مجلة الرسالة/العدد 638/قبل الكارثة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 638/قبل الكارثة:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1945



اليابان الغامضة

(صورة لحياة هؤلاء الذين أقاموا أحد شعبين من أعظم شعوب

العالم تعصباً)

للأستاذ ويلارد بريس

لعل أهم ما يميز اليابان عنا معرفتها إيانا وجهلنا بها، فإن من أهم مبادئ الحرب هي (أن تعرف عدوك) كما أنه من ضروريات العالم في زمن السلم هي (أن تعرف جارك). فاليابان هو القطر الذي لا تستطيع أبصارنا أن تنفذ إليه، وكلما مددنا البصر نحوه لم نر غير صورة مصغرة منا، ولعل هذه الحال قد جاءت من خلل في المرآة التي تعكس صورتها لنا، أو لعلها من خداع أبصارنا. فقد تتلمذ اليابانيون علينا واستمدوا منا وسائلنا وأخذوا عنا طرقنا ويخيل إلينا أنهم قد أخذوا عنا كل ما يعرفونه.

إن سر اليابان يحجبه عنا تلك المرآة التي خاتلتنا وعبثت بنا، فقد بذل اليابانيون جهداً حثيثاً في سبيل منعنا من التسلل إلى شعاب حياتهم ومعرفة شيء عن دنياهم الغريبة. فاليابانيون لا يسمحون إطلاقا للأجانب بأن يتسللوا إلى بيوتهم أو يتعرفوا حياتهم الخاصة، وهما تكن العلاقة طيبة فإن الزائر يشعر دائماً بأن هناك حداً لا يستطيع أن يتعداه. وقد تزوج بعض الأجانب بامرأة يابانية وعاش حياة يابانية في منزل ياباني وكتب كتباً شائقة عن اليابان، ولكنه مع ذلك يعترف في النهاية بجهله باليابانيين، فقد جاء في آخر كتبه عن اليابان ما نصه: (منذ زمن بعيد قال لي أطيب وأعز أصدقائي من اليابانيين قبيل وفاته. . . عندما تشعر في خلال السنوات القادمة أنك لم تستطع أن تفهم اليابانيين إطلاقاً، حينئذ تكون قد ابتدأت تفهم شيئاً عنهم).

واللغة اليابانية تجعل التفاهم عسيراً، فقد استطعنا خلال خمس سنوات قضيتها في اليابان مع زوجتي أن نتكلم اللغة اليابانية بقدر ولكن لم نستطع قط أن نقرأها أو نكتبها؛ هذه الحقيقة تتمثل عند معظم الأجانب. وقد طلب بعض الأجانب من عميد أمريكي لإحدى جامعات طوكيو - وقد كان في اليابان منذ ثلاثين عاماً - أن يكتب مذكرة له باللغ اليابانية، فنظر إليه بدهشة ثم قال: كمن ساءه توجيه مثل هذا السؤال (إني لا أكتب اليابانية. . . نحن نتكلمها ولكننا لا نكتبها) ثم تركه واتجه نحو حجرة الدراسة ليحاضر طلبة يابانيين باللغة اليابانية.

ومن بين الصعاب التي تواجهنا أن نجد رجالا من بني جنسنا قد تملكوا ناصية اللسان الياباني حقاً ولا يتسرب الشك في إخلاصهم، وقد زار أحد الأخصائيين في كاليفورنيا اليابان في فترة مضت فسألته عن عدد الأمريكيين الذين صادفهم ممن استطاع أن يستوعب اللغة اليابانية. . . وبعد أن أعمل فكره قال أنه يعرف ثلاثة منهم. ومن الطبيعي أن يكون هناك في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أفراد يتقنون اللغة اليابانية، ولكن يبدو أن هذا العدد لا حساب له إذا ما قورن بعدد اليابانيين الذين يتقنون اللغة الإنجليزية.

وقد تساءل أحد الطلبة اليابانيين في عجب إذا لم تكن اللغة اليابانية تدرس في المدارس الأمريكية، وقد بدت هذه الفكرة مضحكة للوهلة الأولى، فكرة تدريس اللغة اليابانية في المدارس الأمريكية، ولكن بعد تدقيق النظر يبدو أنها لم تكن كذلك.

