مجلة المقتبس/العدد 93/علم الماني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 93/علم الماني

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1914



رأينا في العهد الأخير حركة مباركةً نحو العمران في هذه الدّيار فقد فتحت في دمشق وبيروت وحلب والقدس ويافا وحمص وحماه وطرابلس وغيرها شوارع وجادات واستجدّت الهمّة لتغيير صورة المدن القبيحة بصورٍ جميلةٍ من الطّرز الجديد في البناء وشعر القوم وولاة امرهم بأنّ الطّرز العتيق في الأبنية ينبو عنه النظر ولا يسدّ الحاجة المطلوبة في البناء ولا ينمّ عن ذوقٍ بحيث أصبحت مدننا بعد ضياع فن الهندسة منها عبارةً عن قرى حقيرة واكنها واستعيض عن الحجر والآجرّ بالطين واللبن مما يسّع إليه البلا والحريق

والشرّ الأعظم في تراجع العمران في هذه البلدان عدم الاحتفال بفن هندسة البناءأو علم المباني فأصبح كلّ امرئٍ وما يختاره من البناء يبني على ذوقه بحيث لا تكاد تجد في أكثر المدن الداخلية أبنية من القرن الثاني عشر والثالث عشر هجرية إلا كئيبةً ينفر منها الذّوق وتتجافى عنها العين ولاتقوم بما تقوم به المباني في البلاد الممدّنة من الاقتصاد في النّفقة والرّاحة للسّاكن وجمال الدّاخل والخارج ولا ينافي ذلك كون بعض الدّور الجميلة داخل البلاد ولاسّما في دمشق جميلةٌ مزخرفةٌ تتوسطها أحواض الماء الدّافق وتعرّش على حوائطها النباتات والزهور وقد جعلت طابقين طابق أسفل للصيف وطابق أعلى للشتاء فإن هذه الدور قليلة العدد لاتكاد تجد في الحيّ الواحد داراً أو دارين منها أما الحوانيت والمخازن فالجيّد منها أقل من القليل.

علم البناء هو علم إنشاء المباني على نسبةٍ معيّنةٍ وبحسب قواعد مقررة يجب أن يكون كلّ بناءٍ نافعاً من وجوهٍ فإن الحاجات المادية والإلهامات الروحية وطمأنينة المرء تملي على المهندس مجموع الخطة أو التّصميم الذي يطلب منه وتقسيم داخل البناء واتّساعه وغناه أوفقره ومن أجل ذلك انقسمت المصانع المعاهد كما قال الإفرنج منذ القدم حتّى زماننا إلى ثلاثة تقسيماتٍ كبرى وهي الهندسة الدينية والهندسة المدنية والهندسة الحربية.

كانت مصر وآسيا مهد علم المباني وأجمع الباحثون أن أهرام منفيس أقدم المصانع التي عرفناها وأبا الهول المنحوت في الصخر في الجيزة القائم تحت رجليه معبدٌ من الصوان والرّخام الأبيض لا يتأتى فصله عن الأهرام ولم تعرف المسلات في مصر إلا على عهد الدولة الثانية عشرة من دول ألفراعنة وارتقت الهندسة المصرية زيادةً عن ذي قبل على عهد الدولة التاسعة عشرة والدولة العشرين.

ظهرت الهندسة في بابل ونينوى في بناء السدود والأسوار أولاً وحازت حدائق سميراميس ومعبد بعل شهرةً مستفيضةً وبحقٍ ما اشتهرت ولم يقض على بنيانها ويدخل البلاد إلى تضاعيفها إلا ما جعل فيها من القرميد. وكان للمعادن شأنٌ عظيمٌ في معاهد الفينيقيين واليهود وكانت الهندسة الهندية تتمثل في معابد الهند ومدافنها وبيوت أصنامها. وعُرفت أثينا بأنها مهد الانقلاب الهندسي في العالم فبلغت فيها الهندسة في عهد بركليس وفيدياس أرقى درجاتها وتمثل الذوق اليوناني في المعابد أكثر من أي شيء وأثّر في هندسة الغرب حق التأثير.

