انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 997/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 997/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952



الوطنية

مترجمة عن الإنجليزية

تزوجت من (هانز) - وهو أحد الجنود الألمانيين - لعام واحد قبل الحرب العالمية الضروس التي أهلكت كل حي ودمرت كل شيء، بالرغم من أني فرنسية الأصل والجنس. . . وكان أول عهدي به لاقيته في معرض من معارض الفنون في (باريس) - وكان قد ذهب إليه زائرا - فلما سمعته يتكلم الفرنسية بطلاقة تحدثت إليه، فملكني حديثه العذب الفكه، وأسرني غزله المرح الرقيق، فكان ما كان، وانتهى بنا الأمر إلى الزواج بعد قليل

وتركت وطني راضية لأعيش مع زوجي (هانز) في قرية صغيرة من قرى ألمانيا. وعشت بين أحضان عائلته في سعادة ورفاهية، ورغد وبلهنية. وصار أصدقاؤه مع مضي الزمن أصدقائي، وخلصاؤه خلصائي، وأقاربه أقاربي! وما مضى على وجودي بينهم غير قليل حتى تعلمت كيف أتكلم الألمانية، وحتى كدت أنسى أنني كنت فرنسية الجنس واللغة في يوم من الأيام. ونقلني (هانز) بما حباه الله من قوة وسحر إلى دنياه فذقت لذة الهناء، وحلاوة الصفاء، ومتعة الحب

ولكن هذا النعيم لم يدم طويلا وا أسفاه! فقد أعلن لي (هانز) في يوم من الأيام - وقلبه يفيض فرقا - أن ألمانيا قد أعلنت الحرب على أعدائها، وأنه سيسافر إلى ميدان القتال لأن اسمه قد درج بين أسماء المحاربين هناك. . . ثم رجاني أن أعود إلى (باريس) - في الوقت نفسه - خوفاً من أن تجد ظروف تحول بيني وبين ذلك. وقد كان (هانز) - بالرغم من كل ذلك - على يقين من أن الحرب لت تستمر أكثر من ثلاثة شهور على أكثر تقدير، وأنه سيعود إلى بعد ذلك. . .

وأحسست بعد ان أفقت من صدمة هذا النبأ الفاجع، وهول هذا الخبر المؤلم - أن حبي لزوجي (هانز) أقوى وأعنف بكثير من حبي لوطني (فرنسا)! وشعرت أن كل ما هو حبيب إليه أحب إلى نفسي من كل ما سواه، وأن كل ما هو عزيز عليه أعز على قلبي من كل ما عداه. ومن أجل ذلك أهبت بنفسي أن أكون ما حييت فداء لهانز وللقيصر ولألمانيا. . . متحملة في سبيل ذلك ما قد ينتابني من الألم أو يمسني من السوء. . .

وودعت (هانز) وأرسلته إلى المعركة، وقلبي يفيض إعجابا ونفسي تتيه فخارا. وقد كنت أنا أيضا أعتقد أن الحرب ستضع أوزارها عمل قليل، وأن (هانز) سيعود إلى سليما قويا آمنا. وانقضت شهور عدة فما خمد لهيب الحرب وإنما ازدادت الممالك المشتركة فيها عددً وعددا. وكان (هانز) يرسل إلى بين الحين والحين بعض الرسائل - وهو في ميدان القتال - فكنت أجد فيها قليلا من المتاع واللذة، وشيئاً من الراحة والطمأنينة، ووميضاً من السلوان والأمل! ولكني ما كنت أريد إلا أن أرى وجهه، وأسعد به جواري مرة أخرى!

أواه يا قلبي!

إنني ما رأيت (هانز) بعد ذلك اليوم أبدا، وما كنت أحسب أنني قد ودعته الوداع الأخير! فقد ترامى إلى أن طائرة فرنسية دمرت الكمين الذي كان يختبئ فيه - بعد مضي عشرة شهور من بدء الحرب - فقضى نحبه محترقا. وكاد الحزن يفقدني عقلي ويورثني الخبل. . .

ومن ذلك اليوم تولدت في نفسي الكراهية والبغضاء لفرنسا وتمنيت لو استطعت أن أثأر لزوجي أو أنتقهم له من أولئك الذين قتلوه! وأحببت لو أن فرنسا خرجت منهزمة منكسرة من الحرب، بل مدمرة مهدمة مخربة! ولكن السنين - وا حسرتاه - قد خيبت ظني، إذ وقعت الهزينة على ألمانيا؛ فملأت الأحلام المفزعة فؤادي، وأفعمت الأوهام القاتلة خيالي؛ فصدقت كل ما يقال عن قسوة الألمانيين، وكل ما يذاع من أبناء اعتدائهم على الأطفال الآمنين والنساء الضعيفات. فدعوت الله من قلب خالص أن ينصر القيصر ويكتب له الفوز المبين!!

