انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 56/نجار ونجار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 56/نجار ونجار

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1934


للأستاذ احمد أمين

استأجر دكاناً أمام منزلنا الأسطى حسن النجار.

وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مهزول الجسم، أصفر الوجه، ينتعل نعلاً بالية، ويلبس ثياباً رثة، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود، وأعلاه أحمر، وقد دفعه إلى الوراء ليظهر (قصته) من شعره، فرّعها فروعاً ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب.

ينظر إليك بعين منتفخة كأنه قريب العهد - دائماً - بنوم طويل ثقيل، ويمشي متطرحاً كأن في رأسه - دائماً - فضلة خُمار، وعلى وجهه غبرة كأن الماء لم يمسه أبداً، أقوى شئ فيه لسانه في السباب، وصوته في النزاع.

ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد ولا لعمله وراحته وقت محدد، يحلو له أحياناً أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يقيلون، وأحياناً يسره أن يتركه مغلقاً طوال النهار ويفتحه ليلاً حيث يبدأ الناس في النوم، فيضئ مصباحه ويخرج عدده وأدواته في الشارع، ويأخذ في نجارته ما حلا له ذلك، فحيناً إلى الفجر، وحيناً إلى الصباح، تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته؛ وأحياناً تنقلب دكانه في الليل حلبة الكميت، يتنادمون ويتشاربون حتى إذا تمشت الخمر في مفاصلهم، ودبت في عظامهم، ذهبت بهم كل مذهب، وأخذت منهم كل مأخذ. فتغنوا أحياناً، فوقع الغناء في نفوسهم أحسن موقع، وصاحوا جميعاً بصوت واحد: آه! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم - وأحياناً يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم.

وإذا فتح الدكان نهاراً فمعرض غريب، لا لجودة المصنوعات ولا دقة المعروضات، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتوا يطالبون بإنجاز أعمالهم، والشكوى من تأخير طلباتهم، ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس، وأحياناً يكون ما هو أدهى وأمر، إذ يكون قد سلم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه فلم يجد دولابه ولا كرسيه، لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعه وأضاع ثمنه.

وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضاً في النهار للسباب والمشاكل والخصومات والبوليس، ومنتدى جميلاً ليلاً لأهل السماح الملاح، إلى الصباح.

وأخيراً عدت من عملي يوماً فرأيت الزحام شديداً على دكان الأسطى حسن، وإذا جلبة وضوضاء، وصياح يملأ الآذان؛ وإذا المنادي ينادي لبيع عدد النجارة وأدواتها:

منشار في حالة جيدة!

عشرة قروش - أحد عشر - إثنا عشر

ألاوونا - ألادو - ألاتريه

وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان وفاءاً لكرائها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن. وكان شعوري إذ ذاك مزيجاً من غبطة وألم، وحزن وفرح فقد آلمتني خاتمته، وأفرحني ما منيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد.

ودعوت ربي جاهداً ألا يرغب في الدكان مستأجراً بعد، فإن كان ولابد فكواء أو عطار، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس، وقصرت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف وليس له من الزمن، ما يلفته لهذه الصغائر.

ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي - وكأن الدكان وقف على سكنى النجارين - فقد سكنها أيضاً هذه المرة نجار، ولكنه من صنف آخر - هو نجار رومي، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر، لأنه لم يكن في عمله شئ غير عادي، فهو يفتح دكانه وقت العمل ويغلقها عند الغروب، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين وأصوات السيارات.

دعوته يوماً لإصلاح دولاب، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه، ويختلف عنه في كل شئ آخر، جميل الهندام وإن لم يكن ثمينه، صفف شعره في أناقة ولمعان بينما اعتنى الأسطى حسن (بقصته) فقط - عمل عمله في هدوء وإتقان، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله، ويقدر نوع معيشته وما يلزم لها، فطلب ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضياً.

له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد لم أسمع صوته، ولم أسمع شاكياً من تأخر موعد أو تصرف سيئ. ولم يقلق راحتي كما أقلقها من كان قبله، فهو وإن لم يكن كواء أو عطاراً كالذي رجوت فليس شراً منهما، وتبين بعد أن الأمر ليس نوع الصناعة، وإنما هو نوع الصانع.

ونزلت بيتاً في ضاحية من ضواحي الإسكندرية، فرأيت (فيلا) جميلة على شاطئ البحر، لا يسكن مثلها - عادة - إلا من ورمت جيوبهم، وانتفخت محافظهم، راديو، وبيانو، وما شئت من أسباب النعيم ورفاهة العيش؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء، ويحزم وسطه بحزام، وعليه جاكتة بسيطة نظيفة، قد أرخى لحيته، ودفع طربوشه إلى الوراء، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها، وهو من الصنف اليهودي الذي نراه يجول في الشارع كل يوم يبيع (الدمور) و (الزفير) و (الباتستا). حيرني أمر هذه (الفيلا) بجمالها ونظافتها، وأمر هذا الرجل، يخرج صباحاً يحمل سلعته على كتفه وقد هزلت؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت، أم قريب فقير لأصحابه عطفوا عليه وآووه واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم؟ وفي الحق كان هذا لغزاً شغلني شرحه، وأعياني حله؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى اكتشاف الأمر وافتضاح السر: هو رب البيت! وهو عميد الأسرة، وليس فيها إلا زوجه وأولاده، ولكن كلهم يعمل، وكلهم يكسب: هذه خياطة، وإحدى بناتها معلمة بيانو، وهذا ابنه كهربائي، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف، وكل كاسب يعطي ما كسب لأبيه، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط، ثم هم جميعاً يعلمون كيف يعيشون، وكيف ينعمون بالعيش بأقل مصرف، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون.

قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر كان يجول أمام بيتنا أيضاً، يحمل سلعة كسلعة اليهودي، وينادي على (حرير المحلة)، وتصورته وبؤسه، وتصورت أسرته وبؤسها، وكيف يتحد العملان، وتتباين المعيشتان.

ثم نسمع الشكوى الحارة من العمال العاطلين، والمتعلمين العاطلين، ونسمع من يرجع العلة إلى تفشي الأمية حيناً، وإلى نوع الدراسة حيناً، وإلى غير ذلك من أسباب، وليس في نظري سبب أهم من نقص الأخلاق؛ ولست أعني أخلاق العمل، من معرفة طرق الكسب، وإجادة العمل، وحسن العرض، وعدم الأنفة من مزاولة الحرفة مهما حقرت، وضبط الدخل والخرج، وفوق ذلك كله العلم بفن الحياة.

احمد أمين