مجلة الرسالة/العدد 821/بين بدر وأحد:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 821/بين بدر وأحد:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 03 - 1949



الشهيدان الصغيران

للأستاذ عمر عودة الخطيب

- 1 -

قال الفتى عمير بن أبي وقاص لصاحبيه أسامة ورافع وكانوا يعلبون في ظاهر المدينة، وقد أشرفوا على بيوتها ومساربها:

- هل تريان ما أرى يا صاحبي؟!

- وماذا ترى!

- انظرا. فهاتان رايتان تعلوان وتخفقان وما أحسبها إلا لحرب.

- أجل. واسمع هذا التصايح وهذه الجلبة، وانظر الغبار يجلل الدور ويذهب في السماء. . .

- لئن كانت الحرب فوالله لنذهبن مع القوم، نقاتل في سبيل الله، ونجاهد تحت لواء رسول الله. . .

- لكننا نخشى أن يردنا رسول الله لصغر سننا يا عمر.

- وماذا علينا أن نسير في إثر الجيش، ونتواري عن الأعين، ونختفي وراء الآكام، حتى تبدأ المعركة، وعندها نبرز إلى الميدان ونقاتل المشركين، ونساهم في إعلاء كلمة الله، ونستشهد في سبيل هذا الدين. . .

- إنه الرأي ورب الكعبة!

وانحدروا إلى المدينة مسرعين، وقد ذهب كل إلى داره، يكتم الخبر عن أهله، وبتجهيز للحرب، ويستعد للقتال، وكانوا قد تواعدوا على أن يلتقوا جميعاً أمام المسجد، بعد صلاة الفجر. وأعد كل منهم عدته، وناموا ليلتهم تلك هانئين وادعيم، يحلمون بالجهاد والنصر المبين. . .

- 2 -

هب (عمير) من نومه، طرب الفؤاد، رضي النفس، هانئ البال، ومشى نحو النافذة، يس طرفه في ذلك الأفق البعيد، وكان الليل يتلفت ويسرع في الهروب، وقد ألح عليه الصبح مسرعاً في المسير. . . فاستجلى (عمير) في هذا المنظر الرائع معاني الحق والحرية. . . تطارد الباطل والعبودية. . وراقه أن ينهزم الظلام أمام النور، ويتواري الليل أمام النهار. . . واستبشر بهذا المنظر الساحر. واعتبره فأل خير ويمن وفتح كبير. . . ورفع يديه الصغيرتين نحو السماء، وتتم لسانه بأحلى آيات الدعاء. . . وهبت إذ ذاك نسمة رقيقة عطرة، شرحت صدره، وداعبت وجهه وشعره، وكانت تلك لحظة قدسية مباركة، رق فيها قلبه وصفت نفسه، وغمره شعور ندي بأسمى معاني الإيمان. فذرفت من عينه عبرة غبطة وخشوع، وسبح في بحار من الأخيلة الجميلة والأماني العذاب. . . ولم يوقظه من سبحته تلك إلا صوت أمه تناديه: هلم يا عمير فأسبغ عليك وضوءك، وتهيأ لصلاة الفجر، فقد نادى المؤذن بالصلاة والفلاح. . .

وخف عمير إلى نداء أمه، وتوضأ ثم أخذ سمته نحو المسجد مشيعاً بنظرات عطف وحنان من أمه الرؤوم. ولم يكد يمشي بضع خطوات حتى ترامى إلى سمعه دعاء أمه له، بأن يكلأه الله ويرعاه، فاطمأن لهذا الدعاء وفرح به، وسره أن يكون هذا الدعاء آخر ما يسمعه من أمه، وقبل أن يبتعد عن البيت التفت نحوه وألقى عليه نظرة أودعها كل ما في قلبه من حب وحنان نحو أمه وأبيه. وحدثته نفسه أنه ربما كانت آخر نظرة يلقبها على هذه الديار، وبعدها يفارق هذه الدنيا إلى دار الخلود، فترقرت في عينه عبرة حرَّى، كانت دمعةَ الوداع. وما قارب المسجد حتى التقى بصاحبيه أسامة ورافع، وقد دلفا إلى المسجد، بعد أن التقيا في بعض طرق المدينة، فما إن رآهما حتى افتر ثغره عن ابتسامة جميلة، وصافحهما مسلماً، وكانت الدمعة لا تزال حائرة في عينيه، وحدثهما عن تلك الساعة المباركة في السحر، وعن ذلك المنظر الفاتن الجميل، وعما أثار في قلبه من مشاعر، وأوحى إليه من معان وبشائر. .

