انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 7/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 7/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933


ُلوم

القهوة

للدكتور أحمد زكي. أستاذ الكيمياء بكلية العلوم

جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني شيخ من أشياخ اليمن عاش في منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) وكان متواليا رياسة الإفتاء بعدن، تعرض عليه الفتاوي فيقر منها ما يراه صوابا ويصحح ما احتاج منها إلى تصحيح. عرض له أمر اقتضى خروجه من عدن إلى بر الأعاجم، وأغلب الظن أنه الحبشة، وعاش في أهله دهراً يشرب معهم شراباً لم تعرفه الأعارب، فلما رجع إلى عدن مرض فتذكر الشراب فأحضر شيئا من ذلك الحب وحمصه وطبخه بالماء كما كان يطبخه الأحباش، فخف عنه المرض وذهب عنه السوء، ووجد فيما وجد من خواصه أنه يذهب بالنعاس والكسل ويكسب البدن خفة ونشاطاً. وكان من أمر الشيخ بعد هذا أنه سلك طريق التصوف فصار هو وغيره من الصوفية يستعينون بهذا الشراب الجديد على السهر وقيام الليل في التعب والأذكار، وأسموه القهوة، ومن ثم انتشر شرب القهوة فشمل الفقهاء والعوام، هؤلاء يستعينون بها على مدارسة العلوم، وأولئك للمثابرة والمجالدة في معالجة الصناعات والفنون. وبلغت القهوة مكة فشربها بعض الأشياخ والقضاة وارتاب فيها أئمة آخرون، أما من شربها فرآها شراباً حلالا طيباً مما أخرجته الأرض بإذن الله، والله يقول (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وأما من أباها فرآها شراباً حراما مسكراً يحصل بشربه ضرر في الأبدان والعقول، وكان لهم في ذلك جدل طويل وحجاج مستفيض انقلب إلى محنة وفتنة، وكثر التعصب لها وعليها من الجانبين، وشاع التقاطع والتدابر بين الفريقين، وبلغ الغضب بنفر من الأتقياء الصالحين البررة الأطهار أن حدثوا عن رسول الله (ص) أنه قال من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها.

ولم يهل القرن العاشر الهجري حتى ظهرت القهوة في مصر وكان أول ظهورها في الجامع الأزهر برواق اليمن، فكان اليمانيون ومن ساكنهم من أهل الحرمين وبعض العامة يجتمعون للأذكار والمدائح على طريقتهم كل ليلة اثنين وجمعة، فتقدم إليهم القهوة في ناجود كبير من الفخار الأحمر، وكان يغترف منها النقيب بسكرَّجة صغيرة، ويسقيهم الأيمن فالأيمن، وهم على الذكر عاكفون، وكانت تذهب بالكسل والنعاس عنهم، فكانوا لا ينصرفون حتى يصلوا صلاة الصبح مع الجماعة من غير عناء ولا تكلف. وانتشرت في الناس فاجتمعوا على شرابها في بيوت خاصة بها وفي الأسواق.

ومن هذا العهد ظلت القهوة بين مكة والقاهرة تحلل عاما وتحرم عاما، يناهضها حكام وفقهاء، ويشايعها حكام وفقهاء، تباح فتشرب في الحرم الشريف جهراً، وتمنع فيعزر شاربها ويطاف به في الأسواق، ويكبس العَسَس بيوتها ويخرجون من فيها عل حالة شنيعة، بعضهم في الحديد وبعضهم في الحبال، فيسجنون ويجلدون.

ولا شك أن المعارضين للقهوة كان منهم أناس يخلصون لها الكراهة في ذاتها لما كانوا يرون من أثرها السيئ فيمن أدمنها من عامة الناس، فكثير منهم من تغيرت حواسه وساء عقله وتنكرت هيئته.

ولأنها كانت تباع في أماكن على هيئة الحانات يجتمع فيها الناس من رجال ونساء بالدف والرباب، أو بالشطرنج والمنقلة، وغيرها يلعبونها للميسر، فساء الأتقياء هذا المنظر القبيح، ووقع مشهده من قلوبهم موقع سوء.

وكان من الناس من يدس الخمر في القهوة فزادت كراهتها عند العارفين بذلك.

أما الحكام ممن كرهوا القهوة، فكانت أغلب كراهتهم من اجتماع الناس على تلك الصورة؛ وأوجسوا من هذا التجمهر خيفة. ولما كان حفظ النظام من أوجب واجبات السلطان، ولما كانت الفتنة من عمل الشيطان، كان لا بد من قتلها قبل أوانها، ودرء بوادر السوء قبل استفحالها.

