مجلة المقتبس/العدد 27/إكرام الشعراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 27/إكرام الشعراء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1908



ما ندري متى نشأت في العرب الإجازة على الشعر في المديح. والغالب أن هذه القاعدة قديمة في أمرائهم رؤسائهم قبل الإسلام ولما جاء كعب بن زهير إلى الرسول عليه السلام وأنشد بين يديه قصيدته المشهورة خلع عليه خلعة سنية. حتى إذا كان عهد الحضارة أخذ بعض الكبراء يغالون في عطاء الشعراء لما وقر في نفوسهم من تأثير أقوالهم في الناس. والشعراء يقولون كلما زدتمونا عطاءً زدناكم مديحاً وثناءً. حتى اصبح الشعراء على عهد بعض الخلفاء والملوك والأمراء أشيبه بجماعة من ولاة الأمر وقوام الدولة تطلق لهم الجرايات والمشاهرات ويأخذون الجوائز والأعطيات ويرجع إليهم في المهمات ويثيرون النفوس في الملمات. وكم من ملك لولا أماديح شعرائه لكان خامل الذكر لا نسمع به إلا في الندر وكم من شاعر شرَّف ممدوحه بما صاغ له من عقود الثناء.

إلا أن الشعراء في هذه الأمة قد ابتذلوا في العصور المتأخرة شعرهم حتى أصبحت تستنكف من سماعه. والأمة إذا ضعفت سياستها يضعف فيها كل شيء على نسبته فكيف يتأتى للشعراء أن يضعوا أماديحهم في محلها ومحيطهم كما رأيت من الانحطاط نعم ضعفت ملكة الشعر وقلت قيمته بقلة أقدار الأمراء وشعرائهم حتى أصبح الشعراء والحال لم يزل لها بقية في بعض البلاد أشبه بشحاذين يستوكفون الأكف بما ينظمون ويضعون من المعاني والألفاظ ما يعد غلواً لو أطلق على أعظم رجل في الأرض فما الحال بممدوحيهم ولو أنصفوهم لهجوهم بدل أن يمدحوهم. نعم هزلت حالة الشعر واشمأزت نفوس المتأدبين الحقيقيين من الأماديح فأصبحوا لا يجوزون المديح حتى على من يستحقونه وعدوه من سخف القول وهجره.

ولقد رأينا الشعراء في القرن الرابع والخامس والسادس مثلاً يصونون الشعر عن الابتذال فكانت له قيمة عند الناس ولاسيما عند من يرجون نوالهم فكنت ترى أبا الطيب المتنبي لا يجوّز أن يمدح غير أرباب الدولة والزعامة وقل أن قال شيئاً يذكر فيمن دونهم مع أنه طالما أريد على ذلك، وأن رجلاً استنكف بداءة بدءٍ أن يمدح الصاحب بن عباد وهو في الفضل ما هو لجدير بأن يوقر شعره والقول يشرف بشرف قائله والمقول فيه. ولو ابتذل المتنبي شعره في عصره ومدح به كل من يعطيه لما كان له هذا الرونق والطلاوة ولما أجزل الأمراء له العطاء على ما رأينا في سيرته. فقد رأينا أبا شجاع فاتكاً يبعث إليه بألف دينار عندما هبط مصر بعد أن فارق سيف الدولة بن حمدان فلم يسعه إلا مدحه. واتصل بكافور ملك مصر فأعطاه ومدحه ثم لما أراده على أن يوليه ولاية صيدا وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاليه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم هجاه أقبح هجو لما لم يرضه ورحل عن مصر فبعث على أثره من يقبض عليه ولكنه كان خلص إلى بلاد أخرى. وهكذا لو استقريت أحوال الشعراء في تلك العصور لوجدت شعرهم يعلو على حسب أقدار من يمدحونهم من معاصريهم من الملوك وكلما اقترب الشاعر من كبير كبر كما قيل جاور السعيد تسعد. ومن أعظم الشعراء الذين اشتهروا وصار لشعرهم موقع لقربهم من الكبراء وأخذهم الجوائز على قصائدهم عمارة اليمني من أهل القرن السادس وهذا الرجل كان كالمتنبي غريباً في أطواره. كان كما قال عن نفسه من قحطان ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي من مدينة في تهامة في اليمن يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً وكان أهلها بقية العرب في تهامة لأنهم لا يساكنهم حضري ولا يناكحونه ولا يجيزون شهادته ولا يرضون بقتله قوداً بأحد منهم ولذلك سلكت لغتهم من الفساد وإذ كان من أهل بيت مجد وعلم انتدبه صاحب الحرمين إلى السفارة عنه والرسالة منه إلى المصرية فقدمها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة والخليفة بها يومئذ الإمام الفائز بن الظافر الفاطمي والوزير له الملك الصالح طلائع بن رزيك فلما أُحضر للسلام عليهما في قاعة الذهب في قصر الخليفة أنشدهما قصيدة أولها:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم

لا أجحد الحق عندي للركاب يدٌ ... تمنت اللجم فيها رتبة الخطم

قرّين بُعد مزار العزّ من نظري ... حتى رأيت إمام العصر عن أمم

ورحن من كعبة البطحاء والحرم ... وفداً إلى كعبة المعروف والكرم

فهل درى البيت أني بعد فرقت ... ما سرت من حرم إلاّ إلى حرم

حيث الخلافة مضروب سُرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم

وللإمامة أنوار مقدسةٌ ... يجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم وللنبوة آيات تنص لنا ... على الخفيين من حُكم ومن حِكم

وللمكالارم أعلام تعلمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم

وللعلى ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم

وراية الشرف البذَّاخ ترمقها ... يد الرفيعين من مجد ومن همم

إلى آخر مدح به الخليفة ووزيره فأفيضت عليه الخلع المذهبة وأعطي خمسمائة دينار من مال الخليفة وأخرج له مثلها من عند السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ وأطلقت له من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحد من قبله وتهاداه أمراء الدولة على منازلهم للولائم وانثالت عليه صلات الخليفة فمن بعده من الوزراء ومكبار عماله وقضى في مصر تسع عشرة سنة والدولة الفاطمية في أواخر أيامها تضعف وتقوى وتسفل وتعلو وكلما مدح كبيراً نال جزيلاً وجميع شعره وفيه المعاني الجيدة المصورة أحسن تصوير يدور على غرض مديح الكبراء وأغراض من السياسة تقتضيها حال من يدخل في غمارها.

جاء عمارة سفيراً إلى ملك مصر فطاب له المقام فيها وأوسعه أرباب السلطان براً لا على أنه شاعر يطلب الجوائز بل على أنه سياسي له ضلع في أحوال اليمن والحجاز وقد كان الفاطميون على عهده يملكون الحجاز وتطمح نفوسهم إلى امتلاك اليمن فحري بمن كان مثل عمارة أن يؤمل منه أن يسهل لهم أسباب فتحها ولذلك انهالت عليه الصلات أي انهيال وعاش عيشة أمير لا عيشة شاعر. ذكر ذلك في كتاب النكت العصرية وكثيراً ما يذكر مقدار ما تجود به عليه أيدي الأمراء من الأرزاق والأموال حتى صار إذا تأخروا عنه حفزهم بنابل من شعره فيعودون إلى ما عودوه عليه. قال عمارة في مدح شاور وزير الفاطميين:

حمي الوطيس فخاضه بعزائم ... علمن حسن الصبر من لم يصبر

ضجر الحديد من الحديد وشاورٌ ... في نصر آل محمد لم يضجر

حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفِّر

يا فاتحاً شرق البلاد وغربها ... يُهنئك أنك وارث الاسكندر

قال وكانت هذه الأبيات من أحد السباب التي قوت عزمي على الاستغناء عن عمل الشعر لأن الناس فيما تقدم كانوا يغنون الشعراء بما ليس فوقها في الجودة إلى أن يقول: ورأيته (شاور) يوماً وقد انشرح صدره فقلت له أن لي مدة تنازعني النفس في الحديث معك في حاجة وقد عزمت أن اقولها لك فإن قضيتها وإلا كنت قد أبليت عن نفسي عذراً قال: وما هي؟ قلت: تعفيني من عمل الشعروتنقل الجاري على الخدمة راتباً على حكم الضيافة فإني أرى التكسب بالشعر والتظاهر به نقيصة في حقي قال: ما منعك أن تستعفي في ايام الصالح وابنه قلت: كانت لي أسوه وسلوة بالشيخ الجليس ابن الحباب وبابني الزبير الرشيد والمهذب وقد انقرض الجيل والنظراء. قال: تعفى ثم أمر بإنشاء سجل بإعفائي وأخذ عليه خط الخليفة وخطه بذلك.

