انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 709/في يوم المولد النبوي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 709/في يوم المولد النبوي:

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1947



يا سيدي يا رسول الله!

للأستاذ علي الطنطاوي

(تسمعون السنة كلها حديث الدنيا فاسمعوا اليوم حديث الدين)

الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ورحمة الله وبركاته هذا يوم تشرفت في مثله الأرض بمولدك، واستضاءت بنورك، قد جعلناه بعدك عيداً - واشهد ما شرعت لنا إلا (العيدين) - فنصبنا الأعلام، و (اذعنا) الانغام، واجتمعنا على الخطب والكلام ن والشراب والطعام، فالطرقات مزدحمة بالسرادقات، والمساجد والمقابر ملأى بالزائرين والزائرات، والصحف والمجلات، فياضة بالفصول والمقالات، وفي كل مكان مظاهر الأفراح والمسرات: في الشوارع والساحات، والأزقة والحارات. . .

فعلنا ذلك حباً بك، وابتهاجاً بمولدك، ثم ابناً إلى مساكننا فهجعنا هادئة ضمائرنا، هانئة سرائرنا، إذ قد وفينا لهذه الذكرى، التي لم يمر على ذهن التاريخ الإنساني اعظم منها أثراً، ولا أعلى قدراً، ولا أبقى ذكراً. . .

أما اتباع دينك، والاهتداء، والوقوف عند أمرك ونهيك، فلم نفكر فيه ولم ندخله في (برنامج الاحتفال)!

فهل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟

لقد بعثت بـ (لا اله إلا الله). دعوت العرب إليها فأبوها، فأمرت أن تقاتلهم حتى يقولوها، وخيرتهم بين السيف وبينها فاختاروا السيف عليها، واثروا أن يهلكوا عن أن ينطقوا بها، استصعبوها لأنهم عرفوا معناها، فعلموا أنها ليست كلمة تقال بطرف اللسان، ولكنها دستور للحياة كلها، وصرف لها عن وجهتها وتبديل لكل صغيرة أو كبيرة فيها.

لا اله إلا الله: لا ينفع ولا يضر إلا الله، فلا تخش في الحق غيره ولا تذل في الرجاء لسواه.

لا اله إلا الله: هو القادر فلا تخف أحداً إن كنت معه، هو البصير فلا تستتر بذنبك منه، هو الرحمن فلا تيأس من رحمته، هو الجبار فلا تأمن غضبه، هم معك حيثما كنت يراك أبداً فاعبده كأنك تراه. هو الخالق الباري المصور، أعطاك البصر فلا تنظر به إلى عورة، والسمع فلا تلقه إلى سوء ن واللسان فلا تحركه بمحرم، واليد فلا تستعملها في عدوان، والرجل فلا تمشي بها إلى ظلم والبطن فلا تدخل فيه إلا حلالاً، وأنت منه واليه لا مخرج لك عن ملكه. وهو المحيي المميت، منحك الحياة فلا تنفق دقيقة منها فيما يكره، وكتب عليك الموت فاذكره أبداً وتهيأ له ولا تنس انه ملاقيك!

لقد كانوا أذكياء ففهموا معناها وكانوا أشرافاً فلم يحبوا أن يقولوا بأفواههم، ما لا يحققونه بأفعالهم، ولذلك استسهلوا القتل واليتم والثكل على النطق بها، ثم لما أعدهم الله لها، وكتب السعادة لهم فقالوها، صاروا بها سادة الدنيا وخلاصة الإنسانية، وملائكة البشر.

ونحن يا سيدي يا رسول الله، نحن نقولها كل يوم على منائرنا ومنابرنا، وفي أسواقنا وفي منازلنا، وعند دهشتنا ومسرتنا، لا نرى كلمة أخف منها على اللسان، ولكنها لا تجاوز ألسنتنا، ولا تبلغ أفئدتنا، ولا يكون لها اثر في حياتنا، فهل نحن مسلمون!