وتفنن الرومان في البناء وخلّفوا في كل مكانٍ امتدّ سلطانهم عليه من آثار الهندسة في الطرق والمجاري والأسوار والمسارح والحمامات ما شهد لهم باتساع ألفكر والهندسة العملية والمتانة في العمل. ولما انتشر الدين المسيحي واعتُبر ديناً لإمبراطورية الرومان على عهد قسطنطين أخذ المسيحيون يبنون معابدهم على مثال معابد الوثنيين مع تزيين ظواهر البناء وتضاف إليها أبراجٌ وقبابٌ للأجراس. وتفنن البيزنطيون بالنقوش في البناء ويدخل فيها الرّخام والمعادن والفسيفساء وكنيسة آياصوفيا في الأستانة وهي أجمل مثالٍ من هندسة الكنائس في القرن السادس.

قال العارفون من ألفرنجة: لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار مماجعل لجوامعهم وقصورهم بهجةً لا يبلى على الدّهر جديدها ودلت كل الدلالة على إيغالهم بالنقوش والزينة كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماشٌ من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها.

جاء القرن الثاني عشر في أوروبا وهندسة البناء تنتقل من طورٍ إلى طور حتى إذا كان القرن الخامس عشر كانت إيطاليا بفضل نهضتها صاحبة المقام الأول في الهندسة وعن هندسة معاهدها ودورها نقل لفرنسيس والإسبان ولإنكليز والألمان والسويسريون. ومن أمم أوروبا من أضاعت أصولها القديمة في البناء واتخذت من أصول الطليان نموذجاً حسناً سارت عليه كما لا تزال الأمم تتخذ من طرز الهندسة العربية الأندلسية نموذجاتٍ إلى هذا العهد ومنها محطة السكة الحجازية الحديثة في دمشق وهي أبدع بنايةٍ حديثةٍ في هذه الحاضرة ولو سار الناس على نموذجٍ معيّنٍ في البناء لكانت مصانعنا ودورنا جميلةً كمصانع الإفرنج وبيوتهم ولم يوفّق في ذلك بعض الشّيء إلا أصحاب البيوت المحدثة في بيروت ولبنان والقاهرة والإسكندريّة والأستانة وسلانيك وغيرها من الساحل. ولو تطلّعنا إلى الصين لرأيناها منحطّةً في هندستها ومثلها اليابان تأثرت في هندستها القديمة بجوارها الصّين ولكنّ بناياتها الحديثة حسنةٌ كالهندسة الأوروبية

قال مهندسٌ مصريٌّ: إنّ ما تفهمه العامّة في المدن الصّغرى من أنه لا فرق بين المهندس المعماريّ والبنّاء وكثيرٌ من البنّائين الذين عندهم بعض الذّكاء والمعرفة يقومون بكثيرٍ من الأعمال ليس على حقيقته. فالمباني ليست بهذه السهولة التي اختبروها. نعم إنّ كلّ إنسانٍ قادرٌ على أن يفصّل منزله الذي يرغب في سكناه ويتخيّله ولكنّه لا يدري كيف يجعل شكل واجهته جميلاً فمنهم من يفتكر أنّ حسن المباني بكثرة الزّخرف فيملؤها به فتظهر كشكولاً قبيحاً من الأشكال المتنافرة تدلّ على خفّة واضعها. ومنهم من لا يفكّر في ذلك مطلقاً إلا بعد تمام بنائه فلا يدري كيف يفعل إذ يظهر له كثيرٌ من العيوب وللمطّلع أن يردد طرفه في شوارع القاهرة فيرى ما يدهشه من مثل هذه المباني فإذا زار القاهرة أحد المهندسين الغرباء لأول مرّةٍ فإنه يدهش كثيراً إذ كان يتخيّل قبل رؤيتها مدينةً شرقيّةً جميلةً من الطراز العربيّ التركيِّ وألفرعوني فإذا به يرى خليطاً مدهشاً من المباني لا يدري كيف يعبّرعنه فإذا دقّق النظر في كلّ بناءٍ على حدته وجد اختلافاً عظيماً بينها فبعضها مصنوعٌ على أتمّ ما يكون وهو القليل وبعضها مضحكٌ بل منفّر لا يقدر محبُّ ألفنون الجميلة أن يطيل النظر إليه إلى غير ذلك من مختلف الأشكال والألوان فإذا فحصها لا يرى في ترتيبها ونظامها مشابهةً مطلقاً فيعرف بذلك أن لا قوميّة لهذه البلاد ولا ارتباط ف أذواق أهلها