ويظهر أن للمعلومات الإنجليزية شأناً كبيراً في الحياة اليابانية، فهم يعتصرون من حضارتنا كل ما من شأنه أن يفيدهم. وقد رأينا كثيراً من الكتب الإنجليزية مكدسة في نواحي غرف الدراسة في إحدى جامعات الإمبراطورية أمثال (الذوق الأدبي لأرنولد بنيت) و (بيجماليون لبرناردشو) و (دكتورجيكل والمستر هايد لستيفنسون) وقد يستطيع أصغر التلاميذ سناً في المدارس الابتدائية اليابانية أن يكتب عن حياة وشنجتون أو أديسون أو فورد، وإنك لترى الكثير من حيطان غرف الدراسة خالية إلا من صورة للرئيس لنكولن.

لم تعد اليابان بعد في عزلة عن العلم فهي الآن تنظر إلى العالم كله وتحتاج اليه، ولم يكن لمحاكاة اليابانيين لنا في البداية أي ضرر، فقد مدحنا وكان لنا فيما وقع لبعض صغار اليابانيين من سهو تفكهة وتسرية لنا، فعندما سارت القطر الحديدية فيها للمرة الأولى وأخذوا يدفعون إلى ركوبها كانوا يتركون أحذيتهم على رصيف القطار لأنهم تعودوا ألا يدخلوا بيتاً قط وأحذيتهم في أقدامهم. وقد حطموا زجاج النوافذ عندما أخذوا يطلون برؤوسهم منها غير منتبهين إلى طبيعة الزجاج الشفافة، فكان لزاماً إذن أن يخط عمود ابيض على لوح الزجاج حتى يشعروا بوجود شيء صلب، كما علقت لوحات كبيرة على وجهات المحلات كتب عليها (هذا زجاج). وكانوا يراقبون أسلاك التلغراف محاولين رؤية الرسالة وهي تسير خلال السلك، وقد قال بعضهم أن السلك لابد أن يكون مجوفا، وقال البعض الآخر أنه لابد أن يكون متحركا، أما أهل القرى فقد قالوا أنه من عمل الشيطان. وعندما أدخلت المسرات لأول مرة قيل عنها أنها السبب في انتشار مرض الكوليرا الذي ينتقل من المتكلم إلى السامع. وقد ارتكب اليابانيون أخطاء كثيرة عندما حاولوا أن يقلدوا آلاتنا. وقد ساد الشعور بأن اليابانيين قد أصبحوا صورة لنا ولكنها صورة شاحبة جداً، ومع ذلك فقليل من يدرك أن هذه الصورة الفطرية الأولى قد تغيرن إذا نظرنا إلى ما طرأ على الحياة اليابانية الصناعية من تطور.

وقد علم صناع القطن في منشستر اليابانيين كيف يغزلون القطن ثم يبيعونه، وسرعان ما استطاع اليابانيون أن يصنعوا منه أقمشة قطنية ويرسلوها حول نصف العالم ثم يبيعوها ثمن أقل مما تباع به تلك التي صنعت في منشستر ذاتها. . . ولكن ليس هذا أسوا ما في الأمر، فقد اخترع اليابانيون نولا أوفر إنتاجا بمجهود أقل، فبينا نرى في مصانع لانكشير فتاة واحدة تباشر ثماني آلات نجد في مصانع اليابان أن فتاة واحدة تباشر ستين آلة. وقد أبت لانكشير أن تصدق ذلك إلا بعد أن غمرت المنسوجات القطنية اليابانية أسواق العالم جميعه بأثمان تتراوح بين الثلث والعشر من أثمان المنسوجات القطنية المصنوعة في لانكشير. . . ومن ثم تحول قطب الصناعة القطنية في العالم إلى اليابان حتى أن رجال الصناعة في لانكشير قد انتقلوا إليها ليدرسوا الصناعة القطنية فيها. وفي هذه المرة دفعوا مليون ين في سبيل الحصول على حق استخدام الأنوال اليابانية في مصانع لانكشير.

وفي نفس الوقت الذي بدا فيه الإنجليز يستخدمون الأنوال الجديدة أخذ المهندسون اليابانيون يبذلون جهدهم في سبيل تحسين أنوالهم وتصميمها بحيث يجعلونها أعظم كفاية، ويتمثل مبلغ نجاحهم في الحقيقة العجيبة الآتية، فقبل أن توقف الحرب الحالية حركة التجارة كانت تشتري اليابان قطنها الخام من الهند ثم تدفع مصروفات شحنه إلى اليابان ثم تصنعه وترسله مصنوعاً إلى الهند وتدفع تكاليف شحنه إليها كما تدفع ضريبة الجمرك، ومع ذلك كله فقد كانت تبيع إنتاجها منه في الهند بأقل من أثمان تلك المنسوجات القطنية التي كانت تصنع في الهند ذاتها. وفي منافسة اليابان للانكشير حيث مستوى أجور العمال ومعيشتهم عالٍ شيء، ومنافستها للهند حيث مستوى المعيشة والأجور منخفض حتى عنه في اليابان شيء اخر، فإن هذا يهدد الصناعة القطنية في جميع أنحاء العالم.

