انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 6/المبارزة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 6/المبارزة

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



للكاتب الروسي اسكندر بوشكين

لا يعبأ الذين يعيشون في العواصم بالحوادث الصغيرة لانشغالهم بما

هو أهم وأخطر. ولا يتصورون ما يكون لهذه الحوادث على ضآلتها

من الخطر والأثر في المدن الصغيرة والقرى البعيدة. . مثال ذلك

وصول البريد، ففي يومي الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع تكتظ مكاتب

المعسكر بالناس. هذا ينتظر نقوداً وذاك رسالة وهؤلاء يسألون عن

الصحف. كل يتلقف ما له في شغف واهتمام. وأذكر أن رسائل سيلفيو

كانت تعنون إلى معسكرنا، وانه كان يزورنا وقت وصول البريد

لتسلمها. وفي أحد هذه الأيام تسلم خطابا، فلما لمح اسم الجهة الصادر

منها حتى لمعت عيناه وأسرع بفضه وقراءته في تأثر وحماس.

وبالطبع لم يدرك أحد سواي هذه التغيرات التي بدت في ملامح وجهه

وحركات يديه لانشغال الجميع بقراءة رسائلهم.

وبعد لحظات التفت الرجل إلينا قائلاً (يضطرني العمل إلى مغادرة القرية هذا المساء، وأنا لذلك أدعوكم لتناول الغداء معي اليوم للمرة الأخيرة، وكلي أمل ألا أحرم من لقائكم جميعا) ثم أشار إليّ بالذات وقال (وكم أتمنى أن أراك بينهم!) ثم أسرع بمغادرة المكان كما أسرع كل منا إلى جناحه الخاص بعد أن اتفقنا على إجابة الدعوة.

ووصلت إلى منزل سيليفيو في الساعة التي عينها فوجدت ضباط الفرقة جميعا هناك، ورأيت كل أثاث المنزل قد جمع وربط استعداداً للرحيل، وأبصرت الجدران عارية من أغلفة الرصاص. . جلسنا إلى المائدة وأكلنا هنيئا وشربنا حتى ثملنا، وكنا نكثر من الخمر التي ما أن نصبها في الكؤوس حتى تغرينا بزبدها ورائحتها فنتجرعها، ولما انتهينا (وكنا قد أطلنا الجلوس) لبسنا قبعاتنا وهممنا بالانصراف راجين لمضيفنا العزيز التوفيق في رحلته، فأجاب شاكراً وأخذ يرد تحية ضيوفه واحداً واحداً حتى جاء دوري فأسر إليّ (إنني أريد أن أتحدث إليك برهة من الزمن!) فلم أر بداً من المكوث بعد انصراف الآخرين.

جلس كل منا قبالة صاحبه وأخذنا ندخن في سكون، وقد كان سيليفيو متعبا شاحب الوجه، وان عجبت لشيء فلم أعجب الا من هذا التغير الفجائي الذي بدا عليه، فقد غاض ذلك السرور الذي أشرق به وجهه ساعة الغداء، واختفى بريق عينيه وضعفت نظراته وأصبح منظره وهو ينظر إلى سحائب الدخان المتصاعدة من غليونه منظر الشيطان!

وبعد بضع دقائق قال: (قد لا نلتقي بعد هذا المساء، ولذلك أرى من واجبي أن أشرح لك بعض أمور لا أشك في أنك تساءلت عنها بينك وبين نفسك. . . وأنا وإن كنت لا أعير آراء الشباب اهتماما سأخبرك عما تريد لأنني أميل إليك وأعجب بك!) ولما رآني أسكت وأتحاشى نظراته أفرغ غليونه وواصل حديثه (لقد دهشت على ما أرى لتصرفي مع الضابط السكير رسيانوف في الليلة التي تذكرها ولا شك، وأظنك عجبت عندما علمت إنني لم أغسل الإهانة التي لحقتني ومع هذا فأنا اعتبر عدم إقدامي على مبارزة ذلك الأحمق كرماً مني، لأني (وقد كان اختيار السلاح لي) أثق بانتصاري عليه وقتله مهما كان السلاح، ومهما كانت طريقة المبارزة، ولكني في الواقع لا أملك حياتي!؟).