وقد يلاحظ أيضاً في بعض العمارات أنّ أصحابها ليست فيهم القدرة على بنائها فلذلك حذفوا كثيراً مما كان متمماً لها ابتغاء الإقتصاد ولا يهمهم إلا أن تكون لهم عماراتٌ كبيرةٌ من غير أن يلتفتوا إلى جودة أدواتها ودقّة صنعها ومنهم من يريد أن يجعل مبانيه في غاية المتانة والإتقان فيكثر في الإنفاق عليها دون فائدةٍ وفي كلتا الحالتين تظهر مبانيهم في غاية القبح يظهر أنّ كثيراً منهم ينقصهم المنطق والانتقاد بل ويزيد فيهم الإهمال والتهون والجهل فإنّ بعضهم يأخذ عمله عن رسومٍ إفرنجية ويريد أن يعمل على شكلها ويحب انيتفلسف فيها فيحذف المهم ويضيف ما يرى انه حسنٌ فيظهر عمله مشوّهٌ وهو يظنّ أنه جاء بما لم يأتِ به الأولون

علم لامباني فنٌّ من ألفنون الجميلة بل هو أحسنها فإذا قارنّا بينه وبين الموسيقى نجد أنّ كليهما مطربٌ للإنسان فالأول مكوّنٌ من نغماتٍ غير متنافرةٍ منتظمة الأوقات والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء

يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب به الإنسان ويظهر الثاني الظلّ والضوء واللوان فتراها العين في أتمّ ما يكون موضوعةً بنسبٍ محفوظةٍ ما بين مزخرفٍ وبسيطٍ تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس فكلا ألفنّين جميلٌ غير أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا بشعر بها وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظلٌّ

لا يحتاج الموسيقار في تركيب دور الموسيقى إلا لمعرفته النغمات والأزمان وانطباقها على معنىً ما يلحّنه من فرحٍ وطربٍ ولوعةٍ وحزنٍ ولكن في عمل البناء صعوباتٌ جمٌّة من بين فحص الأدوات المختلفة ووضعها وعمل حساب أثقالها ومقاومتها وجمعها وعلى ذلك فإنّ فنّ البناء هو أصعب ألفنون الجميلة وأحسنها وهو في الحقيقة أول شيءٍ يبحث عنه في كلِّ فنٍّ وهوجوابٌ لهذا السؤال الخطيرأوجد لي محلاًّ جميلاً يليق بفنّي أو عملي وأنت ترى تقدّميفيجب والحالة هذه أن لا يعهد في الأعمال إلا إلى المهندسين ألفنيين الأكفاء لا إلى المعلّمين والصنّاع كما هو شأن معظم من يبني في هذا القرن الرابع عشر في بلاد الشّام وياللأسف

ومما يجب أن يلاحظ في هذه المباني حين عملها جودة أدواتها وتحكيم ترتيباتها ودقّة زخرفها ومجانسة وكمال تركيبها العموميّ وطرازها وملائمتها لما يحيط بها ووجود كل ما يحتاج له في محتوياتها وتخطيطها وتناسب كلّ ذلك بعضه مع بعضٍ

وليس في كلّ ذلك من بأسٍ على المهندسين فإنهم معذورون بل المسؤول في ذلك هم أصحاب هذه المباني فإنهم يضنّون بالقليل أجرة أتعاب المهندس الذي يضع لهم تصميماً تامَّاً عن مبانيهم ويفكّرون أنّ ذلك شيءٌ لا ضرورة له ومن ذلك ظهرت هذه النتيجة المعيبة في الأبنية