وقد احتلت اليابان منذ زمن بعيد الصدر في صناعة الحرير إذ كانت تنتج أكثر من 70 % من إنتاج العالم في الحرير، وليس هذا لملاءمة جو اليابان لصناعته فحسب، بل لأن اليابانيين أحدثوا من الوسائل وأدخلوا من الآلات الحديثة ما مهد لهم سبيل السبق في هذا المضمار. وقد بحث الغربيون عن وسيلة يستطيعون بها أن ينالوا من اليابان شيئاً في هذا السبيل فأنشئوا صناعة (الحرير الصناعي)، ومن ثم رأت اليابان أن صناعتها الحريرية قد أصبحت مهددة، ولكن سرعان ما استطاعت أن تنافسهم وإن تصدر من الحرير الصناعي أكثر مما يصدره أي قطر في العالم، أما تطور صناعة الجوت في اليابان فهو يصور ناحية مدهشة لمدى البحث العلمي فيها.

وأنه لتبدو لك فكرة واضحة عن صناعات اليابان إذا ما حلقت بين طوكيو وكوبى فوق العمود الفقري للصناعات اليابانية، وقد أطلقوا عليها (حلم قاذفي القنابل)، فليست هناك صناعات حربية لأمة من الأمم أوضح هدفاً وأسهل منالا للغارات الجوية مما هي في اليابان، ففي خلال ثلاث ساعات قد تستطيع قاذفة قنابل سريعة أن تصيب أهم أهدافها، ولكن من الخطأ أن تعتقد أن سقوط بعض القذائف فوق طوكيو قد تلحق بها أضراراً بعيدة المدى، فانك إذا نظرت إليها من عل وأنت في طائرتك علمت لماذا كان الأمر غير ذلك، فسترى شيئاً أشبه برقعة الشطرنج فيما عدا أن كل مربع يفصله عن المربعات التي تجاوره طرق فسيحة أو قنوات، فإذا سقطت القذيفة فوق إحدى هذه المربعات امتد فيها اللهب جميعاً ولكن تظل المربعات الأخرى المجاورة في مأمن منها. وقد لجأت اليابان إلى هذه الخطة على أثر زلزال عظيم لكي تحد من ضرر الحرائق وتحصرها في نطاق ضيق. وعلى كلٍ فإن طوكيو ليست أفضل أهداف قاذف القنابل، ففيها حقاً مصانع كثيرة ولكنها متفرقة، ولكن هذه الحال تختلف في ناجويا وأوزاكا وكوبى حيث تتجمع وتتكتل الذخائر والمؤن الغذائية والطواحين ومصانع الحديد وأحواض السفن مما لا يترك مجالا للشك في أن تصيب القذيفة هدفاً حيوياً، وحيث يبدو للملاحظ الجوي أن كل هذه المنشآت الصناعية اليابانية الحديثة هي بنات أفكار الغرب قد انتقلت إلى اليابان واستحالت إلى صورتها الراهنة في أقل من ثمانين عاماً.

ويشتهر عن اليابانيين أنهم يقلدون كل شيء ولكنهم لا يبتكرون شيئاً، هذه الصفة الشائعة هي نصف الحقيقة فقط، فهم يخترعون بالقدر الذي يقلدون به، ففي المكتب الإمبراطوري لمنح رخص الامتياز يشتغل نحو من 800 خبير يتسلمون كل عام نحوا من مائة ألف طلب لمنح رخص الامتياز، وفي كل عام يمنح نحوا من عشرين ألف رخصة امتياز، وإن مصانع أوربا وأمريكا لترقب باهتمام الاختراعات اليابانية وتقتبس كثيراً منها.

وأنه ليخيل إلينا أن آلاتنا الكاتبة تلك التي تحول ستة وعشرين حرفاً إلى كلمات معجزة من معجزاتنا، فما ظنك إذن بالآلة الكاتبة اليابانية التي تتجمع فيها مجموعة من الرموز لآلاف الحروف؟

وكان من بين ما عرض في أحد معارض الاختراع هذه المخترعات: آلة للصور المتحركة للاستعمال المنزلي، لجهاز التلفزيون يستخدم في البيت، سيارة تستطيع أن تنحرف بسرعة في شتى الاتجاهات، آلة تختبر بها البيضة إذا ما كانت طازجة دون أن تفتحها، مادة للبناء مصنوعة من قشر الأرز المهمل، آلة متحركة للتصوير تستطيع أن تلتقط 60. 000 صورة في الثانية وهي سريعة بحيث تصور حركة الموجات الصوتية.

