انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 887/صوم رمضان بين العلم والأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 887/صوم رمضان بين العلم والأدب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1950



للأستاذ ضياء الدخيلي

- 2 -

ويقال إن أبا تراب التخشيبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباح (في معجم البلدان ذو النباح هضبة من ديار فزاره كذا جاء كتاب الحازمي) وأكلة بذات عرق (قال في القاموس المحيط وذات عرق في البادية ميقات العراقيين. وفي مجمع البحرين وذات عرق أول تهامة وآخر العقيق وهو عن مكة نحواً من مرحلتين وهو الموضع الذي وقت لأهل العراق في الحج) وقال أبو سليمان الدراني: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. قالوا وكان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوى، وإذا أكل ضعف. وكان من الصوفية من يأكل كل أربعين يوماً أكلة واحدة. قالوا واشتهى أبو الخير السعقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيأ له أكله من وجه حلال، فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام وترك الأكل وقال يا رب هذا لمن مدي يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن يده بشهوة إلى الحرام؟ وفي الكتاب العزيز (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فالجملة الأولى هي التقوى والثانية هي المجاهدة. وقال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة وكنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق؛ ثم حملت إلى وأنا بالشام غضارة (هي كما في المنجدة القصعة الكبيرة (فارسية) فيها عدسية فتناولت منها وخرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا، فقال بعض الناس أتنظر إلى هذه وتظنها خلا؟ وإنما هي خمر، وهذه أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك، فقلت قد لزمني فرض الإنكار، فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان والجرار فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبه وطرحني في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الرباني المغربي أستاذي في ذلك البلد فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره على: قال أي شيء فعلت؟ فقلت شبعة عدس ومائتي خشبه فقال لقد نجوت مجاناً.

قال ابن أبي الحديد وأعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس والأخلاق، والتجربة قد دلت عليه، لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس، كثرة الأكل تزيل الرقة وتورث القسوة والسبعية. ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلا، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسية واضطرابها واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن لابد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية، وتؤثره كثيرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل من قلة الكمية. ويحبب أن يكون الغذاء شديد الإملاء للأعضاء الرئيسية لأنها هي المهمة من أعضاء البدن، وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء.

وأعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المزيد الذي هو يعد في طريق السلوك إلى الله، فإن كان انقطاع الغذاء يسيراً وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار وكان ذلك غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين علي (ع) بقوله (حتى دق جليلة ولطف غليظه) وإن أفرط وقع الحيف والأحجاف وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف والسكين) هذا ما شرح به عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي لكلام الأمام (ع) وقد زانته الثقافة الإسلامية في ذلك العهد أي آخر حكم العباسيين وقد شهد الشارح سقوط بغداد بيد التتار وكانت العلوم التي نقلت إلى العربية في صدر الدولة العباسية قلما ينعت وازدهرت ثمارها في أواخرها وذلك في عهد ابن أبي الحديد ومعاصره نصير الدين الطوسي

ولقد وجدت من المتعارف في العراق في رمضان (وأظنه في باقي الأقطار الإسلامية أيضاً) أن يكثر الصائمون نهاراً الأكل ليلا فإذا وفد هذا الشهر على المدينة وفدت معه أفنين الأطعمة وأنواعها وتفننت المطابخ في تنويع الأكلات حتى انقلب شهر الصوم والجوع إلى فترة نهم وتخمة وقد سألت مرة أستاذي في (الكيمياء الحيوية) في كلية الطب العراقية (المستر هوكنز) عن رأيه في الصوم فاثني عليه من الوجهة الصحية والتهذيبية غير أنه انتقد المسلمين لإفراطهم في الأكل ليلا مما يتعب الجهاز الهضمي. ولا ريب أنه مصيب فإن للأمعاء قابلية محدودة في استيعاب الأغذية بحيث تتاح لعصاراتها الهضمية فرصة التأثير على مكونات الغذاء من زلاليات ودهنيات ونشويات وغير ذلك وفي حالة الإفراط المتعارف ليلا عند الصائمين تتعب الأمعاء وتمتلئ للنهاية ولا تعود الغدد الهضمية قادرة على تزويد قطع الغذاء وأجزائه بما يحلله كيماوياً من الخمائر الهضمية وتتعب المعدة وتتوسع ولاشك أن ذلك يؤدي إلى أن ينتاب المرض ذلك البطن الجشع النهم ولله در الأمام علي (ع) إذ قال (كم من أكلة تمنع أكلات) لقد أخذ هذا المعنى بلفظه ابن الحريري فقال في المقامات (يا رب أكلة هاضت الآكل ومنعته مآكل) وأخذه ابن العلاف الشاعر فقال في سنوره يرثيه

أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد

يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالقدد

كم أكله خامرت حشاشره ... فأخرجت روحه من الجسد

والقدد جمع القدة وهي السير يقد من الجلد والقطعة من الشيء وتنطبق أبيات ابن العلاف هذه ليس على السنور فقط بل على (بعض الشيوخ) الذي يجدون في رمضان ميداناً فسيحاً للفتك بفراخ الدجاج في الولائم الرمضانية. . وفي المثل (أكلة أبي خارجة) قال إعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة اللهم ميتة كميتة (أبي خارجة) فسألوه فقال: ل بذجاً وهو الحمل وشرب وطبا من اللبن (والوطب هو سقاء اللبن) وتروى من النبيذ وهو كالحوض من جلود بنبذ فيه (نبذ النبيذ عمله) ونام في الشمس فمات فلقي الله شعبان ريان دفيئا. والعرب تعير بكثرة الأكل وتعيب بالجشع والشره والنهم وقد كان فيها قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية بن أبي سفيان قال أبو الحسن المدائني في كتاب (الأكلة) كان معاوية يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدت بثريده عليها بصل كثير ودهن قد سبغها (أي غطاها) وكان أكله فاحشاً وكان يأكل حتى يستلقي وبقول يا غلام ارفع فوالله ما شبعت ولكن مللت. وإن هؤلاء المفرطين في الأكل خير علاج لهم الصوم الذي يلطف أجسامهم ويذيب الشحوم الزائدة ويريح جهازهم الهضمي ولا ريب أن هذه الطائفة من الناس وطأة رمضان ثقيلة على نفسها ثقيلة على بطنها.

نقل أبو هلال العسكري في (ديوان المعاني) وكان فرغ من تأليفه سنة 395 هـ قال حدث الصولي عن أبي عبيده قال أسلم إعرابي في أول الإسلام فأدركه شهر رمضان فجاع وعطش فقال الأعرابي يذكر ذلك:

وجدنا دينكم سهلا علينا ... شرائعه سوى شهر الصيام

وقال ابن قتيبة الدينوري في (عيون الأخبار) قدم إعرابي ابن عم له في الحضر فأدركه شهر رمضان فقيل له يا أبا عمرو لقد أتاك شهر رمضان قال وما شهر رمضان قالوا الإمساك عن الطعام قال أبالليل أم بالنهار قالوا لا بل بالنهار قال أفيرضون بدلا من الشهر قالوا لا قال فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا تضرب وتحبس فصام أياماً فلم يصبر فارتحل عنهم وجعل يقول:

يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم ... تهيأ أبا عمرو لشهر صيام

فقلت لهم هاتوا جرابي ومزودي ... سلام عليكم فاذهبوا بسلام

فبادرت أرضا ليس فيها مسيطر ... على ولا مناع أكل طعام

وقول ابن قتيبة الدينوري في هذه الحكاية (إنه أن لم يصم ضرب وحبس) ينافي ما نقله الشيخ نعمان الألوسي في (غالية والمواعظ) في أنه ذكر في (البزازية) أن من أكل في شهر رمضان متعمداً يؤمر بقتله، لأن صنيعه الفاحش دليل الاستحلال وأن الصوم من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ولذلك يكفر جاحد. . . وقيل لأعرابي أدركك رمضان فقال لأقطعنه بالإفطار وأدرك أعرابياً شهر رمضان فلم يصم فعذلته امرأته في الصوم فزجرها وانشأ يقول أتأمرني بالصوم لأدر درها وفي القبر صوم بالميم طويل

ولا ريب أن لهؤلاء الأعراب أشباها ونظراء في المجتمع الإسلامي ممن ضعفت إرادته وافرط في حبه التهام شهي الأطعمة. وإن رمضان من انفع الأدوية لهؤلاء الضعاف النفوس وهم أحوج المسلمين إلى صرامة تأديبه حتى يقوم معوجهم غازياً ضعفهم النفسي بتهاويل عقوباته الأخروية في جهنم الطافحة بالويل والثبور الكثيرة الأفاعي الجبارة والعقارب المرعبة وفيها القيود الملتهبة والمقامع من النار، هذا مضافاً إلى غضب جبار السماوات كل هذه العقوبات المخيفة واقفة بالمرصاد لمن يفطر شهر رمضان متعمداً الفسق والفجور مضافاً ذلك إن عقوبة السلطة الدينية فيسوق الإسلام الخير لهذه النفوس الضعيفة ويلجمها عن الطعام فترة من الزمن فيصلح من أبدانها بالعنف والجبر ويلزمها الاقتصاد والتقليل من إسرافها في الأكل المتعب لجهازها الهضمي، فكأن رمضان علاج كريه الطعم، ودواء مر المذاق، تساق إليه النفوس المريضة سوقاً؛ وكأن الإسلام قد خص شهر رمضان بالصوم لترويض النفس والتغلب على رغباتها الأمار بالسوء فهو بمثابة تدريب عسكري يشترك فيه القيام به أفواج المسلمين في فترة معينة من الزمن أو تمارين رياضية لتقوية النفي وتقويم الروح وتهذيب الأخلاق.

