انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 970/بداية النهاية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 970/بداية النهاية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1952


للأستاذ سيد قطب

أيا كانت الظروف والأحوال، فإن الاستعمار الغربي قد بدأ نهايته. بدأها في كل مكان، وبخاصة في العالم العربي الإسلامي الذي يصطدم بالاستعمار اليوم في جبهات متفرقة، ولكنها كانت متصلة. . يصطدم به اصطداما ظاهراً واضحاً في مصر، وفي تونس، وفي مراكش، وفي إيران، كما يصطدم بهد اصطداما خفياً في العراق وفي سورية. وحركة الجزائر ما تزال مستمرة، وفي هذه الأيام يقع اصطدام جديد على حدود اليمن. . وكلها حركة واحدة للخلاص. . وكلها تشير إلى النهاية المحتومة رغم جميع الظروف والأحوال.

ولقد كانت فرنسا تصطدم بالشعب التونسي وتسلط عليه الحديد والنار، وفي الوقت الذي تصطدم فيه إنجلترا بشعب الوادي وتسلط عليه الحديد والنار. . . نفس الوسائل، ونفس الأهداف، ونفس العقلية: عقلية الاستعمار، وعقلية المكافحين ضد الاستعمار.

إنها لم تعد حركات وقتية متقطعة محلية، تخمدها هجمة هنا وهجمة هناك. . إن الشعوب بأسرها تندمج في هذه الحركات التحررية. وبذلك تصبح هذه الحركات قوة تمثل اتجاه الزمن، وتشير إلى إرادة الله في الأرض، وتستمد الوقود من الشعوب لا من الأفراد. . وهيهات هيهات أن تقف القوة ضد اتجاه الزمن، وضد إرادة الله. .

ولقد كان الاستعمار يلجأ دائماً إلى الهيئات الحاكمة في كل بلد مستعمر، فيستعين بها الشعوب بها على الشعوب؛ ولكن الهيئات الحاكمة لم تعد تملك أن تقف في معزل عن حركة الشعوب. . وها نحن أولاء نرى مصداق هذا القول في مصر وفي تونس على السواء.

ففي مصر كانت حركة إلغاء المعاهدة تلبية مباشرة لضغط الشعب. . ولقد تغيرت الوزارة وجاءت وزارة سواها، فكان أول تصريح لرئيس الوزارة الجديدة هو السير في نفس الطريق التي رسمها الشعب، وإعلان الأهداف ذاتها بلا تلثم ولا تردد؟ لأن إرادة الشعب الواضحة لا يمكن أن يتجاهلها متجاهل، مهما تغيرت الوزارات.

وكان الحال كذلك في تونس. فالوزارة هي التي تصطدم بالاستعمار هناك، مع الشعب خطوة بخطوة. ورئيس الدولة الأعلى هو الذي في وجه العاصفة، فيعرض قصره للحصار، ويعرض عرشه نفسه للهلاك. . ولكنها إرادة الشعب القاهرة، التي تمثل حركة الزمن، والتي تمثل إرادة الله. ولله غالب على أمره. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وما من شك أن النصر في معركة الحركة سواء وقفت الهيئات الحاكمة مع الاستعمار أو ضد الاستعمار. ولكن وقوف هذه الهيئات الحاكمة في كل مكان بجانب الأهداف الشعبية سواء كان ذلك اختيار أم اضطرارا، هو أمر له دلالته وله معناه. . ومعناه الواضح الصريح: أن حركة التحرير. وأن قوة الشعوب، قد بلغت المرحلة التي تجرف معها خصومها وأنصارها على السواء، والتي تتحكم في الوقوف، وتملى على الهيئات الحاكمة ما تشاء.