. . وفي يوم من أيام سبتمبر من عام 1918 أجلى الفرنسيون الألمان عن قريتنا، ولكن المانيين تمكنوا - قبل غروب شمس ذلك اليوم - من استرداد قريتهم المسلوبة ومحاصرتها وتطويقها. . .

واستيقظت على حين غرة على صوت مزعج ودوي هائل وضجيج وجلبة الاستقبال التي في الطابق الأسفل من منزلي، فارتديت منامتي على عجل واضأت المصباح الكهربائي الذي ينير الدرج ثم هبطت الدرجات مسرعة يدفع بعضي بعضاً

فماذا رأيت هناك؟ لقد رأيت جنديا فرنسيا يرتدي ملابسه العسكرية متكئاً بجانبه على المنضدة، ولدم يتفجر غزيراً من جرح في رأسه، وكانت سترته ملطخة بالوحل، وعلى وجهه أثر ما يعاني من الألم ويقاسي من الجهد. . .

وما كاد الرجل يراني - وأنا أقترب منه - حتى ألقى إلى نظرة فيها كل معاني الاسترحام كأنما يستجدي بها المعونة، ويرجو بها الغث. ثم مد إلى إحدى يديه كأنما يعلن إلى أن لا لا حول له ولا قوة

فقلت له بلهجتي الفرنسية الوطنية: (هل يؤلمك هذا الجرح كثيراً؟)

ففتح الجندي عينيه على مهل ثم قال: (هل سيدتي. . . فرنسية؟)

وما أدري لماذا أحسست ساعتئذ بثورة في دمي وهزة في جسمي، وخفقات في قلبي!

وقلت للجندي: (نعم، إنني فرنسية، ولكني مقيمة هنا. . . إني. . . أنا. . .!)

وأمسك الجندي بذراعي ثم قال: (إن الواجب يحتم عليك أن تساعديني. لقد حسبني زملائي ميتا فتركوني، والآن يجب على أن أرجع إلى صفوفنا! يجب علي. . .)

وما كاد يتم كلامه حتى سمعت دقا عنيفاً على الباب، وصوتاً عالياً ينادي: (أيتها السيدة!. . . أيتها السيدة)

كانت في منزلي حجرة صغيرة اعتاد (هانز) أن يقضي فيها شؤونه الخاصة؛ فلما مات أغلقت بابها الصغير ثم غطيته بستر عن الأبصار. وأبقيت الحجرة على ما كانت عليه، فلم أتناول أي شيء فيها بتغيير أو تبديل كأنها مكان مقدس لا يمس، أو كأنها الموئل الذي يستريح فيه زوجي ويطمئن إليه

وما أدر ما الذي دفعني إلى أن أنتهك هذا الحرم المقدس في ذلك الموقف العصيب!

لقد دقت الجندي الفرنسي إلى الحجرة فرفعت الستر عن بابها، ثم فتحته، وبعد أن أدخلته فيها أغلقت بابها ثم أعدت الستر إلى موضعه

واشتد الدق على الباب الخارجي عنفاً، وما كدت أفتحه حتى دخل منه جندي ألماني ضخم الجسم كبير الجرم أحمر الوجه فدفعني جانباً وزاحني عن طريقه، ثم أخذ يجول في أنحاء البيت كيفما شاء باحثاً عن الجندي الفرنسي. ففتش المطبخ ثم الحمام فلما لم يجد غريمه اندفع يرقى الدرج إلى أعلى وتلبثت في موضعي حتى عاد إلى، وحرصت على أن أكثر شعوري، وأكبح عواطفي، وأدفع عن نفسي رجفة كادت تهزني. وحاولت أن ابعد عيني عن الستر حتى لا ألفت نظر الألماني إليه

وما كاد الجندي يقف أمامي وجهاً لوجه حتى أدركت أنه مخمور لا يعي!

وقال لي بصوته الغليظ الخشن: (إنني. . . إنني أظن أني قد رأيت كلباً فرنسياً يجري في فناء دارك وما أرتاب في أنه قد تسلق الحائط ودخل منزلك من النافذة. . . إني. . . إني. . .!)

فأجبته بهدوء: (لقد بحثت بنفسك فلم تجد أحداً هنا)

وكان من العسير عليه أن يدرك ما يقول أو يفكر فيه فقال (أنا. . . أنا. . . لقد أخطأت. . . أنا. . . أنا. . .)

