انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 812/جحود. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 812/جحود. . .

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949



للأستاذ كامل محمود حبيب

يا اخي، كيف صرت بعدي؟ هاهي الأيام تمر في غير وناء ولا تلبث فلا أراك ولا اسمع عنك؛ وتصلب قلبي وتحجرت مشاعري فما عدت أجد فقدك ولا أحس بعدك. إني أخالك قد فرغت - منذ أن تدابرنا - إلى عملك الحكومي، تبذل فيه طاقتك وتصرف إليه غايتك وتهيأت لمصالحك الخاصة - كما تقول - فاستنفدت جهدك واستغرقت وسعك، فما أصبح في وقتك فضلة تصل فيها ذوي قرابتك أو تزور صحابتك. واغترقت في سراب كاذب فتصنعت بالكبرياء وتخلقت بالترفع، وإني أعجب من أسلوبك، فما أراك تلبس هذا الرياء إلا أمام أهلك فحسب

فأنت في ديوانك الحكومي لقي في ناحية من حجرة بين أكداس من الورق، همل بين همل من الموظفين. ورئيسك يرى فيك المثل الأعلى للموظف المجد! والموظف المجد في رأي رئيسه هو من يعشي عينيه في القراءة والتحديق، ويبري أنامله في الكتابة والتسطير، ويقوس ظهره في الانحناء والخضوع، ويهدر كرامته في الاستكانة والخنوع، ويلغي عقله فلا يتأبى على عمل ولا يجادل في رأي. لهذا فهو يغفلك ويهملك. أرأيت أصحابك وهم يحاولون أن يتحدثوا إليك في التليفون، أن رئيسك يهر فيهم هريراً مفزعاً، ونكر وجودك في إصرار امتهاناً لقدرك، وتجاهل مكانك في عناد واحتقاراً لك!

يا أخي، لقد تصلب قلبي، وتحجرت مشاعري، فما عدت أجد فقدك ولا أحس بعدك؛ غير أني أشعر - حين تحوم خواطري حواليك - بخيبة أمل. . . خيبة أمل الأب يلقي من وحيده وقد اشتد عوده ونما غراسه وبلغ مبلغ الرجال. . . يلقي منه العقوق والجحود جزاء له على أبوته، وعلى أن بذل دمه وماله وعمره ليكونه ابنه رجلاً بين الرجال. أفتصيب الأب حمى الندم حين يحس خيبة الأمل من أثر العقوق؟ لست أدري. . .!

لقد كنت - يا أخي - أمل أسرة: أبي وأنا وانت؛ وقد ماتت أمي عنا صغيرين!

أما أبي - رحمه الله - فقد تنشأ - أول ما تنشأ - في الأزهر، وتنشق عبيره، وذاق حلوه ومره، وانطبع بطابعه. والأزهر يسم بنيه بسمات فيها الورع والتقى والاستسلام إلى القضاء والقدر والرضا بالواقع والعزوف عن لذائذ الحياة وأطماعها. ونمت هذه الخصال في أبي منذ أن كان صبياً واشتد غراسها على الأيام، تغذيها حياة الريف وهي هادئة رتيبة في منأى عن مصطرع الحياة ومعترك النوازع، فما تكالب على المادة من حرص، ولا اندفع في غمرات الدنيا من جشع، ولا تزاحم على نفع من طمع، ولا خلبه المال من شهوة؛ فعاش على حيد الحياة يأخذ نفسه بالزهد والقناعة، ويروضها على التقشف والخشونة، ثم لا يحفل - من بعد - أفاضت غلات أرضه عن جود وسخاء، أم ضنت عن شح وضيق. ونحن - أنا وأنت - فرحة قلبه، وبهجة فؤاده، ونور عينيه، يضمنا حنانه، ويرسلنا عطفه، ومنتهى أمانيه أن يرانا - إلى جانبه - رجلين!