إنّ الذين يحكمون على الأمة ليس لهم إلا الظّاهر منها وأنّ أول شيءٍ يظهر لهم هو حالتها الاجتماعية وكيفيّة معيشتها ومبلغ مدنيّتها وذلك لا يظهر إلا في مبانيها فإذا كانت مستكملةً الشروط حكموا لها بالّقيّ وإلا فيحكمون عليها بالجهل والانحطاط وربما يعترض بعض المطّلعين بقولهم إنّا عهدنا لبعض المهندسين بأعمالنا فقدّموا لنا رسوماً لمبانينا ولكنّا بعد أن أتممنا بناءها وجدنا شكلها ليس كما يرام فيجاب على ذلك بجوابين: الأول أنهم ضنّوا على مهندسيهم بجميع قيمة أتعابهم. الثاني: إنّ الرسوم المقدّمة إليهم كانت بنسية تلك الأتعاب ونتيجة ذلك أنّ الرسم المقدّم إليهم كان الشّكل التخطيطي فقط وليس ذلك بالكفاية خصوصاً وأنهم لم يفهموه في الغالب وهم في ذلك معذورون والمهندسون لا يمكنهم تقديم رسوم مستكملة الشّروط بهذه الأتعاب القليلة

والنتيجة أنه يجب عمل الرسوم اللازمة لأي بناء قبل الشروع فيه ويجب أن تكون الرسوم المقدّمة من المهندس أربعةً على الأقل أولها المسقط الأفقي ثانيها شكل أهم واجهة في البناء ثالثها قطّاع رأسي عن جميع البناء مبيّنٌ فيه الإرتفاعات وغير ذلك رابعها رسم تفصيلي عن أهم ما يراه المهندس في البناء

وبعد فإن المانع في فلسفة ألفنون الجميلة من أن نقول هذا البناء بلغ حدّ الكمال لم يزل إلى الآن ولا ندري إن كنّا بلغنا درجةً محسوسةً في الرّقي تظهر آثارها لمن يأتي بعدنا أو لا فإنا لم ننسى الزمن الماضي ومبانيه وقد بقي منه كثيرٌ من القصور الكبير إلى الآن فإذا نظرنا واجهة إحداها التي كانت في زمانعا آية الآيات في الزخرف والرواء عند صانعيها نقابلها الآن بابتسامةٍ فهل ما نصنه اليوم ونظنّه جميلاً سيقابل من رجال المستقبل بهذه الابتسامة أيضاً؟ لا ندري: ولكن الذي يجب علينا هو أن نصنع أعمالنا على قواعد أساسية يقررها العلم ويستحسنها العقل وترتاح لها النفس حتى إذا جاء الذي بعدنا ونظر عملنا يعتقد أننا كنّا نشتغل بفكرٍ وعلى قواعد ويكون ملزماً باحترام أعمالنا كما نحترم نحن الآن الآثار الجميلة التي تركها ألفراعنة والعرب التي هي موضع الإعجاب لعهدنا عندنا وعند غيرنا إنّ الحكم على شيءٍ أو المقارنة بينه وبين شيءٍ آخر هو فرعٌ عن تصوّره وذلك لا يكون إلا نتيجة مبلغٍ رقيّ المقارن في الهيئة الاجتماعيّة ومبلغ علمه فيما سيحكم فيه فما علينا إلا أن نجتهد ونرقى ونعرف وبعد ذلك نحكم فيكون حكمنا على أساس متينٍ يقبله العقلاء وتطأطئ له الرؤوس

المنزل مأوى الإنسان مع أهله بل هو المملكة الصّغيرة التي تدبّرها مدبّرته وهو ذلك الحريم الشّرقيّ الذي تعيش فيه المرأة الشّرقيّة مع أولادها بل المدرسة الأولى لأفراد الأمة المستقبلة وهو المكان الذي يأوي إليه ربّه بعد تعبه من أشغاله فيجد فيه الراحة والهناء. فيجب والحالة هذه أن يكون محتوياً على جميع أسباب الراحة مستوفياً جميع الشّروط الصحّيّة سواءً كان ذلك في البيوت داخل المدن أو في المنازل الخلويّة أو في طباق العمارات الكبيرة

إنّ رقيّ الأمة أو وجوب رقيّها يضطرّها إلى تغيير النّظام الذي سارت عليه في القرن الماضي لإيجاد المحالّ الكافية من كلّ وجهةٍ لمعيشة عائلةٍ شرقيّةٍ إسلاميّة أخذت ترجع إلى المعيشة الديمقراطية ثم سهولة الأعمال العظيمة بواسطة العدد والإختراعات الحديثة تساعدنا على إنشاء هذه المحالّ بأشكالٍ جميلةٍ ونظامٍ تامٍّ حتى يجد الأفراد فيها راحتهم وسرورهم. يلاحظ المهندي المعماري قبل وضع تصميمه شيئين: الأول ملاحظة عموميّة والثانية تفصيلية وكلتا الملحوظتين تنقسم إلى عدّة أقسامٍ فالأولى يجب على المهندس أن يضع نصب عينيه - نقطة البناء وشكلها - منظر واجهته وتلافيها بالنظر - استقلال محلاّته - الاقتصاد الممكن في البناء وكذلك مراعاته للسكان - ما يقي السكّان عند حدوث الخطر - ملاحظة المفروشات ونظامها - وحفظ الصّحّة ومراعاتها. الثانية تفصيل المحالّ من غرفة استقبال الرجال أو المطالعة وغرفة النوم والملابس والحمّام وما يتبعه وغرفة أشغال ربّة المنزل وأخرى لاستقبال السّيّدات وغرفة الأطفال والمطبخ والأنبار وغرفة الأكل. . الخ ولا يوجد قانون لجمع هاتين الملحوظتين وفروعهما وإنما يأتي ذلك بقوة ومهارة المهندس الذي يضع التّصميم ومبلغ ذكائه وخبرته وعليه أن ينظر لكل نقطة من هاتين الملحوظتين وغيرهما ويهيّئ لها جميع الأفكار التي تناسبها في خاطره ثم ينتقي أحسنها وعليها يبرز تصميمه وبعد فلا تدخل المدن الشّاميّة في طور العمران الحقيقي إلا إذا جعل مصوَّرٌ عامّ لكل مدينةٍ لا يسمح لأحدٍ أن يبني إلا بحسب ما تقرر. وان يشتغل المعول زمناً في هدم الحلل والأحياء والأزقة الضيقة والدور الكئيبة مع ملاحظة السكّان وحالة البلاد واتباع سنّة التدريج وأن لا يبني الباني داره ولا حانوته ولا مصنعه إلا بحسب الطراز الذي ترسمه البلديات والأبعاد التي تعيّنها للجادّات

ومن الغريب أنّ جميع مدن سورية ليس لها خريطةٌ سوى مدينة حلب وما عداها فيبني البانون فيها بحسب رغائبهم يختارون الطراز الذي يروقهم ويلتئم مع مصلحتهم المؤقتة ويبعدون عن الشارع أو لا ينحرفون عنه بحسب ذممهم وقلّ أن شاهدنا بلداًً من بلادنا أحسّ بسلطة مهندسي مجالس البلديّة عليه وكثيراً ما يعينه المهندس على ضلالته لقاء عرضٍ قليلٍ يبتاع به ذمّته. فإذا وفِّق رجال الإدارة إلى تتميم ما بدأوا به من هذا القبيل لا يمضي نصف قرنٍ على الأكثر حتى تصبح مدن الشّام بل قصباتها الصغرى عامرةٌ مستوفاةٌ شروط الذّوق والراحة وافيةً بالمراد من حيث الصّحّة والغناء

ونشير على كلّ من تحدّثه نفسه بإقامة دارٍ أو حانوتٍ أو مصنعٍ أو قهوةٍ أو مسرح أو فرنٍ أو معملٍ أن لا يشرع بعمله قبل أن يفزع إلى مهندسٍ ماهرٍ ولا يتطلّب من أرباب هذا ألفنّ الذي يرتضي بالقليل بل يؤثر الذي يتناول أجرةً جيدةً ويعمل ويعمل عملاً يماثله وبذلك يتوفّر عليه ماله وتبقى بنايته القرون قائمةً تتوارثها أعقابه من بعده وكلما طال عليها العهد حلت وأصبحت لها قيمةٌ وأصبحت لها قيمةٌ فيكون كمن استرخص طبيباً وطبّ الأرواح كطبّ الأشباح متلازمان ولولاهما لما عاش إنسانٌ ولا حيوانٌ ولخرب العمران وابذعر السكان. إنّ بيوت مهاجرة الإسرئيليين في يافا وجاليةالألمانيين في حيفا أعظم معلّمٍ لمهندسينا وأهل الأملاك فينا ينظرون كيف أنشأ بانوها من ألفقر غنىً ومن العدم راحةً وجمالاً وزخرفاً ورفاهيّةً.