انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 680/صور سودانية. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 680/صور سودانية. . .

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1946



للأستاذ عباس حسان خضر

(هذه الصور من وحي عهد كان لنا بالسودان، وكان لنا فيه

أهل بأهل وإخوان بإخوان. . .)

المفرق:

هنالك على مبعدة من الخرطوم ومقربة من أم درمان يلتقي النيلان: الأبيض والأزرق. وكم وقفت أشاهد هذا الاقتران الدائم الخالد، وكم تفرجت بمرأى الموجة الزرقاء تجد في أثر البيضاء، هذه تتدلل وتتلوى، وتلك لا تيئس ولا تني، حتى تدركها أخر الأمر، فتمتزجان. وقد تعطف البيضاء على الزرقاء، فتسيران كحبيبين يمشيان الهوينى عطفا إلى عطف، حتى إذا قطعتا شوطا أمنتا بعده أعين الرقباء امتزجتا. . .

ولست أنسى تلك الليالي القمرية التي كان مديرو حديقة المقرن ينظمون فيها حفلات موسيقية راقصة، ولم يكن همي أولئك الراقصات من بنات الروم اللائى يملأن الخرطوم، ولا موسيقى الجيش المصري - لم يكن أولئك، وهن قيد النواظر. . . ولا هذه، على جلال خطرها، ليمنعاني من التسلل بين الأشجار على شاطئ النيل الأزرق، حتى أبلغ ذلك الرأس الذي ينتهي عنده الشاطئان المنتهيان، فأنظر كيف يتم اتحاد النيلين، على اختلاف اللونين. . . ثم يحتضن الشاطئان الباقيان النيل المتحد، فيسير بينهما، يبعث الحياة في واديه، ويومئ بالوحدة بين بنيه. . .

ساقية المرغني:

والنيل الأزرق قبل أن يلتقي بالأبيض يمر بشمال مدينة الخرطوم متجها إلى الغرب، وعلى شاطئه مما يلي المدينة شارع طويل واسع جميل، يبتدئ من شرقي الخرطوم إلى غربيها، ثم يدعها سائرا مع النيل الأزرق إلى المقرن

وذلك الشارع من أجمل شوارع الدنيا. . . يقع فيه قصر الحاكم العام، وقصر السيد المرغني، ومنزل مفتش الري المصري، وفندق فخم يسمى (الجراند أوتيل)، وما عدا ذلك دور لكبار البريطانيين. وقد وقفت على جانبيه أدواح ممتدة الأغصان كثيفة الأوراق، تك تسقف الشارع، فتقي السائرين لفحة الرمضاء، ولا تقع العين من خلل أشجار الطوارين إلا على صفحة النيل الزرقاء الصافية من جانب، وحدائق الدور الكبيرة الحافلة بشتى صنوف الثمار والأزهار من جانب الآخر، حتى تصل إلى قصر السيد المرغني الزعيم الكبير الذي يلهج الشعب السوداني باسمه وحركاته وسكناته - فترى هناك في مقابلة هذا القصر على حافة النهر ساقية يجرها ثور، تحمل الماء إلى حديقة القصر، وهي خاصة خص بها ذلك السيد الجليل. . . ولا تستهن بهذا الغلام الذي يحث الثور إذا توانى، فهو يشعر شعورا قويا ببركة سيده، ويثلج قلبه للقيام بهذه الخدمة، ويزدهي ببلوغه هذه المرتبة. . . ترى ذلك على وجهه، وتلمحه في ابتسامته الراضية المفترة عن أسنانه البيضاء الناصعة. . .

