انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 777/من تاريخ الطب الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 777/من تاريخ الطب الإسلامي

مجلة الرسالة - العدد 777
من تاريخ الطب الإسلامي
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1948



لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني

سفير إيران بمصر

- 2 -

3 - تعريب الكتب الطبية:

ظهر الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع للميلاد وفي خلال سنوات قليلة قهر المسلمون الامبراطوريات وامتد نفوذ الإسلام إلى البلاد الواقعة في ما بين السند والقوقاز وعمها جميعاً، ثم بلغ أفريقية الشمالية وأسبانيا حتى بعض جزر بحر الروم مثل صقلية وسردينية وغيرهما.

وانقضى القرن الأول من الهجرة بالغزو والفتح وتأسيس الحكومات العربية العظيمة فاستولى المسلمون على بلاد كانت مراكز للحضارة، ودخلت بلاد، كانت تعتبر حواضر للعلوم والفنون مثل دمشق وقيصرية والإسكندرية في حيازتهم؛ وفي أثناء هذه الفتوح وعندما كان المسلمون مشغولين بتدعيم أسس ممالكهم أدركوا أن من المحتم عليهم أن يقتبسوا من حضارات البلاد المفتوحة والأمم المغلوبة ما يمكن اقتباسه، فبدأوا بذلك وبلغت هذه الفكرة شأوها بوجه خاص في عهد الخلفاء العباسيين حينما كان للإيرانيين شأن كبير في إدارة أمور المملكة الإسلامية، فألحق بكل مسجد مدرسة، وأنشئت مكتبات، وأسست مستشفيات، وبدأوا في تدريس جميع العلوم ولاسيما علوم الشريعة والطب والفلسفة في مدارسهم.

قلنا إن النسطوريين وحكماء الإسكندرية الذين سبقت لهم الهجرة إلى المشرق ثم اليهود والأقباط والسريان كانوا قد هيأوا مقدمات هذه النهضة الفكرية قبل بدئها بقرنين ولاسيما السريان منهم وهم من أبناء عمومة العرب، وذلك بنقل علوم اليونان من السريانية إلى العربية. وسنذكر فيما بعد لمحة عن الترجمة عند العرب

يمكننا أن نقسم المسلمين الذين اشتغلوا بالعلوم المختلفة ومنها الطب إلى طبقتين: المترجمين والمؤلفين.

فالمترجمون منهم كانت براعتهم مقصورة على القيام بالترجمة، وكانوا يتقنون اللغة العربية كما يتقنون السريانية أو اليونانية أو كلتيهما فيقومون بترجمة العلوم من إحدى هاتين اللغتين إلى العربية وكان هذا كل عملهم.

أما المؤلفون فهم الذين كانوا قد درسوا كل المؤلفات والآثار المترجمة وكان لهم بحث ونظر وآراء خاصة حول ما درسوه وتآليف ظهرت فيها شخصياتهم العلمية بصورة واضحة. كان بعضهم يدخل ضمن كلتا الطبقتين مثل يعقوب الكندي في الفلسفة، ويوحنا بن ماسوية وحنين بن اسحق في الطب، فإنهم مترجمون كما أنهم في الوقت نفسه مؤلفون وأصحاب نظر ورأي خاص. فقد كان حنين بن اسحق (ويسميه مترجمو اللغة اللاتينية في القرون الوسطة يوهاينتيوس من نصارى الحيرة وكان في شبابه يبيع العقاقير الطبية ويدرس الطب في نفس الوقت على يوحنا بن ماسويه. ويروي أنه ألقى على أستاذه يوما في مجلس درسه كثيراً من الأسئلة مما أثار غضب الأستاذ، فقال له ما لأهل الحيرة وللطب؟ كان الأجدر بك أن تطوف بأزقة الحيرة وتصرف النقود فتألم حنين من كلام أستاذه وآلى على نفسه أن يتعلم اليونانية ليستغني بها عن أستاذه في تعلم الطب، وقد أتقنها ثم عاد إلى جند يسابور وبرز في فنه حتى عد من طراز جبرائيل بن بختيشوع وابن ماسويه وأضرابهما أي أنه يدخل ضمن الطائفتين المؤلفين والمترجمين.

وكان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أول أمير من بني أمية اهتم بعلوم اليونان اهتماما خاصاً حتى لقب (بحكيم آل مروان) فقد جمع هذا الأمير نظراً لشغفه بكشف أكسير الكيمياء حكماء اليونان المقيمين في مصر في رحابه وطلب إليهم أن يعربوا المؤلفات اليونانية والمصرية عن أكسير الكيمياء عن اللغتين اليونانية والقبطية، وهذا حسب ما يعتقد ابن النديم أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.

