفة والآخر أن يكون مع الجهل بذلك فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الإبتداع كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة والموضع مستغن عن إيراده ههنا وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء وقوله وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وفى الحديث كل بدعة ضلالة وهذا المعنى في لأحاديث كالمتواتر فإن قيل إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة والمذموم منها بإطلاق هو المحرم وأما المكروه فهو الذم فيه بإطلاق وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه والمباح حسن باعتبار فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على 341 المصحف العثماني والتجميع في قيام رمضان في المسجد وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على حسنها أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخله تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة خلاف المدعى فالجواب أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفيه قال عليه الصلاة والسلام لا تماروا في القرآن فإن المرآء فيه كفر فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد فلم يكن فيها مخالفة وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة وهو باطل باتفاق لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين 342 وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا كيف وهو يقول ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع فقد خرج هذا الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان أحدهما كون القصد موافقا فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ونية هذا العامل على الموافقة لكن الجهل أوقعه في المخالفة ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق والثاني كون العمل مخالفا فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجه ولا طابق القصد العمل فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا فلا يحصل الامتثال 343 وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا الحل غامضا في الشريعة ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الإمتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد عارضك أن قصد الموافقة مقيد الإمتثال المشروع لا بمخالفته وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا فهو كالعبث وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الإنفراد فإن قلت إن المقاصد قد ثبت قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت في شرع بعد قيل لك إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها 344 التعبد فإن قلت بإعتبار القصد كيف كان لزم ذلك في الأعمال وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح فإن قيل قوله عليه الصلاة والسلام إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال وإن خالفت قد تعتبر فإن المقاصد أرواح الأعمال فقد صار العمل ذا روح على الجملة وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل أو خالفا معا فإنه جسد بلا روح فلا يصدق عليه مقتضى قوله الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل قيل إن سلم فمعارض بقوله عليه الصلاة والسلام كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره عليه الصلاة والسلام فلم يكن معتبرا بل كان مردودا وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة فهي في حكم العدم فبقيت النية منفردة في حكم عملي فلا اعتبار بها وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من 345 العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ومال فريق إلى الفساد بإطلاق وأبطلوا كل عبادة أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور أحدها أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ومخالفة الفعل لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل وعدم الإعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافى فيه 346 فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها فقد فاتت بمقتضى فتوى عمر ومعاوية والحسن وروى مثله عن علي رضى الله عنهم ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها والثاني أولى بعد دخوله بها وفيما بعد العقد وقبل البناء قولان وفى الحديث إيما أمرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل باطل باطل فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها وعلى هذا يجري باب السهو في الصلاة وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها والثاني أن عمدة مذهب مالك بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال أو الأقوال 347 جهلا على حكم الناسى ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ومن وافقه وليس الأمر كذلك فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات وكذلك في كثير من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة وغيرها ولا يقال إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد لأنا نقول الحكم في التضمين في الأموال آخر لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها والثالث الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وفي الحديث قال قد فعلت وقال لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي الحديث رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح فإذا كان كذلك ظهر أن كل واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك والله أعلم 348 المسألة الخامسة جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين أحدهما أن لا يلزم عنه إضرار الغير والثاني أن يلزم عنه ذلك وهذا الثاني ضربان أحدهما أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير والثاني أن لا يقصد إضرارا بأحد وهو قسمان أحدهما أن يكون الاضرار عاما كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره والثاني أن يكون خاصا وهو نوعان أحدهما أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر والثاني أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع أحدهما ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك والثاني ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا وما أشبه ذلك والثالث ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا وهو على وجهين أحدهما أن يكون غالبا كبيع السلاح 349 من أهل الحرب والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك والثاني أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء وأما الثاني فلا إشكال منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة وهو جارعلى مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أولا فإن كان كذلك فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير فحق الجالب أو الدافع مقدم وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال إن هذا تكليف بما لا يطاق فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار وهو داخل تحت الكسب لا ينفى الإضرار بعينه وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أولا فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي 350 فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة وقد زادوا في مسجد رسول الله من غيره مما رضي أهله ومالا لا وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين نظر من جهة إثبات الحظوظ ونظر من جهة اسقاطها فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من 351 ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه وذلك لا يلزمه بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به وقد سئل الداودي هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل قال نعم ولا يحل له إلا ذلك قيل له فإن وضعه السلطان على أهل بلدة وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم قال ذلك له قال ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحدالخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء قال ولست آخذ في هذا بما روى عن سحنون لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق هذا ما قال ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال 352 قلت لحماد بن أبي سليمان إنى أتكلم فترفع عني النوبة فإذا رفعت عنى وضعت على غيري فقال إنما عليك أن تكلم في نفسك فإذا رفعت عنك فلا تبالي على من وضعت ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولما نعى الحاج حتى يؤدوا خراجا كل ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر أو قتل الكافر المسلم بل قال عليه الصلاة والسلام وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث ولازم ذلك دخول قاتله النار وقول أحد إبني آدم إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك بل العقوبات كلها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى وقد تقدم الكلام على هذا قبل فإن قيل هذا يشكل في كثير من المسائل فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار وما تقدم واقع فيه الضرر فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى اضرار المضطر وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لا ضرار الغير وما أشبه ذلك فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ودفع الدافع وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك 353 والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار وكيف ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ألا ترى أنه إذا قصد الجالب أو الدافع الإضرار أثم وإن كان محتاجا إلى ما فعل فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار بل عن الإضرار نهى وهو الإضرار بصاحب اليد والملك وأما مسألة المضطر فهي شاهد لنا لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه وهو عين مسألة النزاع وإنما يكره على البذل من لا يستنضر به فافهمه وأما المحتكر فإنه خاطىء بإحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة هذا كله مع اعتبار الحظوظ وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان أحدهما إسقاط الإستبداد والدخول في المواساة على سواء وهو محمود جدا وقد فعل ذلك في زمان رسول الله وقال عليه الصلاة والسلام إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الإحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الإنفراد بالقوت دون أولاده فعلى هذا الترتيب كان 354 الأشعريون رضي الله عنهم فقال عليه الصلاة والسلام فهم مني وأنا منهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته وفي مسلم عن أبي سعيد قال بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله من كان معه فضل ظهرفليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل وفي الحديث أيضا أن في المال حقا سوى الزكاة ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أن أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقتضى استدادا وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وقوله المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقوله المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا 355 عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن إعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها والوجه الثاني الإيثار على النفس وهو أعرق في إسقاط الحظوظ وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين وإصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال وهو ثابت من فعل رسول الله ومن خلقه المرضى وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وقالت له خديجة إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه فكره النبي ذلك فقال رجل منالأنصار يارسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا فتبسم النبي وعرف البشر في وجهه وقال بهذا أمرت ذكره الترمذي وقال أنس كان النبي لا يدخر شيئا لغد وهذا كثير وهكذا كان الصحابة وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وما جاء في الصحيح في قوله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وما روى عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ 356 وهو ضربان إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المواخاه المذكور في الصحيح وإيثار النفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي يوم أحد وكان النبي يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم نحرى دون نحرك ووقى بيده رسول الله فشلت وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عرى والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا وهذا فعل من آثر بنفسه وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله إذ عزم الكفار على قتله مشهور وفى المثل السائر والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ويدل على ذلك قول امرآة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فآثرته بالبراءة على نفسها قال النووي أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات فإن الحق فيها لله وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون بإختلاف أحوالهم في الإتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام وقد ورد أن النبي قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر هذا ما قال وتحصل أن الإيثار هنا مبنى على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي فإن أخل بمقصد شرعي 357 فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر آخر أو لغير شىء فكونه لغير شىء عبث لا يقع من العقلاء وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ هذا تمام الكلام في القسم الرابع ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ وأما القسم الخامس وهو أن لا يلحق الجالب أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين إما تقصير في النظر المأمور به وذلك ممنوع وإما 358 قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ويضمن ضمان المتعدى على الجملة وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدى وعلى هذه القاعدة تجرى مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة وما لحق بهما من المسائل التى هى في أصلها مأذون فيها ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي صحيحا ويكون عاصيا بالطرف الآخر وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ومن قال هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة وأما السادس وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندور في انخرامها إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري 359 الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترف ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة وكذلك إعمال خبر الواحد والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب وأما السابع وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما وإن كان التخلف نادرا ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور 360 أحدها أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا والثانى أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم فإنهم قالوا لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك فنزلت وفى الصحيح إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه وكان عليه الصلاة والسلام يكف عن قتل المنافقين لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي راعنا مع قصدهم الحسن لإتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه عليه الصلاة والسلام وذلك كثير كله مبنى على حكم أصله وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه والثالث أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهى عنه والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه فإن حمل محمل التعدى فمن جهة أنه مظنه للتقصير وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه 361 هل تقوم مظنة الشىء مقام نفس القصد إلى ذلك الشىء أم لا هذا نظر إثبات الحظوظ وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس فإنه لا قدرة للإنسان على الإنفكاك عنه عادة وأما الثامن وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر وإلتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه لأنه من الأمور الباطنة لكن له مجال هنا وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنة ذلك فكما اعتبرت المظنة وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة لأنها مجال القصد ولهذا أصل وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم 362 وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر فإنه مشروع للزجر والإزدجار به كثير لا غالب فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه كما أن الأصل في مسألتنا الإذن فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر وخرج على الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الخليطين وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الإنتباذ في الأوعية التى لا يعلم بتخمير النبيذ فيها وبين عليه الصلاة والسلام أنه إنما نهى عن بعض 363 ذلك لئلا يتخذ ذريعة فقال لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعنى أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة وإن كثر وقوعها وحرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية وأن تسافر مع غير ذي محرم ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقال إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى 364 ذلك أدنى أن لا تعولوا وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعى النكاح وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم ونهي عن البيع والسلف وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين وحرم صوم يوم عيد الفطر وندب إلى تعجيل الفطر وتأخير السحور إلى غير ذلك مما هو ذريعة وفى القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الإحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل فليس العمل عليه ببدع في الشريعة بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري أو حاجي أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الإجتهاد إن شاء الله تعالى المسألة السادسة كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الإختيار والدليل على ذلك أوجه أحدها أن المصالح إما دينية أخروية وإما دنيوية أما الدينية فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد وإنما النظر في الدنيوية التى تصح النيابة فيها فإذا فرضنا أنه مكلف بها فقد تعينت عليه وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا 365 والثانى أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا الملكف ولا كان مطلوبا بها ألبتة لأن المقصود حصول المصلحة أو درء المفسدة وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين هذا خلف لا يصح والثالث أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين وإما على الكفاية وعلى كل تقدير فغير صحيح أما كونه على التعيين فكما تقدم وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة وهو محال اللهم إلا أن تلحقه ضرورة فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون وغسل الموتى ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم وما أشبه ذلك من المصالح التى لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التى لا يقدر على استدفاعها فعلى هذا يقال كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الإستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء الآية 366 المسألة السابعة كل مكلف بمصالح غيره فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أولا أعنى المصالح الدنيوية المحتاج إليها فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجيمع وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصله من جهة هذا المكلف فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح لأنه طلب تحصيل الحاصل وهو محال وأيضا فما تقدم في المسألة قبلها جار هنا ومثال ذلك السيد والزوج والولد بالنسبة إلى الأمة أو العبد والزوجة والأولاد فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح في هذا التقرير وإن لم يقدر على ذلك ألبتة أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة أو عامة فإن كانت خاصة سقطت وكانت مصالحه هى المقدمة لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم في القسم الرابع من المسألة الخامسة فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه 367 على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها وذلك أنه إما أن يقال للمكلف لا بد لك من القيام بما يخصك وما يعم غيرك أو بما يخصك فقط أو بما يعم غيرك فقط والأول لايصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا والثانى أيضا لا يصح لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع في المسألة وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة فذلك واجب عليهم وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة وهو باطل بما تقدم من الأدلة وإذا وجب عليهم تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة وهو الثالث من الأقسام المفروضة فصل إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا الملكف ذلك الوجه بعينه 368 ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم وضرر على المقوم لهم أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعيينوا في القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول وقالت جماعة إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك وأصله قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة وما ذاك إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب هذا وجه ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز بإتفاق للقاضى ولا لسائر الحكام أن يأخذوا من الخصمين أو من أحدهما أجرة على فصل الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها عليه الصلاة والسلام من الغلول الذى هو كبيرة من كبائر الذنوب وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت أو في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التى ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب أو على الأموال هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التى طلب ذلك المكلف بإقامتها إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق وإحقاق الباطل وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى وما أسألكم عليه من أجر قل ما سألتكم 369 من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إلى