انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 701/الأمثال العالمية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 701/الأمثال العالمية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1946


للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب إلى الأستاذ عبد القادر الكرماني بحلب خطابا ينبئني فيه (أنه يضع كتابا عن الأمثال العالمية بلغة الضاد، وينقل إلى لغتنا العزيزة ما وصلت إليه يده من أمثال الأمم الأخرى على اختلاف أجناسها وأصقاعها، وقد ارهف نفسه للسؤال عن ناحية هامة في المثل وهي: هل وضع الأمثال مقصور على الأسلاف فقط؟ وهل لنا معشر الخلف أن نضع أمثالا أسوة بمن سبقونا؟ وإذا جاز وضع الأمثال لنا وضربها في مختلف شؤون الحياة فما هي الشروط التي يجب أن تتوفر فيما نود أن نتخذه مثلا؟ وإذا كان وضع المثل محصورا فيما تقدمونا فلم هذا الحصر وما هو الباعث له؟ وهل اتفقت الأمم جمعاء على السير في منهاج واحد؟ أم أن اختلافا بين الشعوب الأرض؟. . .)

وأقول: إن مكان هذا الكتاب الذي يشتغل به الأستاذ الكرماني لا يزال ناقصا في اللغة العربية؛ لأنها اللغو الوحيدة فيما نعلم بين لغات الحضارة التي خلت من كتاب جامع لأمثال الأمم أو للأمثال العالمية على حسب موضوعاتها أو على حسب أقوامها، وهو الموضوع الذي جمعت فيه باللغات الأوربية أسفار ضخام تجمع تلك الأمثال بترتيب أغراضها تارة وبترتيب أقوامها تارة أخرى

واحسب أن اللغة العربية أحوج إلى هذه المجموعة من اللغات الأوربية، لأن العرب (سلفيون) يكثرون الرجوع إلى الأمثال، ولأن الناقلين الأوربيين يخطئون فيما ينقلونه من أمثالهم وينسبونه إلى الأمم الشرقية الأخرى لاشتراك هذه الأمم جميعا في الدين وفي أحكام آدابه التي تضرب بها الأمثال. ويبلغ من خطئهم في هذا أننا رأينا آيات قرآنية وأحاديث نبوية منسوبة إلى الغرب أو إلى الهند لأنها وردت في أقوال الحكماء والمتصوفة من أبناء الأمم الهندية أو الفارسية، فإذا اهتم أديب عربي بجمع الأمثال العالمية فهو أحق الناس بتصحيح هذه الأخطاء وتمييز الأمثال الشرقية على حسب الأجناس واللغات. ولا شبهة في لزوم هذا التمييز، لأن الخلط بين أمثال العرب والفرس والهند مخالف للواقع من جهة، ومضلل للباحث في مقابلات الأمثال من جهة أخرى؛ إذ لا يخفى أن مسالة الأمثال مسألة (اثنولوجية) لها دلالتها على أطوار الأمم وعاداتها وبواعث تفكيرها ووسائل تعبيرها. ف يشعر الفارسي بالحقيقة الواحدة كما يشعر بها العربي في البادية أو الحاضرة، ولا تقع المقارنة بين الحقيقة كما يعبر عنها المثل العربي والحقيقة كما يعبر عنها المثل الفارسي إلا ظهرت من هذه المقارنة خصائص الأمتين وعادات كلتيهما في المعيشة وأسلوبهما في الملاحظة والتعبير، وقد يكون للمثلين شاهد واحد أو موضع استشهاد واحد، وكن الاختلاف بين الشاهدين هو الذي يدلنا على اختلاف الخصائص والعادات ويفيدنا تلك الفائدة الاثنولوجية التي يبحث عنها علماء الأجناس والسلالات

فكتاب الأستاذ الكرماني منتظر ومطلوب مفيد، ونرجو له التوفيق في إتمامه على الوجه المنتظر المطلوب الذي تتحقق به فائدة اللغة العربية وفائدة المعرفة الإنسانية على التعميم.