وهناك جامعة غريبة ليس غرضها تعليم الفنون وإنما غرضها الرئيسي الابتكار والاختراع. وقد أخذتني الدهشة عندما دخلت بعض الدور حيث كانت تجرب وتختبر بعض الاختراعات الحديثة؛ فهنا أحد الباحثين الذين يبحثون في تركيب المطاط، وباحث آخر يجرب دهاناً للتلوين لا تكون له قشرة، وثالث يختبر مادة من الأسمنت لا تتشقق، ورابع يجرب عضواً آلياً يتحرك بنفسه دون أن يمسه أحد، فقط إذا ما مرره أحد يده خلال الهواء. وقد دخلنا مخزناً يشبه الثلاجة كانت درجة حرارته 40ْ فرنهيت تحت الصفر فتساءلت عن الفكرة في ذلك فعرفت أن الغرض من ذلك هو إيجاد جو يشبه شتاء منشوريا تجرب فيه مدى تحمل بعض المواد في مثل هذا الجو، وقد دخلنا غرفة أخرى كانت حرارتها عالية تبلغ 110ْ ودرجة رطوبتها 85 % وهي تمثل المناخ المداري داخل أربعة جدران، وانك ترى أن اليابان قد امتدت إلى المنطقة المدارية. ومن يدري لعلها تمتد في أحد الأيام إلى المنطقة الحارة. وعلى كلٍ فيجب علينا أن نستعد علميا لذلك اليوم إذا ما جاء، ولذلك فقد أنتجنا مواد للبناء وأطعمة وملابس وأدوية تلائم مثل هذه الجواء، ثم ذهبنا إلى أحد أقسام الهندسة حيث كانت تمارس بعض التجارب لبناء منازل من الحجر والصلب تتحمل هزات الزلازل وضربات القنابل، فإننا نعلم أن اليابان معرضة للغزو من الجو ولكن سيذهل العدو حينما يحس بالمقاومة العجيبة لمنازلنا الحديثة وهو فوق كبرى مدننا.

ويبدو لنا أن كل ياباني ينظر بإحدى عينيه الآلة التي في يده وبعينه الأخرى إلى السياسة الدولية، فقد قال الدكتور (كيفوشيتا) نحن نحب اليابان أولاً ثم العلم ثانياً. هذه هي أعظم نواحي اليابان العلمية خطراً ذلك أن يقتصر العلم على نفع اليابان دون العالم، فالعالم الحقيقي هو الذي يصادف انتشار المعرفة الإنسانية هوى في نفسه ولذة دون أن يحسب حسابا للحدود السياسية، ولكن لشد ما يدهشك من العالم الياباني أنك تراه يعتقد بهذه الأسطورة الخيالية التي تشير بأن الإمبراطور هو من سلالة آلهة الشمس، ولذلك فهو يستمد حقه الإلهي في حكم الأرض.

وقد أرهقت الحرب قوة الاختراع في اليابان، فقد تفادوا النقص في الحديد بصنع الراديو والمفصلات وقبضات أيدي الأبواب بالورق لمضغوط، واستعاضوا عن اللبد بمادة مصنوعة من عشب البحر والأصداف، وأنتجوا من قشرة السمك جلوداً يستعيضون بها عن النقص في الجلود، ولنقص الصوف صنعوا شيئاً يماثله من مادة السوباتين، ولحاجتهم لإبر الفونوغراف استعاضوا عن الصلب في صنعها بمادة البامبو، وصنعوا الدراجات من الورق المقوى بدلا من الحديد؛ وقد أنشئوا سيارات تسير بفحم الحطب بدلا من الجازولين.

والبحث عن اللآلئ هو أعظم أعمال اليابانيين مهارة، وفي العادة قد توجد في كل بضعة مئات من ألوف الصدف صدفة واحدة تحوى لؤلؤة، وأنه لأيسر أن نبحث عن إبرة في كومة من القش عنه في بحثنا عن لؤلؤة في داخل صدفة. وأنها لحيرة مسلية أن تزور إحدى مناطق اللآلئ، حيث ترى الفتيات يغصن لمسافات عشرين قدما في قاع البحر ليجلبن الأصداف التي توضع في قصعة ثم تؤخذ إلى المعمل لفحصها.

