انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 791/تعقيب:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 791/تعقيب:

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1948



تحية العلم

للدكتور السيد محمد يوسف الهندي

قرأت مقال الأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك المعنون (تحية العلم) المنشور في (الرسالة) العدد 786 يحدثنا فيه عن واجب الاحترام للعلم ويأسف لإهمال إخواننا المصريين تأدية ذلك الواجب على الوجه الرائع المألوف عند أهل جزيرة كافو فقلت لنفسي: إن من الطبيعي أن يتأثر كل من يشاهد ويلاحظ ذلك الفرق بين تقاليد الشعبين كما تأثر به الأستاذ الفاضل ولكن أو ليس أحرى بنا نحن الشرقيين المسلمين إن نطيل الفكر في مثل هذه الفروق حتى ندرسها درساً وافيا ونستخلص روح الحياة الغربية فنتعظ وننتفع بها دون أن ننقل مظاهرها إلينا فنتسلى ونغالط أنفسنا بمجاراة الأمم الراقية؛ ما من شك أن حياتنا في الوقت الحاضر منحلة تماماً غير منظمة ولا منسقة ونحن نحتاج إلى كثير من الإصلاح في عوائدنا وأخلاقنا ولا بأس بأن يجئ الاحتكاك بالأمم الأخرى كحافز لنا على الجد والعمل في سبيل التقدم والرقي ولكن يجب قبل كل شئ أن نأخذ حيطتنا لئلا يتحول شعورنا بالتأخر إلى الشعور بمركب النقص فيكون كالكابوس الجاثم على أفكارنا وعقولنا حتى ينسينا أننا أمة لها ماض مجيد ولا يتأتى لها التقدم إلا بالرجوع إلى ماضيها ووصل حاضرها به. هذه هي المرحلة التي يقول الدكتور إقبال الحكيم الشاعر الهندي المعروف، إن كثيراً من الشعوب الشرقية فشلت في اجتيازها فإنها لما روعها تغلب الغربيين عليها وبهر أعينها تقدمهم في ميادين الحياة المختلفة، بدأت تنشد وتتلمس أسباب هذه القوة الظاهرة والتقدم الباهر فظنت أن تلك الأسباب لا تعدو اللادينية والحروف اللاتينية ولبس البرانيط وتمزيق البراقع وتأبط ذراع الحليلات في الشوارع ومداعبة الخليلات في الأندية والحفلات وما إلى ذلك من مظاهر الحياة الغربية التي لا تمت بصلة لا قريبة ولا بعيدة إلى تقدم الغربيين وقوتهم وشوكتهم.

مضت الأمم الشرقية تتهافت على تلك المظاهر تهافت الفراش على النار وتنقلها بحماسة بالغة وفي بعض الأحيان بقوة وعنف إلى أرضها وديارها ظناً منها أنها تجاري بهذا الطريق الأمم الراقية كأن طريق الرقي والتقدم كله هزل ومتعة ولذة!.

وخلاصةالقول إن مقال الأستاذ ساطع الحصري بك جاء أية للأخذ بالقشرة دون اللبّ ونقل مظاهر الحياة الغربية كما هي دون الاستفادة بروحها في حياتنا الخاصة.

فإن التحية للعلم ليست إلا مظهراً لروح النظام والولاء وأولى بنا أن نطبق هذه الروح على شعائرنا الخاصة وتقاليدنا المألوفة دون أن نتقيد بالشكل الذي تظهر فيه تلك الروح في أي بلد من البلاد أحلف بالله أنه يغمرني من الأسف واللهف أكثر مما غمر الأستاذ كاتب المقال حينما ألحظ في غدواتي وروحاتي أن المؤذن يؤذن للصلاة والآذان يذاع بالراديو فلا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا وترى المارين في الشوارع والتجار في المحال والجموع المحتشدة أمام دور السينما والملاهي وكأنهم لم يسمعوا شيئاً!!! أفلم يلقن الرسول أتباعه كيف يردون على الداعي إلى الصلاة والصلاح والفلاح! أفليس من صميم تقاليدنا ان نكف عن العمل ونذر البيع ونسعى إلى ذكر الله؟ أفلا يكون منظر مثل هذا أروع من التحية للعلم، وأدل منها على روح النظام والولاء؟ وكذلك أرى أن القرآن يذاع بالراديو صباح مساء ولا يكون له وقع ما، في نفوس العاطلين العابثين الهازلينالآثمين الجاثمين على الأفاريز وداخل المقاهي فهم لا يستمعون له ولا ينصتون بل يستمرون في لعبهم بالنرد ولهوهم بأنواع شتى من اللهو وقد تأصل فيهم هذا الداء إلى حد أنهم يدأبون في ساحة الفاروق كما يدأبون في المحال العامة. قد كنت أقرأ وأنا بالهند عن اهتمام ملك مصر بإحياء ليالي رمضان فتشرق نفسي إلى شهودها فلما حقق الله لي تلك الأمنية وحضرت إحدى تلك الحفلات الملكية كنت أتوقع أن أجد المستمعين كأن رؤوسهم الطير وخفت أن تصدر مني هفوة لصوري عن معرفة الآداب المرعية هناك ولكني اكتشفت أن الأمر أهون بكثير وبدأت أفكر في نفسي وأتساءل: أولا يليق برجال القصر والمشرفين على تلك الحفلات أن يعلموا الجمهور درساً في آداب الاستماع إلى أي الذكر الحكيم فيضيفوا بذلك فضلا ويداً إلى أيادي الفاروق المتجددة؟ ولا شك أن مثل هذا الإصلاح هو أول واجب على عاتق الأزهر الشريف ولكن أخاف أن لا تكون حياة لمن يناديهم الأستاذ محمود الشرقاوي كاتب مقال (الأزهر والإصلاح).

وخلاصة القول أن الحياة الإسلامية مليئة بمظاهر روح النظام والولاء لو أننا تمسكنا بالعروة الوثقى وسعينا لإحياء تقاليدنا أكثر من الطموح إلى انتحال عوائد الأمم الأجنبية فإن اقتراح الأستاذ ساطع الحصري بك إنما يذكرني بحكاية ناظرة مستشفى نقلت من بعض بلدان شرق أوربا الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة من أحرّ مناطق الهند فأمرت بفتح جميع النوافذ والشبابيك وقت الظهيرة كما كانت اعتادت ذلك من قبل في الجو المعتدل الذي تركته وراءها وكان الأولى أن تغلقها. ولا بأس بأن أذكر بهذه المناسبة أن الجامعة الإسلامية بعليكره (الهند)، التي لي الشرف بالانتساب إليها، تهتم بمثل هذه الأمور اهتماماً كبيراً لتنمية الشعور الإسلامي بين أبنائها، فمن الواجب المعمول به هناك أن يكف اللاعبون في ميادين اللعب والخطباء في نادي الاتحاد من اللعب وإلقاء الخطب ويلتزموا الصمت طالما يرن صوت المؤذن في آذانهم وربما حدث أن فرقا أجنبية زائرة أشير عليها بالكف عن اللعب أثناء المباريات فبدأت تنظر ذات اليمين وذات الشمال تتحرى السبب في دهشة وحيرة كما كان الحال بالأستاذ الحصري بك في كارفو فلما أخبرت أن السبب ليس إلا الاحترام للآذان تأثروا تأثيراً قوياً ظاهراً بهذا المظهر للطابع الإسلامي الخاص بتلك الجامعة حفظها الله من كل بلاء وعدوان.

السيد محمد يوسف الهندي