نظرت إليه في دهشة واستغراب. . . ومضى يقول: منذ ستة أعوام تلقيت ضربة من شخص لا يزال على قيد الحياة!؟ هنا زادت دهشتي فسألته مسرعا: أو لم تقابله؟. لا ريب في أن ظرفا خاصا منعك من لقائه فأجاب: (لقد قابلته، وهذا ما أسفر عنه لقاؤنا).

وقام وأحضر من صندوق قريب قلنسوة من القماش الأحمر لها زر معقود وضفائر مموهة مثل القبعات التي يسميها الفرنسيون ولما لبسها رأيت ثقبا يدل على أن رصاصة اخترقتها على مسافة بوصة واحدة من الجبهة!

وواصل حديثه قائلا (أنت تعرف أنني كنت في فرقة الفرسان الإمبراطورية، وتعرف خلقي فأنا أحب أن أسود الجميع، ولقد كانت هذه الرغبة في السيادة أيام شبابي قوية إلى درجة الجنون، وكانت لذة الشبان في المشاجرة وقت ذاك، ولهذا كنت شيخ المتشاجرين وزعيمهم في الفرقة، وكنا نفخر بالسكر والعربدة، أما أنا فكنت أفوق في الشراب (ب) الشهير في أغنية دافيدوف. . لي في كل يوم مبارزة أمثل فيها الدور الأول أو الثاني فينظر ألي زملائي نظرة الإعجاب، أما رؤسائي فكانوا يعتقدون أنني كالطاعون الذي لا خلاص منه ولا نجاة!

(وظللت أعيش وسط معالم الانتصار وعلائم الرهبة حتى نقل إلى فرقتنا شاب غني من أسرة نبيلة، وأنا لا أريد أن أذكر لك اسمه، ولكن ثق أنني لم أقابل شخصاً له حظ هذا الشاب، فيه كل ما تتصور من القوة والنشاط، وكل ما تحلم به من الجمال والرشاقة، وكل ما تتمناه من الذكاء وسرعة البديهة والرقة في الحديث بل كل ما تصبو إليه من الثروة والبذخ. . . فيه كل هذا وأكثر منه: إقدام غريب لا يعبأ بالخطر أو الموت، ولا يفكر في الهزيمة. . . فما أن وصل هذا الشاب فرقتنا حتى تلاشى نفوذي وزالت سطوتي، وقد أراد أول مجيئه مصاحبتي لما رآه من الزعامة المعقودة عليّ، ولكني قابلته بفتور ولذلك تركني دون أن يظهر عليه شيء من التأثر).

(وأقول لك الحق لقد كرهته لما رأيت من شغف الجميع به واحترامهم إياه ولما شاهدته من إعجاب السيدات به وتهالكهن عليه وكم حاولت أن أجره إلى الشجار معي بأسلوبي التهكمي اللاذع وسخريتي المتصلة، ولكنه كان يجيب على ذلك بسرعة خاطره وذكائه وميله إلى السرور. . كنت أجدّ دائما وكان يمزح دائما، وفي النهاية بينما كنا في منزل بولندي نحضر حفلة من حفلات الرقص أسررت في أذنه جملة مهينة لكرامته لما رأيته من شغف ربة البيت به وصدوفها عني مع أنها كانت تعبدني قبل أن تتعرف إلى هذا الشاب الغني الجميل فما كان منه الا أن صفعني، فأسرعت إلى سيفي وأسرع إلى سيفه. . وقامت الدنيا وقعدت. وفقد بعض السيدات صوابهن، واندفع زملاؤنا وحالوا بيننا وبين الشجار؛ ولكنا غادرنا المكان رغبة منا في المبارزة الصريحة حتى يغسل كل واحد منا الإهانة التي لحقته بالدم!