أما سؤال الأستاذ عن حق الخلف في ووضع الأمثال، فهو كحق السلف في اعتقادنا بلا اختلاف، لأن أبناء جيل الحاضر سلف بالنسبة للأجيال التي تعقبهم وتقتبس من حكمتهم وتجربتهم وتروي ما بقي من آثارهم وأخبارهم، فإذا تلقى الأعقاب عنهم كلمات صالحة للرواية والاستشهاد، ودارت هذه الكلمات دورتها على الألسنة كما دارت من قبلها كلمات آبائنا وأجدادنا، فتلك هي الأمثال يضربها أبناء جيل لأبناء جيل الأجيال، وذلك هو الحق الوحيد الذي يستند إليه واضع الأمثال.

ولكنني احسب الأستاذ يسأل عن الأمثال التي يضعها أبناء الجيل الحاضر لأبناء الجيل الحاضر، ويرى لها موقعا مختلفا من موقع الأمثال الموروثة عن الأجيال الغابرة، وله الحق فيما يراه.

فالأمثال (سلفية) في طبيعتها ودلالتها، وقيمة هذه الدلالة آتية من اعتقاد الناس أنها دالة على إجماع التجارب واتفاق العبر بين الغابرين والحاضرين. فإذا حدثت حادة اليوم وسمعنا مثلا يلخص لنا الحكم على حادثة مثلها وقعت قبل مئات السنين ونظر الناس اليها يومئذ كما ننظر إليها اليوم، فهذه هي عبرة الأمثال، وهذه هي دلالتها من يروونها ويستشهدون بها في مواقعها، وهذه هي قوة الإقناع التي تستفاد من تجارب السلف ويتخذها الخلف رائدا له في حوادث الحياة.

لهذا ترجح أمثال الجيل الغابر على أمثال الجيل الحاضر، فهي حجة القدم واتفاق التجربة دون غيرها، وهي حجة لا تتاح لأقوال المعاصرين في زمانهم إلا إذا طال بها العهد حتى توافت عليها العبر وتكررت عليها الشواهد وصح بها الاستدلال.

لكن الثقة بالسلف ليست هي الثقة الوحيدة في مقام الاستشهاد، ونحن نؤكد الرأي بإسناده إلى زعيم موثوق بعقله وصدقه كما نؤكده بالإسناد إلى الآباء والأجداد.

ولهذا يجوز أن يصدر المثل من الجيل الحاضر للجيل الحاضر، ويجوز أن ينهض الزعيم الموقر بين قومه فيتخذ له شعارا يجري بينهم مجرى الأمثال ويكررونه في مقام الاستشهاد والاستدلال.

ولا شروط لشيوع المثل تكفل له البقاء على سبيل الحتم والإلزام، فإن شيوع المثل لا يتأتى بإرادة واضعه ولا بإرادة مروجيه، وإنما يتأتى بشيوع الحاجة إلى تكراره ارتجالا بغير روية ولا اتفاق، فتسقط أقوال كثيرة مع بلاغتها، لأنها لا تخطر على البال في اعم المناسبات وادعاها إلى الاعتبار، وتسري أقوال كثيرة مع بساطتها لألنها تخطر على البال في كل مناسبة وتعبر عن (الحالة) في نفوس قائليها والمستشهدين بها.

ولكن الملحوظ في جميع الأمثال السارية أنها تجمع بين السهولة والبساطة ودواعي الشعور المشترك بين العديد الأكبر من جملة الطوائف والطبقات، وإن الحكم للمصادفة فيها أقوى من الحكم للموازنة والاختيار.

وقد تنسب الكلمة إلى زعيم فتشيع لأنها نسبت إليه وهو لم يفه بها ولم يقصد بها قط ما قصده المرددون والمستشهدون، ومن أمثلة ذلك أن عامة المصريين يقولون في بعض المناسبات: سعد باشا قال: (مفيش فايدة. . .)

وسعد باشا لم يقل هذه الكلمة في المناسبات التي يريدونها، وإنما قالها عدلي باشا بالإنجليزية على مسمع من سعد باشا واللورد ملنر فغضب منها سعد وأنكر أن يعدل المتكلمون عن اللغة التي كانوا يتكلمونها إلى اللغة الإنجليزية ليقولوا بها عن مناقشته ما معناه بالعامية: (مفيش فائدة).