ولم يكن إلا هذه الظاهرة ومدها لكفى بها دليلا على قرب النهاية، لتقلص ظل الاستعمار البغيض، الذي دام أكثر مما ينبغي، وعاش أكثر مما تقتضي طبيعته أن يعيش. . ولكن هذه ليست الظاهرة الوحيدة في معركة التحرير. . فالظاهرة الأخرى في المعسكر الآخر هي ظاهرة الضيق والتبرم العنيف بالحركات التحريرية، ظاهرة هياج الأعصاب، وفقدان الصبر، والفزع والقلق والاضطراب. . ولهذه الظاهرة دلالتها على الضعف الذي ينشأ عنه الزعر والهلع. فدولتا الاستعمار الغربي: إنجلترا وفرنسا كلتاهما تعاني حالة من الإفلاس المالي والضعف العسكري، تشير إلى بداية النهاية كذلك. وليست واحدة منهما أو كلتاهما بقادرة على خوض معركة طويلة الأمد مع الشعوب التي لا تفنى. لا مواردهما المالية ولا مواردهما العسكرية تسمح لها بخوض مثل هذه المعركة، في أرض خارجية تفصلها عنهما مئات الأميال؛ لذلك تريدان أن تضربا حركات التحرير ضربة قاضية، سريعة، قبل أن ينكشف ضعفهما، لعل هذه الضربة أن تخلصهما من التكتل الشعبي الذي تصطدمان به كل مكان.

ولكن هيهات هيهات! لقد مضى الزمن الذي كانت الحركات الشعبية فيه لا تزيد على أن تكون فورات وقتية، تطفئها ضربة قوية، أو انقلاب سياسي، أو مناورة دبلوماسية. . لقد استحالت الحركات الشعبية تصميماً شعبياً لا يتزحزح - مهما تغيرت الأحوال - وإرادة واعية تستمد وقودها من رجل الشارع، لا من المفكرين والمتحمسين والزعماء.

ولا أحسب أن إنجلترا أو فرنسا تشك لحظة في النهاية المحتومة! فإن تجارب البشرية كلها معروضة أمامهما؛ وهذه التجارب كلها تؤكد أنه ما من فكرة اعتنقها جمهور الشعب، حتى صارت فكرته الخاصة، أمكن أن تقف في طريقها قوة من القوى، في أي زمان أو مكان. . ولكن الاستعمار إنما يتشبث بمواقع أقدامه ليحصل على بعض الامتيازات الأخيرة في مقابل الجلاء. وحتى هذه الامتيازات قد أدركها الوعي الشعبي، واحتاط لها، وما عاد يسمح بشيء منها على أي شكل من الأشكال.

لقد حرق الاستعمار مراكبه مع الشعوب، بما ارتكب معها من حماقات. وبخاصة في هذه الحركات الأخيرة. ولقد استحال الصراع بينه وبين الشعوب. ثارات مقدسة، وأحقادا عميقة. فما عاد يمكن أن تستجيب الشعوب لأي صوت يدعوها إلى الارتباط بعجلة الاستعمار على أي وضع من الأوضاع.

وكل من يتصور أن الشعوب سترجع القهقري عن موقفها الذي انتهت إليه، تحت أي ظرف، وتحت أية مناورة. . إنما يخطئ في فهم طبيعة الحركات الشعبية، وينسى عبر التاريخ وشواهده. . إن كل خطوة يكسبها الشعب لا يمكن أن يتخلى عنها، لأن حركة الشعب هي حركة الزمن. والزمن لا يرجع القهقري، ولا يتحرك مرة إلى الوراء.

ولقد يخفت صوت الشعوب أحياناً، وتتوارى حركتها. . ولكن هذا ليس إلا ستاراً ظاهرياً لحركات خفية إلى الأمام. حركات تتم في ضمير الشعب، وتنضح في أعماقه، ثم تبدو في صورة فورة جديدة، وقفزة واسعة، يخيل إلى بعض الناس أنها مفاجئة. وليست في حقيقتها إلا امتداداً طبيعياً لم تظهر خطواته، لأنها كانت تتم في صمت، في أثناء فترة السكون.

إنها بداية النهاية، فعلى بركة الله فلتسر مصر، ولتسر تونس، وليسر كل بلد يشتبك اليوم في معركة التحرير الخالدة التي أوقدها الله.

سيد قطب