(وذهبت مع شهودي الثلاثة إلى المكان المعهود، وكنت أنتظر غريمي في قلق واضطراب. . طلعت الشمس وأخذت حرارتها تزداد شيئاً فشيئا، وأتى يتهادى في مشيته مرتدياً قميصه واضعاً رداءه الرسمي على كتفه، يحمل في يده قبعته التي ملأها بفاكهة الكريز ولم يكن معه غير شاهد واحد.

أقمنا الشهود في نقطتين تبعد إحداهما عن الأخرى باثنتي عشرة خطوة، وكان من حقي أن تكون طلقتي الأولى، ولكني رفضت لما كنت أخشاه من أخطائه في حالتي العصبية. ورفض هو الآخر ولذلك تركنا المسألة للمصادفة وكانت في جانب هذا الشاب الذي أفسده الحظ الحسن. أطلق رصاصته ولكنها اخترقت قبعتي ولم تصبني بسوء، وجاء دوري فشعرت أنه تحت رحمتي فأستطيع إذا شئت أن أسلبه نعمة السعادة بل نعمة الحياة. . نظرت إليه في شوق، وكنت أنتظر أن أراه ممتقعاً شاحب الوجه. ولكن خاب ظني لأني رأيته يأكل فاكهته في هدوء واطمئنان ويلقي بالبذور إلى ناحيتي فتتساقط تحت أقدامي).

(فكرت في نفسي ماذا أجني من أخذ حياة هذا الشاب الذي لا يعنى بالحياة! ولمعت عيناي عندما خطر لي خاطر غريب، وأفرغت بندقيتي وقلت له، يخيل ألي أنك لا تهتم كثيراً بموتك أو حياتك في هذه اللحظة، وأنك تعنى بأفكارك أكثر من عنايتك بالمبارزة. . ليكن ما تراه فليس عندي الرغبة في إزعاجك.

فأجاب: أحب أن تلزم عملك فقط، وأرجو أن تطلق رصاصتك ولكن يجب أن تذكر أن لك أن تطلقها في المكان والزمان اللذين تشاء، وأنا رهن إشارتك في كل حين!)

(غادرت المكان وأنا أقول لشهودي أنا لا أرغب في إطلاق رصاصتي في هذا اليوم وانتهت المسألة وقت ذاك على هذه الصورة

ثم أرسلت استقالتي من الجيش واعتكفت في هذه القرية المتواضعة وأنا لا أفكر في غير شيء واحد هو الانتقام، وقد جاء وقته!)

وعندئذ أخرج سيليفيو الرسالة التي تلقاها هذا الصباح من أحد معارفه (ولعله محاميه) يقول له في أن الرجل (المطلوب) سيتزوج في القريب العاجل من فتاة رائعة الجمال. . ثم مضى في حديثه يقول (وليس من شك في أن الرجل المطلوب هو عدوي الذي أريد الانتقام منه. وها أنا ذاهب إلى موسكو. وسأرى إذا كان يقابل الموت وسط أفراح العرس بالفتور الذي قابله به وقت ذاك. وفي يده رطل من فاكهة الكريز)

ولما نطق بهذه الكلمات ألقى بقبعته إلى الأرض. منفعلاً ثم أخذ يسير في الغرفة جيئة وذهاباً كما يسير النمر المحبوس! ولم أعترضه أثناء حديثه فقد ملك لبي واسترعى انتباهي وأثار في أنواعاً متضاربة من العواطف.

ودخل أحد الخدم يقول لسيده. إن العربة قد أعدت، وهنا تناول سيليفيو يدي وصافحني في حرارة، وركب العربة التي كان فيها صندوقان يحتوي أحدهما على أسلحة الرجل وبنادقه ويحتوي الآخر على أدواته وملابسه. . ثم حياني مرة أخرى قبل أن تتحرك العربة، وفي الحق لقد كان وداعاً مؤثراً. . .

عبد الحميد يونس