وبعد، فماذا تقول هذه الساقية، أو عم تعبر موسيقاها الواهنة في أنينها. . . القوية بتأثيرها؟

فهمتها مرة تتألم لوحدتها في هذه البقعة التي جعلت المدينة فيها رفع المياه بالطرق الآلية الحديثة، وبودها لو ترى لها جارات أمام قصور سادات كسيدها. . . ومرة أخرى أدركت ما ترمي إليه من ترتيلها المتصل الدائب الذي لا ينقطع غلا إذا غفل الغلام عن وقفة الثور، كأنها تدل على جدوى العمل المتصل يقظة الراعي. . . ومرة ثالثة سمعتها تزهي بأنها تروى وتطرب. . . وكثيرا ما قالت لي: أنت اليوم هنا، وغدا تكون هناك في الشمال. . . فهل ستذكرني؟

ربيع السودان:

في الوقت الذي يشتد فيه البرد بمصر حين يكون الشتاء - ينعم السودان بجو دافئ مشرق، تنبعث فيه الحياة، ويدب النشاط في كل شئ، ينشط الإنسان بعد أن ران عليه صيف طويل ثقيل، وتهش نفسه للطبيعة التي لانت له بعد شدتها، وتهدي إليه الأزهار شذاها مع الهواء الذي ينسى برقته ما كان من لفحه وهبوبه، ويكون النبات الذي ترعرع على فيضان النيل قد نضج وآتى أكله، فتكثر الخضراوات، وتعم الخيرات. . .

في ذلك الوقت (من أواخر ديسمبر إلى أوائل مارس) يكون الجو في السودان معتدلا، لا يكاد الإنسان ببرد فيه إلا في الليل، فإذا ما طلعت الشمس صبت حرارتها على الأرض كأنها مدفأة كهربية، وكأن الأرض كلها غرفة عملت فيها المدفأة عملها، فما ينتصف النهار، وتحمي الشمس، ويحل وقت الغداء، حتى يلذ أكل البطيخ الدائم هناك، كأنك في صيف القاهرة!

ونحن في مصر لا نكاد نتمتع بالربيع، إذ ينقلب البرد إلى حر، لا يفصل بينهما إلا أيام قليلة، كأيام السعادة، تشوبها تغيرات فجائية كما تشوب السعادة طوارئ الهموم والأكدار، أما السودان فإن الطبيعة تعوضه الربيع (الذي يسمونه شتاء) عن قسوتها عليه سائر العام بطول الصيف وشدة القيظ.

جمال الليل:

ولولا ليالي الصيف الجميلة لكان شواظا من نار، فالليل هناك في الصيف متعة أي متعة! لا يجلس أحدا ولا ينام تحت سقف، فكل بيت له حديقة أو فناء، حيث توضع (العنجريبات) في المساء، و (العنجريب): سرير صغير، خفيف الحمل، لين المرقد، ولم أر أجمل من ليل كنت أقضيه على (عنجريب) في حديقة منزلي بالخرطوم ن تتنزل إلى أشعة القمر من خلال أوراق الشجر، كأنها روح من السماء يهبط على نفسي بالطمأنينة والرضى. . . وتنعشني نسمات الليل الرفيقة، وينقع غلتي كوز ماء من (الزير) الصغير الذي يأخذ من (العنجريب) مكان (الكومدينو) من السري في حجرة النوم. . .

وماء ذلك (الزير) في ذلك الليل هو الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة وجده بحبيبته بالوجد به إذ يقول:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي: ... أتحب الفتول أخت الرباب؟

قلت وجدي بها كوجدك بالعذ ... ب إذا ما منعت طعم الشراب.

عيون المها:

وما دمنا بصدد روائع في السودان، فلا مفر من تينك العينين اللتين تبدوان في وجه المرأة السودانية، ولا تكاد ترى منها غيرهما، وهما حسبك! فهي ملففة بالملاءة البيضاء، ترى فتور عينيها في مشيتها، تصطنع الأناة والتمهل، وتعد ذلك من تمام الجمال والدلال!

ولست أدري ماذا أقول في تلك العيون ولم يدع الشعراء شيئا يقال فيها إلا نسبوه إلى (عيون المها. . .؟) على أنني قد رأيت المها، وتأملت عيونها، فلم أجد شيئا من جمال عيون السودانيات. . .

ويظهر أن إخواننا السودانيين يخشون السهام التي تنطلق من تلك العيون، فلم يسمحوا بعد للمرأة أن تنزل إلى جانبهم في ميدان الحياة العامة، فنواديهم خالية منها، وهي تحوم حولها، فما أشبه ذلك بما وصفه الشاعر:

كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يُثَقَّبِ

عباس حسان خضر