وكنت أنا أكبر ابنيه، وأحس أبي - والسنون تمر - أنه في حاجة إلى من يتخذه رفيقاً وصاحباً وعوناً، فتلفت فإذا أنا إلى جانبه، فالقي بأعباء الحياة بين يدي وقال: (احمل)! فحملت العبء وحدي وأنا ما زلت في سن الصبا وفورة الشباب! حملت العبء وانصرفت عن المدرسة في نشوة وطرب، تكتنفني خواطري الصبيانية، وفي نفسي أنني رجل وأنني رب هذا البيت، وما فيه غير أبي وهو بين صلواته وتسابيحه في شغل، وغيري وبين يدي شئون الدار والغيط أصرفها كيف أشاء، وأنت في المدينة تلميذاً بالمدرسة الابتدائية. وأخذني أبي - رحمه الله - بالنصح في غير غلظة ولا جفوة، وأنا اهتدي مرة وأضل مرة، وهو من ورائي يدفعني إلى غاية!

وعشت فلاحاً بين فلاحين، ابذر الحب وأرجو الثمار من الرب

ومرت الأيام تشعرني بأن أبي هو صاحبي، وأنك أنت - يا أخي - ابني، وأنني صاحب الدار والأرض والغلة جميعاً.

وأحس أبي مني الرجولة، فراح يزين لي أن أتزوج من فتاة من ذوى قرابتي لنجد ريح المرأة في الدار بعد جدب؛ والمرأة تشيع في الدار الحياة والحركة، وتبعث فيها النظافة والنظام، وتنفث فيها السعادة والمرح؛ وهي تشد أزر الرجل وتعينه على شواغله وتمسح عنه وعثاء الحياة وعناء العمل، وأصغيت إلى حديث أبي وفي النفس نوازع جارفة تدفعني إلى أن ألبي رغبته، ولكني رفضت في رفق وأنا أقول: (يا أبي، أن الزوجة تصرفني عن أخي وهو في المرحلة الأخيرة من الدراسة، وأنا أخشى أن تشغلني الزوجة عن أن أوفر له حاجاته - وما بنا ثراء - فينهار البناء أو يوشك وهو أملنا). . . وسكت أبي وسكت. . . .

وقضيت سنوات شبابي الأول أبذل غاية الجهد في الغيط لأوفر لك حاجاتك في البيت وفي الجامعة، وهي تزداد رويداً رويداً على حين تعصرنا أزمات عنيفة من الخمود الاقتصادي الذي سبق الحرب العالمية الثانية، ومن هبوط أسعار المحاصيل إلى درك لا تكفي معه غلات أفدنة أن تسد حاجة طالب واحد، وللجامعة طلبات تقول للطالب: إما أن تكون غنياً أو تكون جاهلاً! ورضينا - أنا وأبي - أن نقنع بالقليل ونجتزئ بالتافه، أشعر بالضيق في صبر، وأحس الحاجة في تعفف، وأنا شاب تتجاذبني أطراف الحياة وملذاتها فأدفعها عني، أدفعها لأنك أنت تستنفد كل مالنا في غير شفقة ولا رحمة!

أما أنت - أيها الفتى المدلل - فقد تخرجت في الجامعة، وما تذوقت طعم الحاجة، ولا أحسست مس الضيق، وقضيت أيام المدرسة في هدوء وطمأنينة، نخصك بالشهي من الطعام، وأنا في شظف من العيش؛ ونحبوك بالغالي من اللباس، وأنا أتوارى خلف أسمال؛ وتنعم بالدفء شتاء وبالراحة صيفاً، وأنا أصارع الأجواء في صبر يعركني زمهرير الشتاء ويفريني سعير الصيف. . . ثم توظفت في الحكومة!

ولما مات أبي - رحمه الله - خلت بي تقول: (يا أخي، إنك أنت أخي وأبي في وقت معاً، ولقد نزلت عن رغبات نفسك في سبيلي وأنت في مستهل العمر، والآن لم يبق لي في هذه القرية غير عطفك وحنانك، وغير حبك وإخلاصك، فقم على زراعة أرضي كيف تشاء، ثم اعطني فضل ما يزيد على حاجتك. . .)