إلا أن الكلمة كان لها شأن خطير في السياسة المصرية، وعرف عامة المصريين ما كان لها من الأثر في علاقات الزعماء والعلاقات بين مصر والدولة البريطانية، ونسوا مناسبتها ولم يذكروا إلا كلمة (مفيش فايدة). . . وإن سعد باشا قالها ونقض يديه من المحادثات الملنرية في ذلك الحين، فسارت مثلا لأنها سجلت (حالة) من حالات زعيم كبير، وهي حالة قابلة للتكرار في كل يوم، فليس أكثر من الحالات التي تنفض منها اليدان ويرفضها المرء مغضبا وهو يقول: (مفيش فايدة!).

على أن الأجيال تختلف في السليقة (المثلية) أو في السليقة التي تنشئ الأمثال وتجريها على الأفواه.

وربما كان العصر الحاضر من اقل العصور قدرة على تسيير المثل بعد إنشائه، واقلها قدرة على إنشائه قبل تسييره.

وترجع هذه الخاصة فيه إلى سببين: أحدهما أن توقير السلف فيه ضعيف، والآخر أنه عصر السرعة - بل العجلة - فلا يصلح من ثم لتدعيم الكلام بالشواهد والأمثال.

فأما ضعف التوقير في عصرنا لكل قديم، فهو من لوازم الجموح الذي اقترن بالحرية (الشخصية) وخلق لكل فرد من الأفراد اعتدادا بنفسه يخرجه أحيانا عن سلطان الجماعة أو سلطان القبيلة كما عرفوه ووقروه في الزمن القديم، ويصرفه عن التماس الشواهد مما قاله الأقدمون، لأنه لا يتوخى في أعماله أن توافق آراء الأقدمين، بل لعله يفخر أحيانا بتعمد المخالفة والشذوذ اغترارا منه بمعنى المخالفة والشذوذ، وهو القدرة على التحدي والاستقلال.

وأما علاقة السرعة بالأمثال، فهي ظاهرة من الفرق بين طبيعة الأحاديث التي يسترسل بها المتحدث إلى سوق الشواهد والأمثال، وبين طبيعة الأحاديث التي يخطفها المتحدث خطفا ولا يكاد يبدأها حتى ينتقل منها إلى موضوع منقطع عنها، فإن الجالس في المنظرة ليقضي السهرة كلها في قعدة واحدة يستطرد إلى المثل تارة والى العبرة تارة أخرى فلا تقع عند السامع موقع الاستغراب، بل موقع الانتظار والارتقاب.

ولكنه إذا جلس في مرقص الجازبند أو في رحلة السيارة أو في القهوة التي تموج بالداخلين والخارجين فآخر ما يخطر على البال أنه يسترسل بالحديث إلى سوق الشواهد وضرب الأمثال.

وتظهر علاقة السرعة بالأمثال في معرض آخر من معارض اعصر الحاضر، وهو معرض التفرقة بين مناسبات الكلام في محافل أوعظ والتعليم ومناسبات الكلام في الصحف والمجالس النيابية وأحاديث المذياع وروايات المسارح والصور المتحركة. فهذه كللها تتجدد لمحة بعد لمحة ولا يأتي اللاحق منها حتى يرخى ذيول النسيان على ما سبق منذ لحظات أو منذ ساعات أو منذ أيام، وليست معارض الحديث بالأمس على هذا المنوال، لأنها كانت تتكرر بين الحين والحين ويتسع لها مقام التأمل والاستقرار والترديد.

ولعمري إنه لسبب آخر من أسباب العناية بجمع الأمثال وتقريبها إلى أبناء الجيل؛ لأن هذه العناية تستنفذ أثرا من الآثار الماضية يخشى عليه من طيات النسيان الفضفاضة، وتلقن أبناء الجيل (حالات نفسية) قد تؤدي بهذه العجلة الخاطفة إلى شيء من التؤدة والأناة.

عباس محمود العقاد