سائر ما في هذا المعنى وبالوجه الآخرعلل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين وهذا كله في غاية الظهور والله أعلم فصل هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره فهي مسألة الترس وما أشبهها فيجرى فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة العامة ويدل عليه أمران أحدهما قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها فمثل هذا داخل تحت حكمها والثاني ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله بنفسه وقوله نحري دون نحرك ووقايته 370 له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله وإيثار النبي غيره على نفسه في مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر لأنه كان كالجنة للمسلمين وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله وهو النبي وأما عدمه فتعم مفسدته الدين وأهله وإلى هذا النحو مال أبو الحسن النوري حين تقدم إلى السياف وقال أوثر أصحابي بحياة ساعة في القصة المشهورة وإن كانت آخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا أو لا فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا لأن الحرج وتكليف ما لا يطاق مرفوع ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كما لا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات كالخطرات في ذلك الشغل العام 371 تخطر على قلبه وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه وينظر فيها بحكم الغلبة وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش وهو في الصلاة ومن نحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام إني لأسمع بكاء الصبي الحديث وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب وحب الرياسة وكذلك السلطان أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة فالقول هنا بتقديم العموم أولى لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه أو ما يشق عليه والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات لأنها مجرد ترك والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله والأفعال إنما يلزمه منها الواجب وهو يسير فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر لأنه أمر قد تعين عليه فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت 372 عليه الصلاة أو الجهاد عينا أو الزكاة فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب وما أشبه ذلك وإن فرض أنه يقع به بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع فإن قيل كيف هذا وقد علم أنه لا يسلم من ذلك فصار كالمتسبب لنفسه في الهلكة فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه فالجواب أنه لو كان كذلك وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات وذلك باطل بإتفاق نعم قد يقال إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم أو غضب أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف وإنما حاصل هذا أنه وقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته وهو على تلك الحال وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض وقد يرجح جانب المصلحة العامة وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء فلا ينحتم عليه طلب وبين من له قوة في إقامة المصلحة وغناء ليس لغيره وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة فما رجح منها غلب وإن استويا كان محل إشكال وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية فصل وقد تكون المفسدة مما يلغي مثلها في جانب عظم المصلحة وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فنا خسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر ابن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة فلما وصل كتابه إليهما قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه هؤلاء قوم كفر فسقة لأن الديلم 373 كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ولبس غرض الملك من هذا إلا أن يقال أن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ولو كان خالصا لله لنهضت قال القاضي ابن الطيب فقلت لهم كذا قال المحاسب وفلان ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج فقال الشيخ إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج إلى آخر الحكاية فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد فلا يكون لها اعتبار وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله المسألة الثامنة التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال أحدها أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه وإنما هي تابعة لمقصود التعبد فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي إذ يقل في كلام الشارع 374 أن يقول مثلا لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم فإذا لم يثبت الحصر أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره والثانى أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه أو لم يطلع عليه وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد والقصد إليه في التعبد فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق أو الوجاهة عنده أو نيل شيء من الدنيا أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر وقد يعمل هنالك لمجرد حظه فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد والثالث أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبيا إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر وأيضا فإنه لما امتثل الأمر فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها بعض المصالح دون بعض وأما كونه أسلم فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد بل لا يدخل عليه 375 في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ومصالحهم وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام وبالله التوفيق المسألة التاسعة كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت أو صلاة من الصلوات المفروضات أو زكاة أو صوما أو حجا أو غير ذلك لم يكن له ذلك وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها وكذلك لو حاول استحلال مأكول حى مثلا من غير ذكاة أو إباحة ما حرم 376 الشارع من ذلك أو استحلال نكاح بغير ولى أو صداق أو الربا أو سائر البيوع الفاسدة أو إسقاط حد الزنى أو الخمر أو الحرابة أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك لم يصح شيء منه وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أولا فإن قلت لا وهو الفقه كان نقضا لما أصلت لأنه حقه فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في اسقاطه والفقه يقتضى أن ليس له ذلك وإن قلت نعم خالفت الشرع إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله فقد قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ثم توعد عليه وقال لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة وحجر على مبذر المال ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذى به يحصل ما طلب به من القيام بما كلف به فلا يصح للعبد إسقاطه اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشىء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد إذ إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى ولمن صبر وغفر 377 إن ذلك لمن عزم الأمور وقال فمن عفا وأصلح فأجره على الله وذلك أن القصاص والدية إنما هى جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده فإن حق الله قد فات ولا جبر له وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات وأما المال فجار على ذلك الأسلوب فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه وقد قال تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا وكذلك سائر ما كان من هذا الباب وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة فإن قيل فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به فلا شىء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضى أن ليس للعبد اسقاطه فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل وقد 378 تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق فأما ما هو لله صرفا فلا مقال فيه للعبد وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الإختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جه أنه مستقل بالإختيار وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق فله إسقاطها وله الإعتياض منها والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله وما هو حق للعباد وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله المسألة العاشرة التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل 379 مشتمل على مقدمتين إحداهما قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر والأخرى جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا وهو محل يجب الإعتناء به وقبل النظر في الصحة أو عدمها لا بد من شرح هذا الإحتيال وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج وأشباه ذلك وحرم الزنى والربا والقتل ونحوها وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك وكتحريم المطلقة والإنتفاع بالمغصوب أو المسروق وما أشبه ذلك فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها وزعم أنها ماتت فقضى عليه بقيمتها فوطئها بذلك أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح وحفر البئر ونحو ذلك وكالفرار من وجوب الزكاة 380 بهبة المال أو إتلافه أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام وإسقاط الواجب ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج أو الضرة لتحرم عليه أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع المسألة الحادية عشرة الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة لكن في خصوصات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع فمن الكتاب ما وصف الله به المنفاقين في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر إلى آخر الآيات فذمهم وتوعدهم وشنع عليهم وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم وأموالهم لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار وتصديق قلبي وبهذا المعنى كانوا في الدرك الاسفل من النار وقيل فيهم إنهم يخادعون الله والذين آمنوا وقالوا عن أنفسهم إنما نحن مستهزئون لأنهم تحيلوا بملابسة الدين وأهله إلى أغراضهم الفاسدة وقال تعالى في المرائين بأعمالهم كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب الآية وقال 381 والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وقال يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا فذم وتوعد لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه وقال تعالى في أصحاب الجنة إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله فأصبحت كالصريم لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصد الصرام في غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم وقال ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت الآية وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره وقال تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله ولا تتخذوا آيات الله هزوا وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة 382 وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها وقد جاء في قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا إصلاحا إلى قوله الطلاق مرتان إن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضى عدتها ثم يطلقها ثم يرتجعها كذلك قصد فنزلت الطلاق مرتان ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدى منه وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله وقال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار يعنى بالورثة بأن يوصى بأكثر من الثلث أو يوصى لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة وقال تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى ومن الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الإحتيال لإسقاط الواجب أو تقليله وقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل وقال من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار وقال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها 383 وباعوها وأكلوا أثمانها وقال ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ويروى موقوفا على ابن عباس ومرفوعا يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنى بالنكاح والربا بالبيع وقال إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم وقال لعن الله المحلل والمحلل له وقال لعن الله الراشي والمرتشي ونهى عن هدية المديان فقال إذا أقرض 384 أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك وقال القاتل لا يرث وجعل هدايا الأمراء غلولا ونهى عن البيع والسلف وقالت عائشة أبلغنى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين 385 المسألة الثانية عشرة لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخر هى معانيها وهى المصالح التى شرعت لأجلها فالذى عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والإنقياد فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه وماله لا لغير ذلك أو المصلى رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شىء لأن المصلحة التى شرع لأجلها لم تحصل بل المقصود به ضد تلك المصلحة وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ومصلحة إرفاق المساكين وإحياء النفوس المعرضه للتلف فمن وهب في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هى الهبة التى ندب الشرع إليها لأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له وتوسيع عليه غنيا كان أو فقيرا 386 وجلب لمودته وموآلفته وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها وبين زوجها وهو التسريح بإحسان وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مالا فإذا أضر بها لتفتدي منه فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله لأنه فداء مضطر وإن كان جائزا لها من جهة الإضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع وكذلك نقول إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته وأما الكلية فهى أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع وقد مر بيان هذا فيما تقدم فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها 387 هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى فىمتابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه وأمثال ذلك كثيرة فصل فإذا ثبت لهذا فالحيل التى تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا وناقض مصلحة شرعية فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع بإعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هى باطلة ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام أحدها لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين والثانى لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الإعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية بإتفاق إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلا ومن هنا جاء في ذم النفاق وأهله ما جاء وهكذا سائر ما يجرى مجراه وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع 388 وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثانى ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف مصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه فصار هذا القسم هذا الوجه متنازعا فيه شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز أو مخالف فالتحيل ممنوع ولا يصح أن يقال إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع بل إنما أجازه بناء على تحري قصده وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذى علم قصد الشارع إليه لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى وعلماء الدين نفعنا الله بهم كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها وبالله التوفيق فمن ذلك نكاح المحلل فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فقد نكحت المرأة هذا المحلل فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثانى موافقا ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هى أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية وقوله عليه الصلاة والسلام لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني ذوق العسيلة وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه عليه الصلاة والسلام ولأن كونه حيلة لا يمنعها وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق فإذا ثبت هذا وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع 389 وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق وهو كنكاح النصارى وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة فهي طالق على رأي مالك فيهما وفي نكاح المسافر وغير ذلك هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال بجواز الاحتيال هنا وأما تقرير الدليل على المنع فأظهر فلا نطول بذكره وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة فإليك النظر فيه ومن ذلك مسائل بيوع الآجال فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل لكن بعقدين كل واحد منهما مقصود في نفسه وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد وإنما مقصوده الثاني فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل وهذا منها فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل بل هنا ما يدل على صحة التسول في مسالتنا وصحة قصد الشارع إليه في 390 قوله عليه الصلاة والسلام بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد وعاقدين إذ لم يفصل النبي عليه الصلاة والسلام وقول القائل إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا فإن الذرائع على ثلاثة أقسام منها ما يسد باتفاق كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه وحفر الأبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده بل كسائر التجارات فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها ومنها ما هو مختلف فيه ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله إذ كتب 391 الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب وكذلك كتب الشافعية وغيرهم من أهل المذاهب ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الإعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما فصل هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله فإن للقائل أن يقول إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له والجواب أن النظر ههنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام أحدها أن يقال إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال وإما مع القول بمنع وجوب مراعة المصالح وإن وقعت 392 في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام أو غير معروف ألبتة ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا وهو رأي الظاهريه الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على اطلاقه كما قالوا والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان الأول دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها وإنما المقصود أمر آخر وراءه ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول وهو الضرب الثاني بأن يقال إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الاطلاق فإن خالف النص المعنى النظري اطرح وقدم المعنى النظري وهو إما بناء 393 على وجوب مراعاة المصالح على الاطلاق أو عدم الوجوب لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية وهو رأي المتعمقين في القياس المقدمين له على النصوص وهذا في طرف آخر من القسم الأول والثالث أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الإعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع فنقول وبالله التوفيق إنه يعرف من جهات إحداها مجرد الأمر والنهي الإبتدائي التصريحي فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح وهو الأصل الشرعي وإنما قيد بالإبتدائي تحرزا من الأمر أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهى عن الربى والزنى مثلا بل لأجل تعطيل السعي عند الإشتغال به وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في الدار المغصوبة وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح 394 به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء فإن النهي والأمر ههنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر أو النهي المصرح به فأما إن قيل بالنفي فلأمر أوضح في عدم القصد وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي والثانية اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ولماذا نهي عن هذا الآخر والعلة إما ان تكون معلومة أولا فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الإنتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الإزدجار وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه ومن التسبب أو عدمه وإن كانت غير معلومة فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر أحدهما أن لا نتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أولا لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل 395 والثاني أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ووضع له مسلكا ومسالك العلة معروفة وقد خبر بها محل الحكم فلم توجد له علة يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ويمكن أن لا يكون مقصودا له والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ويحكم به علما أو ظنا بأنه غير مقصود له إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ثم يطلع بعد على دليل ينسخ حزمه إلى خلافه فإن قيل فهما مسلكان متعارضان لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه وهما في النظر سواء فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما فلا يبقى إلا التوقف وحده فكيف يتجهان معا فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين أو مجتهد واحد في وقتين أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ومسلك النفي في 396 مسألة أخرى فلا تعارض على الإطلاق وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق وفي رفع الأحداث النية وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ومسلك التوقف متمكن في العادات وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات وقد ظهر ظهرشيء فيجري الباقي عليه وهي