يقول برتلو في مؤلفه عن تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى: (كان جل هم الكيماويين الحصول على الأكسير الأعظم وحجر الفلاسفة، غير أنهم خلال تجاربهم للوصول إلى هدفهم هذا وفقوا لاكتشافات كبيرة في الكيمياء ولا تزال المصطلحات الكيماوية التي وضعها العرب مثل الكحول - والأنبيق - وغيرهما متداولة في جميع اللغات الأروبية تشهد بما كان للعرب في هذا الفن من سابقة وفضل).

وهناك أمر هام أرى لزاما على أن أشير إليه وهو أن لوكلرك يشير في مؤلفه (تاريخ طب العرب) إلى أنه يعتقد أن مبدأ تاريخ اقتباس العرب من علوم اليونان يجب أن يرجع إلى ما قبل زمن خالد بن يزيد بمائة سنة أي أنه يعتقد أن تاريخ فتح مصر يجب أن يعتبر مبدأ لعهد اقتباس العرب من علوم اليونان؛ فإن يحيى النحوي وكان من ملازمي عمرو بن العاص وخواصه هو نفسه - حسب معتقد لوكلرك - يوحنا فيلويونوس شارح كتاب أرسطو وكان في الأصل من القسس اليعقوبيين وقام بترجمة بعض المؤلفات اليونانية إلى العربية بعد إسلامه. ويشير ابن النديم في الفهرست ضمن ذكر أسماء مؤلفاته ومقالاته إلى أن قام بشرح بعض مؤلفات جالينوس الطبية.

وعلى أي الأحوال فإن من المسلم به أنه قد ترجمت في زمن خالد ابن يزيد بن معاوية كتب في الكيمياء والطب وعلوم أخرى من اليونانية.

ويذكر ابن النديم مترجما باسم (اصطفن القديم) ويقول إنه قد ترجم كتباً في الصنعة أي الكيمياء وغيرها إلى العربية لخالد بن يزيد. وكان هذه الحقبة مقدمة لظهور العلماء أصحاب الرأي والنظر.

ففي عهد المترجمين في القرن الأول الهجري أو بعد ذلك بقليل كانت تراجم كتب الطب وسائر العلوم من اليونانية مزيجاً من الأصل المترجم عنه مع عادات المسلمين ومبادئ الصحة في الإسلام، ونادرا ما تجد طبيباً مسلماً يبدي رأياً أو نظراً خاصاً، بل كانوا على الأغلب الأعم يسيرون على النهج الذي سار عليه القدماء في حين أنا نجد في العصور التالية أي في عصور النهضة العلمية الإسلامية علماء كبارا تجاوزوا مرحلة الترجمة والتتلمذ فكان لهم استقلال في الرأي والنظر. ومع أن أساس معارفهم مقتبس ومأخوذ من علوم اليونان - ومع أنهم معترفون بفضل بقراط وجالينوس اللذين يذكرون دائما أسميهما بكل تجلة واحترام - إلا أن النظر والرأي ظاهران بصورة جلية في مؤلفاتهم. وتجد فيها أحياناً نقداً لآثار القدماء ومؤلفاتهم، فترى الأطباء المسلمين يقومون بتجارب جديدة في الطب، وتراهم يطبقون تعاليم طبية مفيدة على المرضى في المستشفيات كما ترى منهم شيئاً كثيراً من الابتكار والابتداع ولاسيما في طرق العلاج واستعمال الأدوية والعقاقير. وقد ترك علماء هذا العهد مؤلفات كثيرة قيمة في هذا الصدد.

وفي هذا العهد نرى الرازي يبدي شكوكا على أقوال جالينوس كما نرى ابن سينا ينتقد فلسفة المشائين في مقدمة مؤلفه حكمة المشرقيين. وفي هذه العصور أصبحت الأندلس وبغداد من مراكز الطب المهمة حتى قيل إنه كان في مكتبة قرطبة وحدها ثلاثمائة ألف مجلد في مختلف العلوم والفنون.

ويختلف حكم الناس بالنسبة للخدمة التي أسداها المسلمون لعلم الطب؛ ففريق يعقتد أنه لو لم توجد الحضارة الإسلامية لضاعت آثار بقراط وجالينوس وأمثالهما في ظلام القرون الوسطى ولخسرها العالم إلى الأبد، وان بقاء هذه الآثار العلمية والمؤلفات كان بفضل وجود المسلمين واهتماهم بها، وإن هذا التراث العلمي الغالي لم يسلم بفضلهم من الفناء والضياع فحسب، بل أضيف إليه الشيء الكثير.