وللصوم فائدته الكبرى في علاج ضعف الإرادة في أولئك الذين لا يستطيعون أن يقاوموا أهوائهم وشهواتهم فهم مستسلمون لها راضخون لأحكامها تجد الفرد من أولئك يدفعه استرساله في سيره حلف شهواته السادرة في بيداء الضلال - فركب أسوأ الكبائر فاندفع إلى شرب الخمر وانجر إلى المقامرة بعد أن زلت بقدمه المغريات لأول وهلة فأصبح كالذي غاصت قدماه في حمأة من القار فكبلته وعاقته عن السير ولم يستطع أن يتخلص من شرها. وكثيراً ما كان على علم بسوء مغبة ما هو فيه ولكنه لا يستطيع أن يقاوم لضعف في إرادته ووهن في عزيمته؛ ولربما رأى الخير في شيء ورأى وجوب عمله، ولكن خانته إرادته فاستسلم وقد كبله الكسل وقعد به الضعف وسيطر عليه الخمول فحاول الإسلام وهو دين الإصلاح والعمران - أن يعالج ضعف الإرادة بالمرانة كما يتقوى الجسم بالرياضة البدنية والعقل بالبحث العميق الدقيق، فبإلزام النفس المسلمة بالصوم لذى يتطلب مشقة وجهداً تتقوى الإرادة وتتعود أن تتغلب على المصاعب والعقبات وتشعر النفس بالارتياح في مغالبة الصعاب وخضد شوكة الرغبات الجامحة والتغلب عليها كما يشعر ذو الجسم القوي بالارتياح عند قيامه بتمرين شاق من الألعاب الرياضية ونجاحه فيه. . . وكل مجهود يبذل في مقاومة هوى أو قمع شهوة ثم يؤول إلى التغلب عليها يكسب الإرادة قوة. ولا ريب أن الصوم من أجلى مظاهر هذا العراك مع النفس الأمارة بالسوء فإذا استطاع المرء أن يقودها إلى النهاية شعر بتغلبه على أهوائها وقدرته على الرضوخ والمثابرة على الأعمال الشاقة حتى نهايتها.

وهناك ناحية أخرى في الصوم يَراها طائفة من الفلاسفة والصوفية الذين يجدون لذة في إرهاق النفس وتعذيبها وحرمانها ويرون مع يوسف بن أسباط أنه (لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مغلق) فهم يريدون أن يخيفوا القلب بعذاب جهنم اللواحة بالشرر فيدرءوا مرضه بإجباره على الصوم ويقللوا من الشهوات العارمة التي فيها البلاء والدمار. وهم يرون أن الاسترسال في اللذات والشهوات جريمة لا تغتفر؛ فعلى المرء أن يقمعها ويلجم النفس بالصوم عنها إن هؤلاء الصوفية يجدون الفضيلة في حرمان النفس مما تشتهيه وصدم رغباتها وأهوائها.

روى ابن أبي الحديد أن إبراهيم الخواص قال: كنت في جبل فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت منه فأخذت واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان، فرأيت رجلا مطروحاً قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد علي باسمي: فقلت كيف عرفتني؟: قال من عرف الله لم يخف عليه شيء: فقلت أرى لك حالاً مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك من أذى هذه الزنابير. فقال وأرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك ويحميك الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة؛ ولدغ الزنابير يجد الإنسان ألمه في الدنيا: فتركته ومضيت على وجهي) ونحن نرى أن الفكرة التي تحكيها هذه القصة بعيدة عن روح الإسلام وهي أشبه بعبادة البراهمة من الهنود وتعذيبهم نفوسهم منها بروح التعاليم الإسلامية. ولا ريب أن الإسلام تأثر كثيراً بعبادات الأمم التي دخلته - وعلى كل حال فإن الناس تجاه لذات الحياة أصناف، فنمهم من دعا إلى الزهد، وقمع الشهوات: قال الماوردي في (أدب الدنيا والدين) (إن شهوات النفس غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات استحدثتها فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي وعبد هوى لا ينتهي ومن كان بهذا الحال لا يرجى له صلاح) وأن طائفة من المتقشفين كما يقص علينا الدكتور أحمد أمين في (الأخلاق) نرى أن أرقى أنواع الحياة الأخلاقية ما حوربت فيها الشهوات، وهؤلاء لا يتزوجون مثلا ولا يأكلون اللحم ويعتزلون الناس جهدهم ولا يمكنون النفس من مأكل أنيق أو مقعد وثير أو ملبس جميل.