وجئتهم بالقرآن فحاربوه، ومنعوا القارئين ان يتلوه، وفروا منه حتى لا يسمعوه، ولكنهم كانوا إذا وقعت إلى أحدهم الآيات منه، بدلته تبديلا وجعلته رجلاً آخر: اقبل عمر الغليظ الجافي عدو الإسلام الألد، ليأتي الجريمة الكبرى، فسمع آيات معدودات، فإذا هو ينقلب إلى عمر المؤمن الرقيق العبقري الذي ادار وحده إحدى عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام بسلمها وحربها، وقضائها وماليتها، وداخليتها وخارجيتها، وجليل امرها وحقيره، ما قصر في شئ منه ولا أساء فكان نادرة الزمان، وأعجوبة الفلك ونحن نسمع المرتلين يتلون القرآن في كل لحظة وفي كل مكان، في الأفراح والأتراح والحفلات والاذاعات، بحلوق لعلها أندى من حلق قارئ عمر، ونغمات أحلى، وأصوات اشجى، ومعرفة بالتجويد وضبط للمخارج والأداء، وبصر بالألحان، ولكنها لا تصنع بنا ما صنعت بعمر، ما نجد لها إلا الاهتزاز والطرب كما نهتز لكل أغنية حلوة تسمعها آذاننا، ونطرب لكل صوت شجي تعيه أسماعنا، ثم نقوم عنها فنمضي في الحياة حيث توجهنا عقولنا واهوائنا، فهل نحن مسلمون؟

ودعوتهم إلى الإيمان، فآمنوا بالله إيمان مراقبة وخشية وتقى، واستحيوا منه ان يراهم عاصين مخالفين، واستقاموا على الطريقة، وجعلوا أهوائهم تبعاً لما جئتهم به، فإذا غلبتهم نفوسهم فألموا بذنب، ومن هو الذي لا يذنب! تابوا إلى الله وانابوا، ولم يصروا ويستمروا.

وآمنوا بالملائكة، فتشبهوا بهم ما استطاعوا في طاعتهم وعبادتهم، واحيوا الملكية في نفوسهم، فماتت بحياتها البهيمية والشيطانية، ورب إنسان هو اقرب إلى البهيمة وأدنى إلى الشيطان. . .

وآمنوا بالكتب، وصدقوا بالقرآن فتلوه تلاوة التدبر والاستنباط فأتوا ما أمر به وانتهوا عما نها عنه وجعلوه لهم إماماً، وحاكماً مطاعاً.

وآمنوا بالرسل وبك خاتمهم وامامهم، فاستمعوا لقولك، أطاعوا أمرك، واتبعوا سنتك، وكنت احب إليهم من آبائهم، وأبنائهم ومن نفوسهم، التي بين جوانبهم.

وآمنوا بالقضاء والقدر، فسعوا للدنيا سعيها، وطلبوا المال من حله، واعدوا للعدو ما استطاعوا من القوة ولم يدخروا وسعاً في سعي ولا طلب ولا اعداد، ولكنهم رضوا بما قدر الله عليهم بعد نتائج، وما قسم لهم من حظوظ، ولم يجعلوا الدنيا أكبر همهم، ولا منتهى أملهم، ولم يتكلوا على المال ولا الولد، لأن الله هو المعطي المانع، ولم يتكالبوا على الدنيا لأن الله هو المطعم الرازق، ولم يقعدوا عن الجهاد خوف الموت، لأن الأعمار بيد الله، فلا تموت نفس حتى يجئ اجلها.

فكان إيمانهم ظاهراً، في كل اعمالهم، وفي كل لحظة من أعمارهم، وفي عبادتهم يخلصونها لله لا يريدون بها إلا وجهه، فلا يتبعون بها عادة، ولا يبتغون بها رياء، وفي معاملتهم الناس لا يغشونهم ولا يظلمونهم، ولا يكذبونهم ولا يؤذونهم، وفي بيوتهم وأسواقهم، وسفرهم وحضرهم. وصحتهم ومرضهم، وأسرارهم وإعلانهم فهل نحن مؤمنون كأيمانهم؟