ولما ضعف المسلمون فيما بعد وخرج كثير من البلاد كالأندلس من يدهم كان خير ما تركوه لأخلافهم ذلك التراث العظيم من العلوم والفنون.

هذا رأي فريق، غير أن فريقاً آخر يرى، ورأي معظمهم ناشيء عن الجهل أو الغرض أو التعصب، أن خدمة الملسمين للطب ليست بذات بال، فان هذا التراث العلمي بقي مدة كأمانة لدى المسلمين ورجال الكنيسة، لكنهم لم يضيفوا إليه شيئاً من عندهم حتى جاءت النهضة الأروبية فتسلمه منهم رجال ذلك العهد واستفادوا منه.

والحق وسط بين هاتين العقيدتين المتضادتين المتطرفتين، فلا ريب أنه لو لم يقم المسلمون - بجمع آثار المتقدمين من العلماء وترجمتها ونقدها وشرحها وتفسيرها بتلك الدقة العظيمة لضاع الشيء الكثير من آثار اليونان العلمية. وخير شاهد على ذلك أن كثيراً من مؤلفات اليونان في الطب قد ضاعت نسخها الأصلية ولم يبق منها إلا ترجمتها العربية مثل الكتاب السابع من التشريح لجالينوس؛ فالموجود منه الآن - هو ترجمته العربية ليس غير.

زد على ذلك أن بعض الأطباء من المسلمين قد أسدوا إلى عالم الطب خدمات عظيمة ولاسيما في الطب العملي والجراحة؛ وقد برز كثير منهم في هذا المجال أمثال علي بن العباس المجوسي الأهوازي وأبي القاسم بن خلف الزهراوي.

فان لم نقل إن كل ما وجد في القرون الوسطى من علوم الطب كان بفضل الأطباء المسلمين فلا أقل من انصافهم بذكر الحقيقة وهي أن الطب في القرون الوسطى مدين للطب الإسلامي والأطباء المسلمين ديناً عظيما.

والذين يقصرون فضل حفظ التراث العلمي القديم على العرب فحسب مبالغون في قولهم هذا كذلك؛ فهؤلاء يقولون أنه لولا المسلمون لانقطعت الصلة تماما بين النهضة الأوروبية والعلوم اليونانية القديمة. وليس ما يقولونه كل الحق فان قسطاً عظيما من الكتب العلمية اليونانية كان موجوداً في أديرة المسيحية، وقد درسها وبحث فيها عدد من رجال العلم وحفظوا للعالم علوم اليونان وطرائق بحثهم ودراستهم العلمية.

وأهمية الطب الإسلامي تقتصر على أنه كان طوال قرون عديدة أي منذ انحطاط الحضارة والعلوم عند اليونان إلى زمن النهضة الأوربية أهم مصادر علوم اليونان وأصدقها. ولا يفتنا أن نذكر هنا أن الطب الإسلامي كسائر العلوم التي انتشرت بين المسلمين - وإن كان معظمه مأخوذاً عن مؤلفات اليونان وكتبهم فان قسطأص منه مأخوذ ولا شك عن مصادر إيرانية وهندية وسريانية. ومن أراد التفصيل فليراجع الفهرست (طبعة مصر صفحة 340 وما بعدها) وفيه أسماء المترجمين الذين ترجموا إلى العربية من اللغات المختلفة ومنهم ابن المقفع وكثير من آل نوبخت الذين نقلوا إلى العربية كثيراً من الكتب الفارسية.

ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن كثيراً من هذه الكتب التي عربت عن الفارسية الساسانية كان أصلها يونانيا ترجمت إلى الفارسية في عهد الساسانيين ثم قام بتعريبها الإيرانيون أنفسهم؛ ومن هذه الكتب كتب في المنطق والطب ترجمها ابن المقفع إلى العربية، وكتاب في الطب أيضاً لثياذوسيوس الطبيب الخاص لسابور الثاني عرب من الفارسية

وقد كان للإيرانيين أثر واضح في الطب بصفة خاصة عن طريق مدرسة جند يسابور. فبرغم أن أساس التعليم الطبي في تلك المدرسة كان الطب اليوناني إلا أنه قد اصطبغ بصبغة إيرانية بالتدريج، وكان للقريحة الإيرانية أثر كبير ونفوذ عظيم في منهج التعليم بها.

وقد ترجمت كتب أخرى من اللغات الهندية والقبطية إلى العربية ذكر ابن النديم كثيراً من أسمائها وأسماء الذين قاموا بتعريبها.

(يتبع)