وقد شنع (سنيكا) وهو من الفلاسفة أتباع الرواقيين وكان في صدر الدولة الرومانية (6ق م - 65ب م) لقد شنع هذا الفيلسوف على من يشرب الماء مثلجا في أيام الحر: وقال قد انتزع الترف من القلوب ما كان بها من موارد الشفقة وأسباب العطف حتى صارت أشد برداً وقسوة من الثلج والجليد، فكأن هذا الفيلسوف يوصي بتعود جشوبة العيش وكأن يرمق في حديثه كلمة النبي (ص) المأثورة (اخشوا شنوا فإن الترف يزيل النعم) ولكنه أفرط وشط عن الطريق السوي. أما كلمة النبي (ص) فقد جاءت جامعة مانعة فيها عظة وتحذير وفيها تلويح إلى ما حدثنا به التاريخ من انقراض أمم هلكت لإغراقها في الترف كما وردت الآثار عن مصرع الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها بداء الترب.

ومالك تذهب بعيداً حسبك أن ترجع إلى تاريخنا العربي فإن الأمة الإسلامية عندما حادت عن تعاليم الإسلام وانغمرت في الترف وفساد الحياة الحضرية ذهبت منها صفات الرجولة ومعالم البطولة وماعت أخلاق بنيها فقامت عليها الأمم التي عنت من قبل لسطوتها فاستعبدتها. لقد انغمر آباؤنا في نعيم البلاد التي افتتحوها ونسوا وصية النبي (ص) بلبس جلد النمر لحوادث الدهر وكوارث الزمن وانغمروا في الترف فحق عليهم ما حذرهم منه المنقذ الأعظم (ص) فانقرضوا وتمزقت دولهم وذهبت ريحهم وعادوا عبيداً بعد أن سادوا بالإسلام شرق الأرض وغربها. ولا ريب أن في الصوم مظهر من مظاهر الأخشيشان وفيه فتوة تطبع النفوس على غرار الرجولة والبطولة وتشربها القوة والصبر والجلد. ولنعد إلى حديث مذهب أولئك الفلاسفة الذين أغرقوا في تعشق جشابة العيش وخشونة الحياة وقد قال أرسطو المعلم الأول: الفضيلة وسط بين رزيلتين: الإفراط والتفريط وفي الحديث الشريف خير الأمور أوسطها وفي الكتاب العزيز خطاباً للمسلمين (جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) قال بعض أعلام الإسلام - كما في مجمع البحرين للطريحي - كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان كالسخاء فإنه وسط بين البخل والتبذير. . . وبعد فقد أفرط البعض وبالغ جماعة من الزهاد فلم يكتف بعضهم بقمع الشهوات بل تعداها إلى تعذيب النفس وبالقيام بالشمس في أشد ساعات الحر والتمرنح على الرخام في الشتاء وغير ذلك من أساليب عنيفة نسمع بها كثيراً عن عبادات الهنود الشاذة المبنية على هذه الفلسفة الخاطئة الضالة ويعتقد بعض هؤلاء انهم بتعذيب النفس الصارم القاسي ترتفع نفوسهم وتعلو إلى درجات عالية في العرفان والقدسية وتتفتح لها أبواب الإطلاع والارتقاء عن مستوى البشر، إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة. ويسمي هؤلاء أسلوبهم هذا في أدراك المعرفة بطريقة الإشراق ويسمون أنفسهم الإشرافيين كما ذكره لنا أستاذنا في الفلسفة الإسلامية في النجف الإشراف (البنجردي) عند دراستنا عليه شرح منظومة السبزواري في الفلسفة. ويرى الدكتور أحمد أمين في كتاب (الأخلاق) أن هذا مذهب أكثر المعتنقين له من الناقمين على الحياة المتشائمين من كل شيء في الوجود المصابين بفقر الدم الذين ضعفت شهواتهم لضعف أجسامهم. وقد يرى هذا الرأي أيضاً من قويت صحته وكمل جسمه واشتدت شهواته ولكن كانت إرادته أشد وسلطانه على نفسه أقوى وأقوى ما يكون ذلك إذا أتى من ناحية الدين. . . والزاهد في الحقيقة ليس يرفض اللذة لأنها لذة هو يرفضها للذة أخرى أكبر منها في نظرة. هذا ما يقوله (خليفة بن خلدون) ويؤيده ما رأيت في شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي من قول الخواص (من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها). . .

ومن الزهاد من يرفض ان ينعم بالمأكل الشهي إذ نصبح النفس يرى ان الاستمرار في طلب اللذائذ بسبب آلاما إذ تصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت وتتجرع مع ما تنال غصصاً من الآلام. أضف إلى ذلك أن كثره التمتع باللذة يفقدها قيمتها ويذهب برونقها وجمالها. ويرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه برفعها فوق حوادث الزمان فلا تصبح لها القدرة على إخضاعه، وهذا الشعور يحرره من ربقة الخوف وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية.

للكلام بقية

ضياء الدخبلي