انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 539/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 539/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 11 - 1943


للدكتور زكي مبارك

الزواج بعد العشق - من هذه المحامية الحسناء؟ - قيمة

الصدق - بين الأدب والحياة - جزئيات! - سؤر الحديث

الزواج بعد العشق

في أحوال كثيرة ينتهي الزواج بعد العشق إلى الانفصال، ثم إلى العداء، بحيث لا يحب أحد الزوجين المنفصلين أن يسمع خبراً عن صاحبه في أي معرض من معارض الحديث. . . فما تعليل هذه الظاهرة وهي من الغرابة بمكان؟

كان المنتظر أن يكون الزواج المنبعث عن العشق أقوى وأمتن وأبقى من سائر أنواع الزواج، ولكن النتيجة تخالف ما انتظرناه، وتشهد بأن العشق يكون أحياناً من أسباب الطلاق. . . فما تعليل هذه الظاهرة، وقد قلت إنها من الغرابة بمكان؟

يجب أولاً أن تعرف موجبات العشق، لنرى كيف يمكن أن يصبح من منغصات الزواج، في أكثر الأحايين، فما تلك الموجبات؟

يخطئ من يقول إن العشق اتصال روح بروح، بغض النظر عما يساور حياة العاشقين الاختلاف الطارئ، وهو الاختلاف الذي تخلقه ظروف المعاش، وهي ظروف تتجدد في كل يوم بأشكال وألوان

أساس العشق أن يكون المعشوق صورة مثالية، صورة يراها العاشق نهاية النهايات في الجمال والجلال، صورة منزهة من كل ما يغض من نظارة الجسم وحلاوة الروح

ونحن نعرف أن العاشق لا يرى معشوقته ولا تراه إلا بعد تأهب وتهيؤ واستعداد، فيكون كل لقاء شبيهاً باللقاء المنشود في ليلة العرس، وتكون الأنفاس في حرارة محرقة لا يخمدها التلاقي، وتلاقي العشاق أقصر من طيف الخيال

وهذا البناء ينهدم حين يصبح العاشقان زوجين، ينهدم بسرعة، لأن المرأة لا تتجمل للزوج كما تتجمل للعاشق، ولأن الرجل لا يغازل الزوجة كما يغازل المعشوقة، وبهذا يضيع ما كان ينتظر الزوجان من سعادة الحياة، حياة العشق الذي لا يكدره فضول الرقباء، وهم يدريان أنهما بعد الزواج ينوبان عن الرقباء بالتجسس والسخافة والفضول!

العاشق لا يغفو أبداً، والمعشوقة لا تغفو أبداً، فأيسر انحراف من أحد الزوجين العاشقين يخلق متاعب لا تداوى بغير الفراق

أيكون معنى هذا الكلام أن ننهي عن الزواج بعد العشق؟

لا، فإننا نرجو أن يكون العشق من وسائل الزواج، وإنما ندعو إلى الفهم الصحيح لحياة الزوجية، وهي تختلف عن حياة العشق بعض الاختلاف أو كل الاختلاف

إذا تزاوج العاشقان فقد وجب أن ينتهيا عن دلال الحياة الغرامية، وأن يعرفا أنهما مقبلان على تكاليف ثقال يوجبها نظام البيت ونظام المعاش

الزوج الذي يصابح زوجته ويماسيها لا يطالب بما يطالب به العاشق الذي يلقى معشوقته من أسبوع إلى أسبوع؛ والزوجة في الأصل سكن للزوج، ومزية السكن أنه مأوى صاحبه في أوقات الفرح والترح، ولحظات التفتح والذبول، فمن واجب الزوجة أن تفهم أن الزوج لا يصلح في كل وقت للمطارحات الوجدانية، ولا يستطيع أن يبتسم في جميع الأحوال

إذا فهمت الزوجة المعشوقة هذه الحقيقة أمكنها أن تستريح من متاعب كثيرة، متاعب تخلقها الغيرة السخيفة، فقد ثبت أن الزوجة لا ترد سكوت الزوج عن الملاطفة إلى أسباب من اشتغاله بمتاعب الحياة، وإنما تردها إلى أسباب من اشتغاله بغيرها من النساء. والمرأة لا تدرك أن للرجال متاعب غير الاشتغال بالنساء!

وأنا لا أبتدع هذا الرأي، فقد التفت إليه أقطاب القصص الفرنسي، وعندهم عبارة يضيفونها إلى الزوجة عند معاتبة الزوج في أتفه الشؤون، وهي عبارة: (لم تعد تحبني)

'

وهي عبارة تعاد بحروفها في أكثر الأقاصيص، بحيث جنى عليها التكرار فلم تعد تثير الإحساس، برغم ما يصحبها من التوجع والأنين!

والظاهر أن المرأة تخلفت عن موكب الحياة، فهي لا تزال تنظر إلى النعيم بالعين الحيوانية، ولم تدرك أن النعيم صارت له ألوان من التطلع والتوثب والتسامي إلى مراتب لا تخطر للحيوان في بال

والحق أن الرقي العقلي والروحي والأدبي والمدني، الرقي الذي نقل الإنسانية من حال إلى أحوال بصورة تفوق أحلام القدماء بمراحل طوال طوال، هذا الرقي من صنع الرجال، وليس فيه للمرأة نصيب، وستظل في تأخر إلى الأبد، ما دامت تؤمن بأن النعيم في الحياة الزوجية هو نعيم الحيوان

ضعوا المرأة حيث وضعتها الطبيعة، ولا تدللوها أكثر مما فعلتم، يا أغبياء التمدن الحديث!

من هذه المحامية الحسناء

خصصت مجلة الشعلة صفحة لمقال دبجته إحدى المحاميات في تنفير الفتاة من الزواج، فما حجج تلك المحامية؟

لا حجج ولا براهين، وإنما هو دلال فتاة وجدت فرصة للتنويه بأنها ردت جماعات من الخاطبين، لتنعم بحياة الاستقلال، كأن الزواج عبودية لا ترضى بها غير الفتاة العاجزة عن الاستقلال!

نحن نعرف من سنن الحياة أكثر مما تعرف تلك المتمردة، نحن نعرف أن الفتاة لا تزهد في الزواج إلا إذا كان بها نقص في الحيوية، وهذا النقص يعتري بعض النساء وبعض الرجال، وهو السبب في شيوع العزوبية عند فريق من هذا الجنس أو ذاك، فلا موجب للتباهي بغنى هو أقبح من الإملاق

إن احتياج المرأة إلى الرجل دليل على كمال الأنوثة، كما أن احتياج الرجل إلى المرأة دليل على كمال الرجولة. وتباهي المرأة بزهدها في الرجل لا يقل قبحاً عن تباهي الرجل بزهده في المرأة. وإذا جاز للفتاة الجاهلة أن تقع في مثل هذا التباهي الأحمق، فصدوره عن الفتاة المثقفة إثم فظيع في نظر الطبيعة، والطبيعة تبغض الانحراف

وهنالك بدعة جديدة تمضغها بعض الفتيات، بدعة القول بأن الزواج يحكم على الزوجة بالتبعية للزوج، ونحن في عصر المطالبة بالتحرر والاستقلال!

وهذا كلام في غاية من الضعف، لأن تبعية المرأة للرجل تبعية طبيعية، وهي مجردة كل التجرد من معاني الاستعباد. وسيادة الرجل على المرأة سيادة تشريف، لا سيادة تكليف. وخضوع المرأة للرجل يزيدها جمالاً إلى جمال، ويؤيد رسالتها في تعمير الوجود

كنت ظننت أن تلك المحامية شخصية خرافية، ولكن محرر الشعلة أكد لي أنها شخصية حقيقية، وأني لو رأيتها لفتنتني بجمالها الوهاج وأقول إن الفتاة التي تنفر أترابها من الزواج لا تفتن أحداً، ولو كانت في جمال أفروديت، لأن سحر المرأة يرجع إلى الحيوية في الطبيعة الأنوثية، ولا قيمة للجاه المجلوب، جاه العلم والمال والجمال