يا سيدي يا رسول الله، لقد أقمت الإسلام على خمسة أركان فما زال الشيطان يغرينا بأركانه الخمسة، حتى هدمناها وأزلزلناها، فكان فينا من يقول كلمة الشهادة ولا يؤدي حقها، ومن يدعي الإسلام ولا يصلي، ومن يصلي بجوارحه ولسانه ولا بقلبه وجنانه، يقوم إلى الصلاة ليستريح منها لا ليستريح بها، لا يجد فيه انس نفسه ولا قرة عينه، فلا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، فكأنه ما وقف بين يدي الله، ولا ناجى بلسانه مولاه، ومن يدعي الإسلام ولا يصوم ومن يصوم عن أكله وشربه ولا يصوم عن قول الزور والعمل به، ولا يسلم المسلمون من لسان صائماً ولا يده، فلا يرقق له الصوم له قلباً فيعطف على جائع، أو يحسن إلى فقير ومن يدعي الإسلام ولا يزكي ولا يحج، ومن يحج ليسيح فيرى البلاد، ويتجر فيجمع المال، ويكسب من حجه الذكر والجاه ما طهر الحج قلبه، ولا غسل ذنبه، ولا أرضى ربه.

وتركتنا على بيضاء نقية ليلها كنهارها، حلالها بين وحرامها بين، وقلت لنا ان لكل ملك حمى، وان حمى الله محارمه، ونهيتنا ان تحوم حول الحمى لئلا نقع فيه، فتعدينا حدود الله ودخلنا حماه، وأتينا المعاصي جهاراً ونهاراً، لا تخشى عاراً، ولا نخاف ناراً، ولا رباً جباراً، بلغتنا قانون الله الذي أنزله لنحكم به، وسقت إلينا اشد الوعيد، وابلغ التهديد، ان نحن لم نحكم به، فتركناه وحكمنا بقانون فرنسة، فهل نحن مسلمون؟!

يا سيدي يا رسول الله صلى الله وسلم عليك.

لقد كان معك أربعون تخفيهم دار الأرقم في اصل الصفا، فأظهرهم الحق حتى فتحوا المشرق والمغرب، وكان لك منبر واحد، درجات من الخشب لا مزخرفات ولا منقوشات، فاسمعت منه الدنيا كلها صوت الحق، دعوتها فلبت، وأمرتها فأطاعت، ولنا اليوم مائة ألف منبر، فبها النقش البارع والزخرف الرائع يعلوها الخطباء فينادون (يا أيها الناس اتقوا الله). فلا يتقي احد، لأن الخطيب ما قال إلا بلسانه، والمصلي ما استمع إلا بأذنه قد فسد العلماء فهم يعلمون ولا يعملون، ويزهدون من الدنيا ولا يزهدون، ويقولون (الساكت عن الحق شيطن اخرس). ويسكتون، ويتلون (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ويذلون للوزراء والأغنياء والسلاطين. فسد العلماء ففسد الناس فمن أين ينتقى الصلاح؟

فنحن اليوم أربعمائة ألف ألف، امرنا بالجهاد لنفتح الدنيا فقعدنا حتى فتح العدو أرضنا وملك ديارنا، وحكم رقابنا، ولا نزال قاعدين نلهو ونلعب، نعينه على أنفسنا، ونهدم معه دورنا وديننا بأيدينا، وننظر ما لم يأتنا هو به من شروره، فنأخذه نحن بأنفسنا: أخذنا قوانينا وتركنا لها قرآننا، وعاداته وتركنا لها اخلاقنا، وفسوقه فأضعنا فيه أعراضنا.

وقد غدونا دولاً وحكومات وأحزاباً وجماعات، وما المسلمون إلا اخوة في أسرة واحدة، وما هم إلا أحجار البناء المرصوص يشد بعضه بعضا.

ولكنا لم ننس ان نحتفل بمولدك، وان ننصب الأعلام، ونذيع الانغام، ونجتمع على الخطب والكلام، والشراب والطعام، فهل يكفر هذا ما اذنبنا؟ هل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟! يا سرول الله! لقد ركبتنا ظلمات فوق ظلمات، وحاقت بن مصائب بعد مصائب، وخفت صوت المصلحين، وعلا نداء الضالين المضلين، وتوارى الحق وجال الباطل، فما العمل؟ ضاقت الحيل، وضعف الامل، وانسدت طرق الأرض ولم يبق إلا طريق السماء؟!

(القاهرة)

علي الطنطاوي