وقد كان منزلنا المصنوع من الورق على شاطئ البحر في هياما منزلا جميلا ولكنه لم يكن مريحاً، وكان علينا أن نعيش فيه عاما على أقل تقدير تلك الحياة التي يعيشها اليابانيون لنستطيع أن نفهمهم حق الفهم، ولكننا أحضرنا في نهاية ذلك العام بعض وسائل الراحة كالأسرة والمناضد والكراسي والمدافئ. ولتتخيل معي ليلة من ليالي الشتاء الرطبة في بيت بابه من الورق خال من المواقد اللهم إلا من موقد مملوء بالرماد الذي يعلوه بعض حطم الفحم الملتهب. ولا يمكننا أن نشعر بالدفء إلا إذا اقتربنا من اللهب؛ فصفير الهواء لا ينقطع من خلال شقوق المنافذ، وفي هذه الحال يمكنك أن تغلق النافذة الخشبية الخارجية، ولكن سرعان ما يسود الغرفة بذلك ظلام حالك. ومع ذلك يظل الهواء البارد نافذاً إلى الغرفة من خلال أرضيتها. ولكي تدفأ فعليك أما أن تنام أو تظل في حركة مستمرة؛ ولكن الإنسان لا يستطيع أن يظل في فراشه طويلا، وعلى ذلك يصبح الرد الطبيعي هو العمل. وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي يعزى إليها نشاط اليابانيين الدائم، فخير للياباني أن يحرث ويزرع في الحقول الملائ بالطين من أن يستكن في منزله، ولكن لسوء الحظ ليس لديهم حقول يزرعونها. وإن النتيجة الطبيعية لهذه الحياة الصعبة أن العسكري الياباني أصبح لا يحس في الميدان ذلك الإرهاق والضيق اللذين يحسهما الجنود الذين تعودوا حياة أرقى في مستواها.

وفضلا عن ذلك فإن اليابان يعوزها تقدير الحياة البشرية؛ فنحن نؤمن بأن نعيش لوطننا ولكن اليابانيين يؤمنون بالموت في سبيل وطنهم، فهم يتعلمون منذ نعومة أظفارهم بأن الفرد لا قيمة له. ولا يؤمنون بمذهب الفردية بل بمذهب الجماعة، فاليابانيون يميلون إلى العمل الجمعي وقد برعوا فيه. ولا يحكم اليابان دكتاتور بل يحكمها جماعة من الأفراد، وإمبراطورها يمثل رمزاً مقدساً. وإذا ما علا صيت أحد أفراد الحكومة أو علت منزلته فانه كثيراً ما يغتال. ويستذكر الطلبة دروسهم جماعة. وهناك مثل ياباني يقول: (إن يابانياً واحداً غبي واثنين غبيان)، وتتكتل جيوش اليابانيين جماعات، وهذه أحد الأسباب التي يعزى إليها بطولتهم في الحروب. وتبدو مهارة الطيار الياباني عندما يعمل مع سربه ولكنه حينما ينفرد يفقد ميزته كطيار ولكنه قلما ينفرد في حرب الجو أو في البحر والبر لأنها جميعاً تتطلب العمل الجمعي.

والانتحار شائع بينهم بكثرة، لأن الفرد يعتقد أنه لا يستحق وجوده أو يستأهل حياته إذا لم يحتفظ بنفسه كريمة بين أقرانه. وإن من المبالغة أن نذكر أن الجندي الياباني يرغب في الموت، بل أنه يفضل أن يعيش، ولكنه قد أشرب دمه فلسفة الموت تماماً. ولم يعلم حكمة البقاء التي تتيح له أن يحارب مرة أخرى في يوم آخر، فالجيوش اليابانية لم تدرب على خطط الانسحاب، لأنه لا يدور بخلدهم أن ينسحبوا. وقد صدرت التعليمات إلى الجنود بأن خيراً لهم أن يموتوا من أن يقعوا أسرى حتى لا تلحق برعاياهم الحطة والمذلة إذا ما أسروا، ولكن أي فخر قد يصيبهم عندما تعود أشلاءهم إلى الوطن، حيث تأله في معبد (باسوكوني) المقدس الذي يتوجه إليه الإمبراطور بنفسه، لينحني أمامه على روح هؤلاء الجنود الشهداء الذين ضحوا في سبيله.

عمر رشدي