جمال المرأة أنها مرأة، وجمال الرجل أنه رجل، فاتركوا هذه الحذلقة، وتجنبوا الجدال في شؤون يفسدها الجدال

قيمة الصدق

الصدق لا يقوم بأي ثمن، لأنه فوق التقويم وفوق التثمين، وما قال قائل في أي زمن أو في أي بلد إن الصدق آذاه بأية صورة من صور الايذاء، وما فاز فائز بغير الصدق، ولا خسر خاسر إلا بسبب مجانبة الصدق، فتدبر هذا القول ثم انظر أين أنت فيما اخترت لنفسك من مذاهب السلوك

إن اقترفت ذنباً فاعترف لتظفر بأول سبب من أسباب النجاة وهو الصدق، وتذكر دائماً أن الكذب لن ينجيك من غضب الله وإن صرف عنك غضب الناس. وأنا مع هذا واثق بأن من يبوء بغضب الله لن ينجو أبداً من طغيان الناس فالله يسلطهم على من يكذبون عليه أشنع تسليط، ليعرف أن الكذب على الله يلاحقه في كل مكان

لا تحوج القضاة إلى شهود، وكن أنت الشاهد على نفسك، فإن فعلت فسيصبح القاضي محامياً عنك، لتمسي وأنت من الناجحين

ومتى تقف أمام القضاء؟

إن الوقوف أمام القضاء الإنساني قد لا يصادفك في حياتك غير مرة أو مرتين على أسوأ الفروض، وقد لا يصادفك أبداً، لأن القضاء الإنساني لا يتعرض لغير من يتبجح بالاحترام، وأنت فيما أفترض تنزه نفسك عن مسايرة المجترمين والمتبجحين.

أنا أخاف عليك غضب المحكمة السماوية، لا لأنها قد تسارع إلى البطش بك، ولكن لأنها قد تملي لك إلى أن تفضح نفسك باقتراف الآثام الغلاظ، من أمثال الزور والبهتان

تعود الصدق مع الله في سرك قبل جهرك، وإن صدقت مع الله فستصدق مع الناس، ستصدق معهم صدق الترفق لا صدق التخوف، وستقضي دهرك وأنت من الأعزاء

لو سلطت إحدى الحكومات على أحد اللصوص ألف رقيب لاستطاع النجاة بأيسر مجهود من التحفظ والاختفاء، ولكن الهرب من غضب الله لن يتيسر، ولو اعتصم الهارب الأثيم بشعاب الجبال

اصدق مع الله لتذوق نعيم الصدق، ولتؤمن بأن كل شيء ما خلا الله باطل وأن رضاه أنفس من جميع الحظوظ

بين الأدب والحياة

كنت اليوم مقسم الفكر بين شجون من الأحاديث لا يتصل بعضها ببعض إلا برباط ضعيف، فأحاديث الصبحية كانت خاصة بمشكلات التعليم، وأحاديث الظهرية كانت تدور حول الزراعة، وأحاديث العصرية كانت حواراً بيني وبين أبنائي في مسائل منوعة الفنون، وأحاديث العشوية دارت في مكان لا تدور فيه الأحاديث إلا ممزوجة بالنجوى الرقيقة بين روح وروح. ثم كان الحديث مع الصديق الذي لقيني مصادفة وأنا راجع إلى داري، وهو حديث لم يطل، فقد انتهى في دقائق، ولكنه ترك في نفسي أشياء!

لو دونت هذه الأحاديث كلها لكانت ثروة أدبية، ثروة حية كل الحياة، لأنها مقبوسة من جمر الحياة، فمتى نجعل الأدب تصويراً لما نرى ونسمع وندرك في اللحظات التي تستيقظ فيها الحواس، أو الأيام التي تكثر فيها التجاريب؟

لو تحدثنا بصراحة عن المشكلات التي تحيط بنا في كل يوم لساد التجاوب المنشود بين القارئ والكاتب، ولأصبح الأدب تعبيراً صحيحاً عن المتاعب التي تساور هذا الجيل

إننا لا نملك الفرار من روح العصر، مهما تعالينا عليه، فلنا صلات يومية مع القصاب والخباز والبقال، ومن إلى هؤلاء من أصحاب الحرف والصناعات، ولنا صلات بمن نراهم في الطريق كل يوم، ولو كانوا في الظاهر من المجاهيل

جزئيات!