وذهبوا جميعاً إلى المسجد يؤدون الصلاة خلف رسول الله ، وقد وطدوا العزم وعقدوا النية على أن يخرجوا معه في غزوته، يضربون بأيديهم اللينة، وسواعدهم الرقيقة هامات المشركين، وقد كان يشعر كل واحد منهم أنه بطل كبير وأنه المسؤول وحده عن هذا الدين، ذلك أنهم لم يرضعوا أفاويق الدعة وينشئوا في الحلية والدلالة. . . إنما تربوا في (مدرسة الصحراء (وتتلمذوا على (بطل الأبطال).

- 3 -

سار (علي بن أبي طالب) رافعاً بيمينه راية (العقاب) السوداء، وبجانبه رجل من الأنصار بحمل الراية الثانية، وسار المسلمون خلفهما يقدمهما قائدهم الأعظم (محمد) قاصدين بدراً، ليقاتلوا المشركين الذين جمعوا جموعهم، واستعدوا للقتال. . . ساروا وكانت الأرض تهتز تحت أقدامهم، والروابي والهضاب تتجاوب مع نشيدهم، وتجلجل السماء بتكبيرهم. . . حتى إذا ما بعدوا عن المدينة ميلا أو بعض ميل، وقف رسول الله ، يستعرض الجيش ويتفقد الفرسان، ويلقي على جنوده الأوفياء تعاليم القائد الخبير، ويحثهم على الصبر والشجاعة ويضمن لمن يستشهد في سبيل الله الجنة.

وكان الفتيان الثلاثة قد انتحوا جانباً غير بعيد من مؤخرة الجيش، يشجع بعضهم بعضاً، وقد علا البشر وجوههم، وملأت الغبطة نفوسهم. وكان (عمير بن أبي وقاص) أكثرهم توارياً حتى قال له أخوه: (مالك يا أخي؟!) فقال: (إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة). . . وفيما هما يتحاوران وإذا برسول الله قد أقبل، فرأى هؤلاء الفتيان الصغار وقد تقلد كل واحد منهم سيفاً يلامس الأرض، ووقفوا ينتظروا المسير. فسألهم رسول الله عما جاء بهم من المدينة، فأجابوه بأنهم يريدون الخروج معه لجهاد المشركين، وأنهم تعاهدوا على الشجاعة والإقدام، وبذل الروح في سبيل الإسلام. فضحك إعجاباً بهم، ونظر إلى تلك الأجسام الصغيرة التي خرجت لتكون وقود الحرب، فأخذته الرحمة لها، وأشفق عليها أن تكون طعمة للسيوف، وعز عليه أن يقذف بها إلى الموت، فردهم وأبى أن يخرجهم معه. فعظم ذلك عليهم، وحزنوا من أجله حزناً شديداً، وجلس عمير يبكي وقد أحزنه كثيراً أن يحرم من الجهاد تحت لواء الرسول ووقف أخوه وصاحباه من حوله يبكون لبكائه ويودون لو سمح له رسول الله بالخروج إلى الجهاد، فرق قلب رسول الله له وأجازه وعقد له حمائل سيفه، فوثب فرحاً نشيطاً، يودع صاحبيه ويبعث معهما إلى أمه بتحية الجندي الباسل، لتكون لها عزاء وسلوى. . . وذهب المسلمون إلى (بدر) وقاتلوا المشركين، وأطاحوا برؤوس الكفر، وزلزلوا كيان قريش، ورجعوا غانمين ظافرين، قد أمكنهم الله من عدوهم، ونصرهم عليه. بيد أنه كانت في عين كل واحد دمعه حزينة، استنزفها ذلك البطل الصغير (عمير) الذي استبسل في المعركة بسالة رائعة، وخاض غمرات الموت ببطولة نادرة، حتى وقع (شهيد) إيمانه القوي ويقينه الصادق، وإقدامه العظيم. . .

- 4 -

حزن رافع وأسامة وأتراب (عمير) كلهم على مصرعه، وجلسوا يذكرون أيامه، ويتحدثون عن إيمانه وبطولته. .

قال رافع لأسامة:

- أتذكر يا أسامة ليلة أن التقينا به أمام المسجد!

- نعم وحدثنا حديث تلك الساعة المباركة في السحر التي أفاضت على روحه صفاء وجمالاً. . .

- أرأيت إلى ذلك النور الذي كان يلتمع في جبينه تلك الليلة؟ وأحسبك رأيت تلك الدمعة التي كانت تجول في عينيه. . .

- نعم وأحسب ذلك نور الشهادة، فقد كان ينم عما في قلب صاحبه من إيمان وتضحية وإقدام. وأما تلك الدمعة فقد رأيت فيها تلك الليلة معاني الوداع. . . الوداع من هذه الدنيا الصاخبة الحقيرة التي يتنازع فيها الناس على حطام فان، ويظلم بعضهم بعضاً، فيستعبد القوي الضعيف، ويتعالى الغني على الفقير.