ولعل أقوى من ناصر القهوة في هذا الصراع مشايخ الصوفية في كل البقاع الإسلامية: أحبوا الذات الإلهية وفنوا فيها وتغزلوا وشببوا بها؛ وكأن الغزل لا يحلو إلا بالصهباء، والتشبيب لا يكون إلا مع بنت ألحان، فاتخذوا من القهوة خمرهم، ومن فناجينها كؤوسهم، وذكروها وأكثروا ذكرها في أشعارهم، فقال ابن الفارض (سقتني حميا الحب. . .) وقال آخر من الأولياء الصالحين يصفها:

شرابُ أهل الله فيها الشفا ... لطالب الحكمة بين العباد

نطبخها قشراً فتأتي لنا ... في نكهة المسك ولون المداد فيها لنا تبر وفي حانها ... صحبةُ أبناء الكرام الجياد

كاللبن الخالص في حِله ... ما خرجت عنه سوى بالسواد

وقال آخر:

وقهوة لا غم تُبقي إذا ... قابلك الساقي بفنجانها

لا يوجد الغم بحاناتها ... قد خضع الغم لسلطانها

بمائل نغسل أكدارنا ... ونحرق الهم بنيرانها

يقول من أبصر كانونها ... أُفٍّ على الخمر وأدنانها

ولم تكد تستقر القهوة في الشرق العربي حتى تسربت إلى أوربا عن طريق القسطنطينية والبندقية في القرن السابع عشر الميلادي. وأنشئ أول مقهى في إنجلترا عام 1652م، ولم تلق القهوة في الغرب ترحاباً خالصاً كله، فقد قامت في وجهها معارضة شديدة على نحو ما عانته في الشرق، ففي ألمانيا كان لا بد لتحميص البن من رخصة يعطيها الحاكم، وفي إنجلترا حاول شارل الثاني أن يحرِّم المقاهي باعتبارها مراكز للقلاقل الثورية والنزعات الحادة السياسية. ولكن القهوة شاعت برغم ذلك ولعبت في الحياة الاجتماعية الأوربية في القرن السابع عشر فالذي يليه دوراً ذا خطر كبير. ومن أوربا انتشرت القهوة في كل بلاد الله، وكانت اليمن مصدر البن الوحيد إلى مختتم القرن السابع عشر، فأصبح بعد ذلك يزرع في بقاع كثيرة من أفريقية الحارة، وفي الهند الغربية، وفي الهند الشرقية، ولا سيما في البرازيل فهي البلد الذي ينتج الآن نحواً من ثلثي محصول العالم، والبن له كالقطن لمصر، وربما كان أشد خطراً.

والبن بذور لثمر شجرة دائمة الاخضرار، قد تطول إلى ستة أمتار والسبعة في منابتها الطبيعية، ولكنها تقصر عن ذلك كثيراً إذا هي زرعت، ولهذا الشجر زهر أبيض ناصع يكتسي به عند ازدهاره، فيكون له رونق وجمال يزيد فيها ما ينفح منه من عطر وطيب، لذتان للعين والأنف لا يطولان، فعمر الزهر بالغ في القصر. إلا أن الشجر يزدهر مرتين وثلاثا وأكثر من ثلاث في العام الواحد. وتطيب الثمرة بعد ازدهارها ببضعة أشهر، فيحدث من ذلك أنك تجد على الشجرة الواحدة ثمرات من ازدهارات متلاحقة، بعضها وليد وبعضها بالغ. والثمرة خضراء وهي فجَّة، فإذا أخذت في النضوج اصفرَّت ثم تستحيل الى لون أحمر قرمزي شديد. وتجنى الثمرة باليد انتقاء أو تترك حتى تسقط من الشجرة بهزها. وهي بعد ذلك تجفف بفرشها على الأرض في الشمس الحارة، وقد تترك حتى تجف على أغصانها. ثم يزال عن بذور البن القشر فالذي يليه من غشاء شديد اللصوق بالبذور كان لباًّ فجف وانضمر وذلك بالدق الخفيف في الهواوين، أو بضرب البذور بالمطارق. وحتى الفرك باليدين يكفي لتخريجها، وهذه طريقة اليمن وما جاورها من البلاد، ولكن بالبرازيل طرق أحدث من هذه لا تستدعي تجفيف الثمرة بل تدهك بالآلات دهكا فتفصل البذور بذلك عن لب الثمرة الطري.