وبهذا عرفت أن أخلاق عمارة كانت لأول أمرها تأبى الدخول في زمرة الشعراء والارتزاق من طريق الشعر ولكن عاد يتناول الجوائز من الخليفة فمن دونه من أرباب الدولة إلا أنه لم يكن في أخلاقه كالشعراء في العادة بل كان كثيراً ما ينصح للعظماء من الفواطم ولا يخاف بأسهم وسطوتهم قال: ولما عاد (شاور) من حصار الإسكندرية أكثر من سفك الدماء بغير حق وكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار فسألني الجماعة أن أعمل قصيدة في هذا المعنى فقتل:

ألا أن حد السيف لم يبق خاطراً ... من الناس إلا حائراً يتردد

ذعرت الورى حتى لقد خاف مصلح ... على نفسه أضعاف ما خاف مفسد

فأغمد شفار المشرفيّ وعُد بنا ... إلى عادة الإحسان وهي التغمد

فإن بروق الماضيات وصوتها ... رواعد منهن الفرائص ترعد

وإن صليل السيف أفحش نغمة ... تظل تُغني في الطلى وتغرد

تجاوز وإلا فالمقطم خيفةً ... يذوب وماء النيل لا شك يجمد

ومع ما كان يقرّع به رجال الفاطميين ويخوفهم من ارتكاب الظلم كانوا يرتاحون إليه هذا وهو سني قح وهم شيعة محض حتى أراده بعض أمرائهم وهو الصالح بن زريك أن يعود متشيعاً ويأخذ منه ثلاثة آلاف دينار فأبى.

ولطالما كانوا يطلقون له الرواتب ويخلعون عليه الخلع ويرسلون إليه بإردبات من الحنطة والشعير وأباليج من السكر ودكاكيج كبار من الزيت الطيب وخرفان رضع سمان وله قصائد ومقطوعات يصح أن تدرج في باب الشعر الاجتماعي لما فيها من المعاني الغريبة ففما قاله في مدح شمس الدولة:

العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم

وخير خليك إن صاحبت في شرف ... عزم يفرق بين الساق والقدم

إن المعالي عروس غير واقعة ... إن لم تخلق رداءيها برشح دم

ترى مسامع فخر الدين تسمع ما ... أملاه خاطر أفكاري على قلمي

فإن اصبت فلي حظ المصيب وإن ... أخطأت قصدك فاعذرني ولا تلم

ومنها:

لا يدرك المجد إلا كل مقتحم ... في موج ملتطم أو فوج مضطرم

لا ينقض الخطوة الأولى بثانية ... ولا يفكر في العقبى من الندم

كأنما السيف أفتاه وقال له ... في فتح مكة حل القتل في الحرم

ولم يراعوا لعثمان ولا عمرٍ ... ولا الحسين ذمام الشهر الحرم

فما تروم سوى فتح صوارمه ... يضحكن في كل يوم عابس إليهم

حتى كأن لسان السيف في يده ... يروي الشريعة عن عاد وعن إرم

هذا المحدَّث عنه في ثيابك يا ... شمس الهدى والعلى يصغي إلى كلمي

هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحماً على وضم

وقد ترامى إلى أن أمسكت يده ... من الكواكب بالأنفاس والكظم

وكان أول هذا الدين من رجل ... سعى لى أن أدعوه سيد الأمم

والغيث فهو كما قد قيل أوله ... قطر ومنه خراب السد بالعرم

والبدر يبدو هلالاً ثم يكشف ... الأنوار ما سترته شملة الظلم

تنمو قوى الشيء بالتدريج إن رزقت ... حظاً ويقوى شرار الزند بالضرم

حاسب ضميرك عن رأي أتاك وقل ... نصيحة وردت من غير متهم

وقال في قصيدة:

هل القلب إلا بضعة يتقلب ... له خاطر يرضى مراراً ويغضب

أم النفس إلا وهدة مطمئنة ... تفيض شعاب الهم منها وتنضب

فلا تلزمن الناس غير طباعهم ... فتتعب من طول العتاب ويتعبوا فإنك إن كشفتهم ربما انجلى ... رمادهم عن جمرة تتلهب

فتاركهم ما تاركوك فإنهم ... إلى الشر مذ كانوا من الخير أقرب

ولا تغترر منهم بحسن بشاشة ... فأكثر إيماض البوارض خلب

واصغ إلى ما قلته تنتفع به ... ولا تطرح نصحي فإني مجرب

فما تنكر الأيام معرفتي بها ... ولا إنني أدرى بهن وأدرب

وإني لأقوام جُذيلٌ محكك ... وإني لأقوام عذيق مُرَّجب

عليم بما يرضي المروءة والتقى ... خبير بما آتي وما أتجنب

حلبت أفاويق الزمان براحة ... تدر بها أخلافه حين تُحلب

وصاحبت هذا الدهر حتى لقد غدت ... عجائبه من خبرتي تتعجب

ودوخت أقطار البلاد كأنني ... إلى الريح أعزى أو إلى الخضر أنسب

وعاشرت أقواماً يزيدون كثرة ... على الألف أو عد الحصا حين يحسب

فما راقني في ارضهم قط مرتع ... ولاشافني في وردهم قط مشرب

تراني وإياهم فريقين كلنا ... بما عنده من عزة النفس معجب

فعندهم دنيا وعندي فضيلة ... ولا شك أن الفضل أعلى وأغلب

على أن ما عندي يدوم بقاؤُه ... عليَّ ويفنى المال عنهم ويذهب

أناسٌ مضى صدرٌ من العمر عندهم ... أصعد ظني فيهم وأصوب

رجوت بهم نيل الغنى فوجدته ... كما قيل في الأمثال عنقاءُ مغرب

وكسل عزم المدح بعد نشاطه ... لذي ذمه عندي من المدح أوجب

كان القوافي حين تدعى لشكرهم ... على الجمر تمشي أو على الشوك تسحب

أفوه بحق كلما رمت ذمهم ... وما غير قول الحق لي قط مذهب

وأصدق إلا أن أريد مديحهم ... فإني على حكم الضرورة أكذب

ولو علموا صدق المدائح فيهم ... لكانت مساعيهم تهش وتطرب

وله في الوصف أشعار منها قصيدة يذكر فيها حريق منظرة بدر بن رزيك على الخليج ويذكر داره الأخرى وما فيها من الستور وتصاويرها ومقاطعها قال فيها:

لم تحترق دار الخليج وإنما ... شبت لمن يسري بها نار القرى طلبت يفاع الأرض دون وهادها ... فتوقدت في رأس شامخة الذرى

أو هل تزور النار ساحة جنة ... أجريت فيها من نداك الكوثرا

أنشأت فيها للعيون بدائعاً ... زفت فأدخل حسنها من أبصرا

فمن الرخام مسيراً ومسهماً ... ومنمنماً ومدرهماً ومدنرا

والعاج بين الأبنوس كأنه ... أرض من الكافور تنبت عنبرا

قد كان منظرها بهياً رائقاً ... فجعلتها بالوشي أبهى منظرا

وكذاك جيد الظبي يحسن عاطلاً ... ويروقك البيت الحرام مسترا

ألبستها بيض الستور وحمرها ... فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا

فمجالس كسيت رقيماً أبيضاً ... ومجالس كيت طميماً أصفرا

لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصورا

فيها حدائق لم تجدها ديمة ... أبداً ولا نبتت على وجه الثرى

والطير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها لم تستطع أن تنفرا

لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثاً ولا ظبياً بوجرة أعفرا

أنست نوافر وحشها بسباعها ... فظباؤها لا تتقي أسد الشرى

وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا

نوبية المنشي تريك من المها ... روقاً ومن بُزل المهارى مشفرا

جبلت على الإقعاء من أعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقرا

دارت الأيام دورتها وكتب لصلاح الدين يوسف أن يقلب الدولة الفاطمية ويديل منها الأمر للعباسية فأصبح شاعرنا بعد أن كانت عطايا الفاطميين تغدق عليه إغداقاً مقتراً عليه في الرزق يسأل فلا يجاب ويهز الأكف فلا تندى ويعرض حاله ويعرّض بنواله فلا يؤبه له وبقي أشهراً على هذه الحال وقد انقطعت عنه النعم السالفة فلم يجد له أهل الحل والعقد في مصر من يعوضه عن بعض ما كان يتناوله فصار إلى الحور بعد الكور ونعوذ بالله من زوال النعم. فكتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف قصيدة لم ينشدها وقد ترجمها بشكاية المتظلم ونكاية المتألم وهي تعرب عما لقي من الألاقي والشدائد قال:

أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنة موجع وعي كل صوت تسمعين نداءه ... فلا خير في أذن تنادي فلا تعي

تقاصر بي خطب الزمان وباعه ... فقصر عن ذرعي وقصر أذرعي

وأخرجني من موضع كنت أهله ... وأنزلني بالجود في غير موضعي

بسيف ابن مهدي وأبناء فاتك ... أقض من الأوطان جنبي ومضجعي

فيممت مصراً أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما في ظل عيش ممنع

وزرت ملوك النيل إذ واد نيلهم ... فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي

وفزت بألف من عطية فائز ... مواهبه للصنع لا للتصنع

وكم طرقتني من يد عضدية ... سرت بين يقظي من عيون وهجع

وجاد ابن رزيك من الجاه والغنى ... بما زاد عن مرمى رجائي ومطمعي

وأوحى إلى سمعي ودائع شعره ... لخبرته مني بأكرم مودع

وليست أيادي شاور بذميمة ... ولا عهدها عند بعهد مضيع

ملوك رعوا لي حرمة صار نبتها ... هشيماً رعته النائبات وما رُعي

وردت بهم شمس العطايا لوفدهم ... كما قال قوم في على وتوسع

مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني في اعتقاد التشيع

فقل لصلاح الدين والعدل شأنه ... من الحكم المصغي إليّ فادعي

سكت فقالت ناطقات ضرورتي ... إذا حلقات الباب علقن فاقرعي

فدللت إدلال المحب وقلت ما ... أبالي بعفو الطبع لا بالتطبع

وعندي من الآداب ما لو شرحته ... تيقنت أني قدوة ابن المقفع

أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهر ... أقول لصدري كلما ضاق وسع

أعلل غلماني وخيلي ونسوتي ... بما صغت من عذر ضعيف مرقع

ونوابكم للوفد في كل بلدة ... تفرق شمل النائل المتوزع

وكم من ضيوف الباب ممن لسانه ... إذا قطعوه لا يقوم بإصبع

مشارع من نعمائكم زرتها وقد ... تكرر بالاسكندرية مشرعي

وضايقني أهل الديون فلم يكن ... سوى بابكم منه ملاذي ومفزعي

فيا راعي الإسلام كيف تركته ... فؤقي ضياع من عرايا وجوًّع دعوناك من قرب ومن وبعد فهب لنا ... جوابك فالباري يجيب إذا دُعي