طريقة الحنفية والتعبدات في باب العادات وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما تقدم وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة مثال ذلك النكاح فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ويليه طلب السكن والإزدواج والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو 397 قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح فمنه منصوص عليه أو مشار إليه ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقرىء من ذلك المنصوص وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ومقو لحكمته ومستدع لطلبه وإدامته ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روى من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ومواصلة أرفع البيوتات وما أشبه ذلك فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ وأن قصد التسبب له حسن وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك 398 وهكذا العبادات فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول وباعثة عليه ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام بل هو مقو للترك ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه فإن بعد عليه تركه قال الله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله وإن كان مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي من الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد يحصل له حفظ الدم والمال ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع فإن قيل هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفي فيها بكونها لا تقتضي الموافقة وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا فلا يصح لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ونكاح القاصد لمضارة الزوجة أو لأخذ مالها أو ليوقع بها وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي 399 المخالفة عينا إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح أو الحكم على الزوج أو زوال ذلك الخاطر السببي وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا فلا يصح أن يتعبد الله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر وكذلك لايصح له أن يتزوج بذلك القصد وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة وكنكاح التحليل عند من يصححه فإن هنا وجهين من النظر فإن القصد وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة فمن ترجح عنده جانب عدم الموافقة منع ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه وهر في البقاء أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق فمن اعتبر هذا المقدار منع ومن لم يعتبره أجاز فصل وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا أما في العادات فهو ظاهر وقد مر منه أمثلة وأما في العبادات فقد ثبت فيها فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه وتذكير النفس بالذكر له قال تعالى وأقم الصلاة لذكرى وقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وفي الحديث إن المصلي يناجي ربه 400 ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا في الخبر أرحنا بها يا بلال وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة وطلب الرزق بها قال الله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وفي الحديث تفسير هذا المعنى وانجاح الحاجات كصلاة الإستخارة وصلاة الحاجة وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي الفائدة العامة الخاصة وكون المصلى في خفارة الله في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ونيل أشرف المنازل قال تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فأعطى بقيام الليل المقام المحمود وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة في الحديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج ثم قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال الصيام جنة وقال ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها وسواها وهي تابعة فينظر فيها بحسب 401 التقسيم المتقدم فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام أو الخاص وضده كطلب المال والجاه فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي بل هو على خلاف ذلك والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام وسائر ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ وينبغي تحقيق النظر فيها وفي الثاني المقتضى لعدم التأكد وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا وما لا يقتضيه عينا وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع وحلي يحليه بها وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء فقد مر الكلام عليه ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد أو يعظم أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم وأيضا فإن عمله على غير أصالة إذ لا إخلاص فيه فهو عبث وإن فرض خالصا لله لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله بل هو مقو لترك الإخلاص اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسال من الله العطاء ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس فلا إشكال في صحة هذا فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ومقو له وأصله قول الله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها وروى عن النبي صلى الله علية وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى 402 فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه وعدم من يقوم ذلك المقام فلا بأس به عندهما لأنه قائم بما أمر به وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد ثبوت العدالة عند الناس أو الإمامة أو نحو ذلك فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية أو العلم أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ودليل الجواز قوله تعالى واجعلنا للمتقين إماما وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وانظر في مسألة العتبية فأرى أن اختلاف مالك وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة وخوارق العادات ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز وسائغ لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية وأن يكون من خواص الله ومن المصطفين من الناس وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق وقد يقال 403 إنه خارج عن نمط ما تقدم فإنه تخرص على علم الغيب ويزيد بإنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين وقد روى أن بعض الناس سمع بحديث من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله وهكذا يجري الحكم في سائر المعان المذكورة ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور الأمور بل ثم ما يدل على خلاف ذلك فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي فقال ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ثم يصير إلى حالته الأولى فنزلت يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه 404 ولا يقال إن المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ومن جملتها العوالم الروحانية وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى لأنا نقول إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات وما في عالم الشهادة كاف وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرنى كيف تحيى الموتى الآية فإن الجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية والعبادة إنما القصد بها التوجه لله وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد فكيف يجعلان مثلين أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ما أبعد ما بينهما لمن تأمل والثاني انه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها 405 في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات وأذل المخلوقات وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء افلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت إلى آخرها أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى تمام الآيات ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها وعلى ذواتها وحقائقها فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب والثالث أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي فإن الإعتناء بطلب تجريد النفس والإطلاع على العوالم التى وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التى لم تنقل في الشريعة ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى 406 والرابع أن طلب الإطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات كطلب الإطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد وخراسان وأقصى بلاد الصين فكذلك لا ينبغى مثله في الإطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات والخامس أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ومقصودة وإنما هى ابتلاءات يبتلي الله بها عبادة لينظر كيف يعملون فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء وبين مفسدة ما يتعرض صاحبها كانت جهة العوارض أرجح فيصير طلبها مرجوحا ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم بداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدم وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ونحوها مما يقتضى وضعها الإخلاص التام فلا يليق به طلب الحظوظ فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها وهذا لا يوجد وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه فسار كالمسافر ليري البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية فإن قيل فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ فقال ترك المعاصى ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة وأن الخير لا يأتى إلا بالخير كما في الحديث كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا فإن قلت لا كان على خلاف هذه القاعدة وإن قلت نعم خالفت ما أصلت 407 فالجواب أن هذا نمط آخر وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذى يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذى يثاب عليه أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه وقد قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وقال وتعاونوا على البر والتقوى الآية ومسألة الحفظ من هذا وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ومعينا على أصل العبادة وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ وما لا فلا وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام أحدها ما يقتضى تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها وحصول الرغبة فيها فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح والثانى ما يقتضى زوالها عينا فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا فلا يصح التسبب بإطلاق والثالث ما لا يقتضى تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضى رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح في العادات دون العبادات أما عدم صحته في العبادات فظاهر وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب 408 ويحتمل الخلاف فإنه قد يقال إذا كان لا يقتضى تأكيد المقصد الأصلي وقصد الشارع التأكيد فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع فلا يصح وقد يقال هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه وإنما قصد في التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب فلذلك شرع في النكاح الطلاق وفى البيع الإقالة وفى القصاص العفو وأباح العزل وإن ظهر لبادىء الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ومثله ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الإحتيال بالتسبب 409 على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا في أصل التسب وأما إذا أمكن أن لا ينخرم أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من وجه فهو محل اجتهاد ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين أحدهما أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالتوازل التى حدثت بعد رسول الله فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك 410 مما لم يجر ذكر في زمن رسول الله ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل والثاني أن يسكت عنه وموجبه المقتضى له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا فقال لا يفعل ليس هذا مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم أسمع له خلافا فقيل له إنما نسئلك لنعلم رأيك فنرد ذلك به فقال نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني قد فتح على رسول الله وعلى المسلمين بعده 411 أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا إذا جاءك مثل هذا مما قد كان لناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم في شيء فعليك بذلك لأنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه هذا تمام الرواية وقد احتوت على فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله أو ترك ما أذن في فعله أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه أو ترك ما أذن في فعله أو أمر خارج عن ذلك فالأول كسجود الشكر عن مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله والدعاء بهيئة الإجتماع في أديار الصلوات والإجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات والثانى كالصيام مع ترك الكلام ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة والثالث كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين وأما الضربان الأولان وهما في الحقيقة فعل أو ترك لما سكت الشارع عن فعله أو تركه فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع أو أنهما مما يخالف المشروع وهما 412 لم يتواردا مع المشروع على محل واحد بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال أما القصد فمسلم بالفرض وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشىء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر بل حيققته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضى مخالفة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص 413 وتقرير الجواب ما ذكره مالك وأن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى للفعل أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان وهو غاية في هذا المعنى قال ابن رشد الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعنى سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبي ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه قال واستدلاله على أن رسول الله لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ قال وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق 414 وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه عليه الصلاة والسلام المعنى المقتضى للتخفيف والترخيص للزوجين باجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها ودل على ان وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل تم الجزء الثاني