هي جزئيات مضحكة في نظر القارئ الذي لا يرى للأدب حياة في غير الحديث عن النجوم والأزهار والرياحين، ولكن لها مغازي تستحق الشرح والتوضيح، وتستأهل اهتمام الأديب الحصيف، وإليك طائفة من هذه الجزئيات

1 - من النادر أن يقدم راكب الترام ثمن التذكرة إلى التذكري بدون أن يحوجه إلى الباقي، ومعنى هذا أن الشخص الذي يركب الترام مرة أو مرتين في اليوم لا يفكر في إعداد ثمن التذكرة، وأنه لا يتأذى من رؤية التذكري وهو يحار في صرف النقود لعشرين أو ثلاثين من لركاب، مع أنه يقوم بهذه المهمة الثقيلة وهو على حافة الترام وفي قلق لا يحتاج إلى بيان

ولو كتبنا مقالة في استهجان هذه المعاملة لوجدنا من ينكر أنها مقالة أدبية، لأنها خلت من الحديث عن الأزهار والنجوم والرياحين

2 - هذا موظف يركب الترام في بدلة نظيفة وإن لم تكن جديدة، لأن العمل في الدواوين يوجب أن تكون الأثواب على جانب من القبول، وهذا عامل يركب الترام وثوبه مزيت، لأن شغله لا يمكنه من تغير الثوب في كل انتقال، وهو مع ذلك يرى من حقه أن يجلس بجانب الموظف غير مبال بما سيصنع ثوبه المزيت. . . هل نكتب مقال في النهي عن هذا الصنف من السلوك؟

وإن فعلنا فسنجد من يقول إننا نجسم الفروق بين الطبقات

3 - هذا فلاح يسئ معاملة المالك، فيأخذ خيرات الأرض، ويترك المالك في حيرة إلى أن يستنجد بالقضاء. . . هل نستطيع تأنيب الفلاح على هذه الألاعيب؟

إن فعلنا فسنجد كتاباً يبكون حظ الفلاحين بدموع التماسيح!

وخلاصة القول أن الأدب لا يحيا كل الحياة إلا إن عبر عما في الصدور تعبيراً يشمل جميع الألوان، ألوان الإحساس بما في الحياة من آلام وآمال، بلا استثناء للجزئيات الصغيرة في الحياة اليومية

سؤر الحديث

السؤر هو البقية، فما بقية هذا الحديث؟

حين أنست القاهرة بزيارة الوفد السوري، الوفد الذي تقبلته مصر بأحسن القبول، تذكرت أن الأستاذ محمد خالد حدثني أن جماعة من أدباء سورية ضاقت صدورهم بأدبي، فاعتزموا إرسال وفد يقنع مجلة الرسالة بوجوب التخفف من مقالاتي!

فمتى يجيء الوفد السوري الجديد؟ متى يجيء فتستريح (الرسالة) وأستريح؟

الحق أني لم أفكر يوماً في ملاطفة قرائي، وهل ألاطف نفسي حتى ألاطف قرائي؟ أنا أمشي على الشوك في كل سطر أو في كل حرف، وما يعجبكم أو يغضبكم لا يخطه القلم إلا بعد أن يعتلج في الصدر أياماً وليالي وأسابيع

وما حاجتكم إلى كاتب لطيف لا يكتب في غير ما تحبون؟ ألم تروا كيف تقهرنا الحياة على الاعتصام بالرموز والتلاميح؟

إن الذي يغضبكم مني هو السر فيما بيني وبينكم من جاذبية يعجز عن إخمادها الزمان

زكي مبارك