- حق ما تقول يا أسامة! وهل نسيت موقفه حين ردنا رسول الله لحداثة سننا يوم بدر. . .

- كيف وقد كان - رحمه الله - يدافع الحياة ويطلب الموت ويبكي حرقة على الجهاد، حتى رق له قلب الرسول فأجازه.

- رحمه الله وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.

وانصرف الفتيان إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة فخطب رسول الله الناس وأخبرهم باستعداد قريش للحرب بعد تلك الهزيمة التي حاقت بهم في بدر، وحثهم على الصبر والشجاعة، وأنبأهم بأنه قد عزم على مناجزة القوم وقتالهم وبأنه واثق بنصر الله له، وأمرهم بالاستعداد للجهاد. فانصرف المسلمون إلى بيوتهم يتهيئون للحرب، ويعدون السلاح، ودخل رسول الله إلى بيته بعد صلاة العصر ومعه أبو بكر وعمر. فتقلد سيفه وقوسه وعصب بعمامته رأسه وخرج يتفقد المسلمين.

- 5 -

سار النبي في سبعمائة من أصحابه حتى بلغوا (أُحُداً) وقبل أن يلتحم الفريقان، وقف القائد الأعظم، يستعرض جنده، ويهيب بهم أن يثبتوا ويصبروا، ويحمسهم ويزكي نفوسهم. . . وبينما رسول الله يستعرض الجيش، إذا به يجد فتى صغيراً أخذ يتطاول على أطراف أصابعه ويعلو بنفسه، فإذا هو (رافع بن خديج) فسر رسول الله كثيراً من عمله، وربت على كتفه، وتقدم منه وسأل عما يحسن من فنون الحرب، فقيل له بأنه رام يجيد ضرب السهام، فسمح له بالخروج. . . وتباع استعراضه حتى وقف على (سمرة بن جندب) وكان فتى حدث السن لدْن العود غض الجسم، فأشفق عليه رسول الله من القتال وأمره بأن يرجع، وطيب نفسه، وأعجب به ودعا له، فحزن الفتى حزناً شديداً وانصرف باكياً دامع العين، حسير الفؤاد على ما فاته من أمر الجهاد. ووقع له أثناء انصرافه خاطر اطمأن إليه وفرح به، فانثنى راجعاً إلى حيث يعسكر المسلمون، وترامى على زوج أمه يبكي وقال: (أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه!!. . .) ثم جلس غير بعيد يتطلع بعينيه الدامعتين إلى هذه الصفوف المؤمنة التي امتلأت قوة وعزماَ، وود لو يسمح له رسول الله بالقتال مع هذا الجيش بينما انصرف زوج أمه إلى الرسول ينقل إليه ما قاله سمرة. . فأعجب رسول الله بهذا الرأي وأكبر هذا الإيمان، وأمر بأن يصارعا أمامه. . . وتشابكت الأيدي. . . وما هو إلا قليل حتى صرع سمرة رافعاً، فابتسم رسول الله وحياه وسمح له بالقتال. . .

- 6 -

ابتدأت المعركة، وخرج من صفوف المشركين فارس صعب المراس قوي الشكيمة يدعو للبراز، فوثب عليه الزبير وقتله، وكان كلما خرج من صفوف المشركين مبارز قتله فارس من فرسان المسلمين. حتى اختلط الجيشان، وحميت المعركة، وثار النقع، فلم يعد يسمع إلا صهيل الخيل، وصليل السيوف، وقعقعة الرماح، وصفير السهام. ووقع فيها من الفريقين صرعى كثيرون. وانجلت المعركة بعد أن رد الله كيد الباغين الذين أرادوا بالرسول شراً. وإذا (برافع ابن خديج) الفتى الصغير مخضب بالدماء قد أصابه سهم من سهام المشركين، هد قواه، وأنزف دمه. ورآه المسلمون وقد وضع ذراعه تحت رأسه والدماء منه، وقد استسلم لغيبوبة عميقة. فأيقظوه وضمدوا جرحه ففتح عينيه وسأل عن المسلمين، واطمأن على رسول الله. . . ثم أغمض عينيه وسلم روحه الطاهرة الزكية، وقدمها قرباناً إلى الله، وبرهاناً على الجهاد في سبيله، وطارت روحه إلى السماء. . . إلى الفردوس الأعلى. . . حيث روح صاحبه (عمير) لتنعما هناك بالخلود الدائم. . . ولما علم رسول الله بأنه استشهد حزن عليه حزناً شديداً، ودمعت عيناه، وقد ذكر بطولته وإيمانه وقال: بعد أن دعا له بالرحمة، وسأل الله له الجنة (أنا أشهد له يوم القيامة. . .

(القاهرة)

عمر عودة الخطيب