انتقل إلى المحتوى

مفيد العلوم ومبيد الهموم/كتاب الغرائب/الباب الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثاني في حقيقة العقل

وهي مسئلة عظيم خطبها مهيب شأنها وكثر القال والقيل فيها وفيها أغلوطات ومعارضات من المخالفين حتى قال بعض الملحدين أن العقول متفاوتة مختلفة وقالوا العقلاء بخاصية العقل عرفوا الأشياء والأنبياء بخاصية العقل وصلوا إلى المعجزات ولبسوا على العوام وقالوا نحن إنما قلنا العقول متفاوتة تعظيمًا للأنبياء فإنه كيف يجوز أن يقال أن عقل الأنبياء مثل عقل العوام والاساكفة والحاكة ولولا أن العقول متفاوتة لما ورد الخبر بانقسام العقول وإذا كانت متفاوتة فاستواء الكل في التكليف يكون ظلمًا عظيمًا فإن البهيمة التي تقدر أن تحمل مائة منّ فلو حملتها مائتين يكون ظلمًا عظيمًا ومقصودهم أن يخرجوا الناس عن دين الله فيقولون أن العقل لا يحصل به معرفة والامام المعصوم لم يخرج بعد فافعل ما شئت ويفتحون على الناس باب الإباحة وهذه مسئلة سأل بعض تلامذتنا الامام محيي الدين يحيى السلماسي فتحير فيها وما نبس بشيء فيها فأقول والحق يشهد له بالعقول يا مخاذيل عن صبوح يرفعون بنيتم قصرًا وخربتم مصرًا العقول نوع علم ضروري لا يتجزئ ولا يتبعض ولا يوصف بالزيادة والنقصان ولكن أنتم عميان وعن الحجة عارون ودعواكم فيها زور وبهتان وأكثر المحققين ما وضعوا للعقل حدًا لأن الشيء إنما يحد لخفائه واستتاره حتى يظهر ويتبين وأمّا إذا كان الشيء ظاهرًا جليًا منكشفًا يعرفه العقلاء فلا يحتاج إلى حد.

وهبني قلت هذا الصبح ليل
أيعمى العالمون عن الضياء

وضعفاء الناس ومساكين الكلاب أنما أتوا بالفرق من قلة الفهم بين العقل والعلم فنحن نذكر أنواع العلوم حتى ينكشف لأهل البصائر حدّ العقل فليعلم ان العلوم ثلاثة أنواع: النوع الأول علم ضروري يحصل للعاقل من غير كسب ونظر ولا يقدر على دفعه عن نفسه لا بالنفي ولا بالاثبات وسمي ضروريًا لاشتماله على نوع من الضرر كعلم الانسان بوجود نفسه وعلمه ان الاثنين أكثر من الواحد والثاني البديهي كعلم الانسان والثالث علم الاستدلال لا يحصل إلا بالتكسب والتذكر وهو علم النظر فإذا ثبتت هذه القاعدة فاعلم أن لعقل نوع من العلم الضروري وما ذكرناه يعرف به جواز الجائزات واستحالة المستحيلات ويعرف به وجوب واجبات العقل أن الصنع لا بد له من صانع والكتاب لا بد له من كاتب ودليل العقل يدل على المعقول لذاته وصفاته فكل عاقل يعلم من نفسه أن الصنع لا بد له من صانع والبناء لا بد له من بان وأن الاثنين أكثر من الواحد وأن شخصًا واحدًا لا يكون في مكانين في حالة واحدة سواء كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلًا والعقل معنى واحد في الآدمي ومع وجود ذلك المعنى يقدر على النظر والاستدلال ولا يجوز أن يوصف المعنى الواحد بالزيادة والنقصان لأن العرض الواحد لا يتجزئ ولا يتبعض ووراء ذلك أوصاف أخر لا تتعلق بالعقل وتشتبه على الناس مثل البلادة والكياسة والتجربة والاستعمال فهذه لا تعقل لها بالعقل بل يرجع إلى دوام التجربة لأن العقل في حصول العلم به مثل آلة والعمل بذلك الآلة هو التجربة والنظر في وجوه الدليل وهذا يتعلق بكسب الآدمي فهذه متفاوتة جدًا فعرفت أن أصل العقل لا يتفاوت وأوصاف أخر يطلق عليها اسم العقل مجازًا واستعارة ذلك تتفاوت ويخرج عن هذه القاعدة جميع أسئلة الخصم أن عقل الملك والرسول مستويان متماثلان وتفاوت العقول يرجع إلى التجربة والاستعمال ولذلك تأول الخبر خلق الله العقل ألف جزء يعني استعمال العقل فأحدهم يكون دراكًا فطنًا وآخر يكون صلدا بليدًا ففي هذا يتفاوتون قوله الأنبياء عرفوا بخاصية عقولهم معجزات قلنا يا ملاحدة قد بينا أن العقل لا يتفاوت وإن سلمنا جدلًا فلم يكن رجل منذ خمسمائة وأربعين سنة يعرف خاصية سلك المعجزة فيدعيها مع كثرة عددكم وشدة وثوبكم على أبطال الحجج فإن اليونانيين يقولون النبوة طريقها الرياضة والكسب فلم يكن أحد راض نفسه وهذبها وزكاها حتى بلغ منتهاها قاتلهم الله أنى يؤفكون فحجتنا القرآن فهلموا فعارضوا القرآن يا أخابث بني الزمان ولا يقدرون على ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.