ثم تحمص البذور على ما هو معروف في اسطوانات دوارة فوق النار فتفقد بذلك مقداراً من وزنها لا يزيد على الخمس، والمفقود ماء وبعض أبخرة تنشأ من تخلل الدهن والسكر الذي بالبذر وشيء من الأصل الفعال بالبن المسمى (بالقهوتين) وحرارة التحميص يجب أن لا تزيد على 200ْ درجة مئوية بكثير وإلا فقد البن الكثير من عطره. وإذا انتهى تحميصه وجب الإسراع في تبريده. ثم يطحن بعد ذلك. ويجب أن لا يطحن البن بل ألا يحمص قبل طبخه بزمن طويل فإنه يفقد عطره سريعاً، ويجب كذلك حفظه في أواني مغلقة فإنه شديد الامتصاص للأبخرة والروائح كريهة كانت أو عطرة فيمتص رائحة الجاز والجبن الفاسد. وأهم أغراض التحميص اثنان: أولهما توليد الطيب فيه وتوليد النكهة التي تُشهَّي القهوة إلى النفوس، فالبن الأخضر خال منهما، وثاني الأغراض تهشيش الحب ليسهل دقه، فالأخضر جامد مستعص، والتحميص صناعة لا يَحذِقها إلا القليلون.

ويحتوي البن على مواد كيمياوية عدة منها عطر ودهن، وهو كالشاي يحتوي التنين والقهوتِينَ الذي إن شئت أسميته الكافيين وأن شئت فالشابين، وهو الأصل الفعال في القهوة والشاي كليهما، ومن أجله يُشربان، وهو لا يتغير في القناة الهضمية وإنما يمتص كما هو في الدورة الدموية فيذهب إلى المخ فيكون له الأثر المحمود على نحو ما فصل في مقالة الشاي السالفة: من زيادة في قوة الفكر وإصابة الحكم وامتلاك النفس، ولكن استحالة الأفكار إلى أفعال قد تتعطل به، فيعتري الإنسان ترددُ، وذلك ليقظة العقل الشديدة، ويزيد حس الإنسان بكل ما سر وساء، وهو ينعش الجسم ويزيل التعب عضلياً كان أو نفسيا، ويؤخر النوم ويدر البول. هذه بالطبع فوائد كلها قد تنقلب مضار بزيادة المشروب من القهوة، فالقهوتين عُقَّار سام يصحب التسمم به تلهف إلى الماء وألم في المعدة والأمعاء، وقيء شديد وإسهال ودوار في الرأس وارتعاد في الأطراف. ويتضح أثر القهوتين من حالة رجل أدخل مستشفى (بلفي) بنيويورك به أعراض شديدة من سوء في الهضم بالغ، وفقر دم متناه، وعجز تام في الحركة، وأزمة في القلب بالغة، وضيق في الصدر شديد. كان هذا الرجل يشرب في اليوم 30 فنجانا من الشاي بلا طعام.

سباع البحر كادت تكسب الحرب

مات في الأسابيع الماضية القبطان الإنجليزي (ودوارد) مات في بلدة (رامزجات) بإنجلترا وله من العمر 82 سنة. وهو الرجل الذي خطر له في مدة الحرب أن يجري تجربة عُدّت في أول الأمر عرضا من تلك الأعراض التي تأتي للإنسان وقد أشتد خياله واحتد وتهيأ لدخول البيمارستانت، ولكنها عدت في آخر الأمر تجربة لو ساعدها الحظ لأنهت الحرب وحقنت الدماء ولو بغلبة فريق على فريق.

تلك التجربة هي رياضة سباع البحر على تتبع الغواصات الألمانية، وهذه السباع تشبه عجول البحر غير أنها أكبر منها، وله عُرف بيِّن وآذان كبيرة وحظ من الذكاء وافر.

بدأ هذا الرجل باستئذان السلطات الحكومية، والسلطات في العادة مرتابة حذرة جامدة محافظة، ولكن خطر الحرب يحرك الجامد ويذهب بالحذر، فأذنت له وحشرت إليه ما في البحر من آساد، فبدأ بدراسة الأصوات التي تصوتها الغواصة في الماء، ثم اجتهد فاخترع آلة تئز مثل أزيزها، وفي بحيرة راض هذه الآساد على إتباع هذا النغم أين سار في الماء، فأصبحت تتبعها أحسن اتباع، وفاقت في دلالتها على اتجاه الغواصة كل الآلات الطبيعية المعروفة، ووضعت على رءوس هذه الحيوانات البحرية كمامات من أسلاك الحديد تمنع أسماك البحر أن تقترب منها خشية أن تسترعي انتباهها فتحيد عن غرضها، ونجحت التجربة نجاحاً باهراً. ولكن. . . عرف الألمان ذلك بطريق الوحي أو الإيحاء فأجروا غواصاتهم مثنى وثلاث ورباع فهوشوا على السباع الآذان، وخيبوا التجربة للقبطان.