وانسرب حديثك إلى قلبي يحفف وطأة الصدمة، ورضينا معاً أن أستأجر منك ميراثك كله (بأجر المثل)، فأكفيك عناء السفر وجهد التحصيل. . .

وبعد سنه واحدة تحدثني حديثاً فيه الرجاء تقول: (يا أخي، إن الأسعار ترتفع في غير هوادة، وإن حاجات العيش في المدينة تكلفني فوق ما أطيق، وأنا أدفع نفسي عن كثير من حاجاتها، فهل ترضى أن نرفع إيجار الفدان إلى كذا وكذا. . . لأجد سعة من المال؟). . . ونزلت عند رأيك، وأنا أحس أن في كلامك شيئاً غريباً علي، وأنه يستر حديثاً بعده، وأن نبرات صوتك تتحدث بأمر. وبرغم أنك تعرف مواسم الدفع والتحصيل، فقد سلكت سبلاً - حين طالبتني بحقك - أشعر معها بالحرج والعنت

وبعد سنة أخرى جئت تقول: (أظنك تعلم - يا أخي - أن إيجار الفدان قد ارتفع إلى كذا وكذا. . . وأن هذا السعر يبهظك ويشق عليك، فهل تنزل لي عن أرضي ليستأجرها غيرك!) قلت: (يا أخي، إن كان الأمر هو أمر السعر فحسب، فأنا دائماً ادفع لك أجر المثل، وإن كان غير ذلك، فاكشف لي عن دخيلة نفسك). . . فأصررت أنت على قولك: (إني أريد أن يستأجرها غيرك شفقة مني عليك، ثم إني اطمع أن أحس بملكية ميراثي من أبي!) ورأيت في تشبثك التافه خلقاً لم أعرفه عنك من قبل! ثم جاء عمك يقنعك، فعدلت عن رأيك، ورضيت أنت ورضيت. وخيل إلي انك ندمت على أن نزلت عند رأي عمك، فأردت أن تفزعني عن أرضك في أسلوب وضيع، فأخذت تتطاول علي - على ملأ من الناس - تريد أن تشعرني بأنني عبد فضلك، فكنت أدفعك عن هذا الرأي في هوادة، وأنزع عنك هذه العقيدة في لين، وأسلوبك يبعث في الغضاضة والضيق! ورحت أوحي إليك بأننا صنوان وأن ما أربحه من أرضك لا يغني من جوع، ولا يرد غائلة العسر، ولا يرتفع بي إلى الغنى، ولكن كبرياء الوظيفة، وزيف المدينة، وبريق الثراء المزعوم، كانت كلها قد كدرت صفاء قلبك، وطمست على صواب رأيك، فتعاليت على أخيك الفلاح، وأنفت أن تكون في لباسك الإفرنجي إلى جانبه، وهو في جلبابه، ونسيت ما كان منه أيام أن كنت. . .

يا أخي، إنك لن تكون شيئاً، أن أنت قطعت وشائج القربى أو صرمت أواصر النسب!

وتماديت في غوايتك دون أن تبادلني الرأي، فأرسلت رجلاً من أوشاب الفلاحين ليستولي على أرضك - وقد زرعتها - ويقول: (هذا حقلي استأجرته من مالكه). . . ومالكه هو أنت يا أخي! وعجبت. . . ولكن الرجل نشر أمامي (عقد إيجار) يدل على أنك أنت كاتبه!

ونظر الفلاحون بعضهم إلى بعض وزمت شفاهم على ابتسامات فيها السخرية وفيها الإشفاق، وشعرت أنا - لأول مرة في حياتي - بأنك قد أدميت قلبي، وجرحت نفسي، وامتهنت كرامتي، وبأنني أصبحت بين الفلاحين شيئاً تافهاً! ورضيت - يا أخي - أن تخول هذا الرجل أن يقتات على حقي، وأن ينازعني ملكية غيط، وأن يقف مني موقف الند للند. . . وثارت ثائرتي. . فطردت صاحبك من الغيط. . . وطردتك من نفسي. . .

كامل محمود حبيب