وانتشرت على شفتيه ابتسامة شيطانية ما رأيت أخبث منهم ثم قال: (هل تعيشين هنا. . . وحيدة؟!)

فأجبته: (نعم. إنني أعيش هنا وحيدة منذ أن قتل زوجي)

فاقترب مني شيطاناً فاجراً، وعربيداً داعرا، ومخموراً خبيثاً وهو يتمتم: (وعلي ذلك فأنت تعيشين هنا وحيدة؟!)

ولكن بالرغم من كل ذلك لم أتحرك من موضعي ولم أتزحزح عنه، بل قلت له: (ألا تظن أنه من المستحسن أن تخرج الآن لتبحث عن الكلب الفرنسي فلعلك عاثر عليه؟!)

ولكنه أجابني - بعد أن طوق خصري بذراعه وضمني أليه بعنف -: (لا. . . لا. . . لقد ذهب. . . و. . . وأنا لا اريد أن أربح هذا المكان. . . بل أريد أن أمكث هنا بأية طريقة!!) وأحسست بعد ذلك بشفته تنطبقان على عنقي. ثم قال: (ستكونين - ولا ريب - متساهل لينة الجانب معي. . . أليس كذلك؟!)

وحاولت أن أدفعه بعيداً عني ثم قلت له: (أرجوك. . .)

ولكنه ضمني إليه بقوة، ثم تتابعت أنفاسه سراعاً وهو يقول: (لا تقاومي. . . فلن تجديك المقاومة شيئا. لابد مما أريد. . . وتستطيعين أن تنسي كل شيء عندما أتركك إن كنت لا تريدين أن. . . لا تقاومي. . .!!) وهممت أن أصرخ مستغيثة ولكني تذكرت أن صراخي سيجلب دون ريب عدداً كبيراً من الجند، وأن هؤلاء سيفتشون وسيبحثون من جديد عن الجندي الفرنسي. فقلت للجندي الألماني: (أرجوك. . . أرجوك. . . أن تدع هذا لوقت آخر. . .!!)

فقهقه الرجل ثم قال: (لوقت آخر؟! وقت آخر؟! ربما يكون ذلك عندما أموت!!)

وما تلبث حتى حملني على ذراعيه وأخذ يصعد بي الدرج إلى أعلى. ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمعنا صوتاً يقول على حين غرة: (إنني آسف يا سيدتي على ما سببت لك من تعب. . .!)

وما سمع الألماني هذا الصوت حتى أنزلني من فوق يديه وأوقفني على قدمي، ثم أدار وجهه فيما حوله وإذا. . . وإذا بالجندي الفرنسي واقفا أمامه وجهاً لوجه، منتصب القامة، مرفوع الهامة، بالرغم مما يقاسي من جراحه، وما يعاني من آلامه! وإذا به يبسم لنا بالرغم من أنه كاد يغمى عليه من الألم، ويغشى عليه من الجهد والإعياء

إنني سجينك الذي تبحث عنه، وأسيرك الذي ترجوه، إنني حاجتك وطلبتك. . . ومادام الأمر كذلك فهيا بنا إذن نذهب من هنا ونترك هذه السيدة الكريمة في سلام وطمأنينة!!) هكذا قال الجندي الفرنسي للجندي الألماني الذي أذهلته المفاجأة فوقف مرتبكا لا يدري ماذا يفعل. وأخيراً قال هامساً في نفس متقطع (نعم. . . نعم. . . إنك سجيني!)

وخرج الرجلان من داري وسار معا؛ وعلى ثغر الفرنسي ابتسامة لا تفارقه، وعلى وجه الألماني حيرة وذهول!

وما رأيت الجندي الفرنسي بعد ذلك اليوم أبداً. فيا ليت شعري هل مات في الحرب أم هو ما يزال حيا إلى اليوم!؟ ولو أنني رجعت إلى (باريس) بعد الحرب لما تباطأت في البحث عنه حتى ألقاه فاشكره على ما أسدى إلى من عارفة وما قدم إلى من جميل

ولكني وا أسفاه لم أعد إلى فرنسا، لأن حياتي فيها تزوير على نفسي؛ ولم أبق في ألمانيا، لأني فجعت فيها بموت زوجي الذي كنت أعيش من أجله على أرضها، بل أتيت إلى إنجلترا لأبدأ حياة جديدة، وما نسيت هذه الذكريات المؤلمة في يوم من الأيام بالرغم من مرور هذه السنين الطوال.

م. س