إلى الله أشكو من ليالي ضرورة ... رجعنا بها نحو الجناب المرجع

قنعنا ولم نسألك صبراً وعفةً ... إلى أن عدمنا بلغة المتقنع

ولما أغص الريق مجرى حلوقنا ... أتيناك نشكو غصة المتوجع

فإن كنت ترى الناس للفقه وحده ... فمنه طرازي بل لثامي وبرقعي

ألم ترّعني للشافعني وأنتم ... أجلُّ شفيع عند أعلى مشفع

ونصري له في حيث لا أنت ناصر ... بضرب صقيلات ولا طعن شرع

ليالي لا فقه العراق بسجسج ... بمصر ولا ريح الشآم بزعزع

كأني بها من أهل فرعون مؤمن ... أصارع عن ديني وإن حان مصرعي

أمن حسنات الدهر أم سيئاته ... رضاك عن الدنيا بما فعلت معي

ملكت عنان النصر ثم خذلتني ... وحالي بمرأى من علاك ومسمع

فحالك لم توسع عليّ وتلتفت ... إليّ التفات المنعم المتبرع

فأما لأني لست دون معاشر ... فتحت لهم باب العطاء الموسع

وإما لما أوضحته من زعازع ... عصفن على ديني ولم أتزعزع

وردي ألوف المال لم ألتفت لها ... بعيني ولم أحفل ولم أتطلع

وإما لفن واحد من معارفي ... هو النظم إلا أنه نظم مبدع

فإن سمتني نظماً ظفرت بمغلق ... وإن سمتني نثراً ظفرت بمصقع

طباع وفي المطبوع من خطراته ... غني عن أفانين الكلام المصنع

سألتك في دين لياليك سُقنه ... وألزمتنيه كارهاً غير طيع

وهاجرت أرجو منك إطلاق راتب ... تقرر من أزمان كسرى وتبع

وليتك فيمن أطلق الشرق مطلعي ... لتعلم نبعي إن عجمت وخروعي

وما أنا إلا قائم السيف لم يعن ... بكفٍ ودر لم يجد من مرصع

وياقوتة في سلك عقد مداره ... على خرزات من عقيق مجزع

وكم مات نضناض اللسان من الظما ... وكم شرقت بالماء أشداق الكع

فيا واصل الأرزاق كيف تركتني ... أمد إلى نيل المنى كف أقطع أعندك أني كلما عطس امرؤٌ ... بذي شمم أقنى عطست بأجدع

ظلامة مصدوع الفؤاد فهل له ... سبيل إلى جبر الفؤاد المصدع

وأقسم لو قالت لياليك للدجى ... أعد غارب الجوزاء قال لها اطلعي

غدا الأمر في إيصال رزقي وقطعه ... بحكمك فابذل كيف ما شئت وامنع

كذلك أقدار الرجال وإن غدت ... بحكمك فاحفظ كيف شئت وضيِّع

فيا زارع الإسلام في كل تربةٍ ... ظفرت بأرض تنبت الشكر فازرع

فعندي إذ ما العرف ضاع غريبه ... ثناء كعرف المسكة المتضو

وقد صدرت في طيّ ذا النظم رقعة ... غدا طمعي فيها إلى خير مطمعي

أريد بها إطلاق ديني وراتبي ... فأطلقهما والأمر منك ووقع

وبيني وبين الجاه والعز والغنى ... وقائع أخشاها إذا لم توقع

وما هي إلا مدة نستمدها ... وقد فجت الأرزاق من كل منبع

إلى هاهنا أنهي حديثي وأنتهي ... وما شئت في حقي من الخير فاصنع

فإنك أهل الجود والبر والتقى ... ووضع الأيادي البيض في كل موضع

هذا ما قاله عمارة لما ضاقت عليه الدنيا والغالب أنه في تلك الحال نظم قصيدته المشهورة يرثي بها الفاطميين ويعرض بصلاح الدين التي يقول في مطلعها:

رميت الدهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حلي الحسن بالعطل

وفي ذاك الحين أخذ يدبر مكيدة على صلاح الدين يريد وجماعة من رجال الفاطميين الوثوب به واتفق رأيهم كما قال ابن الأثير على استدعاء الفرنج من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد فإذا قصدوا البلاد فإن خرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا هم في القاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية وعاد من معه من العسكر اللذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقابل الإفرنج وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه باليد لعدم الناصر له وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده وارسلوا إلى الإفرنج وصقلية والساحل في ذلك وتقررت القاعدة بينهم ولم يبق إلا رحيل الفرنج وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا الواعظ والقاضي المعروف بابن بحية ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة إلا أن بني رزيك قالوا يكون الوزير منا وبني شور والقاضي قالوا يكون الوزير منا. فلم علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون يفعلونه وتعريف ما يتجدد أولاً بأول ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه ثم وصل رسول ملك الفرنج بالساحل بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال فوضع صلاح الدين على الرسول من يثق به من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة ومنهم عمارة.

وذكر صاحب الكامل أنه كان بين عمارة والقاضي الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها فلما أراد صلاح الدين صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه وظن عمارة أنه يحرضه على هلاكه فقال لصلاح الدين: يا مولانا لا تسمع منه في حقي فغضب الفاضل وخرج وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك فندم ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة:

عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب