مجلة الرسالة/العدد 478/أرواح وأشباح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 478/أرواح وأشباح

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 08 - 1942



للأستاذ خليل هنداوي

لقد صدق حدسي! وهاهي تمر كرجع الطرف تزورنا فيها مواكب جديدة لهذا الشاعر المبدع من (أرواحه وأشباحه) والحق أن هذه القصيدة الجديدة تعد بذاتها فاتحة (للشعر العربي الحديث) الذي آن له أن يخلع تلك الثياب الرثة التي بالغنا في ترقيعها وتزويقها، حتى نصلت صبغتها، وبليت جدتها! ومما يزيد في قيمة هذه القصيدة أنها أول قصيدة تلدها مصر من الشعر الصحيح، ولا نستطيع القول أنها مبتكرة بأسلوبها وغرضها، لأن بعض السوريين سبقوا إلى هذا النوع من القصائد الواحدة التي يختلف وزنها وقافيتها، ويبقى غرضها واحداً. وأعرف من هذه القصائد (المواكب) لجبران خليل جبران، و (بساط الريح) لفوزي المعلوف، وعبقر (لشفيق المعلوف) و (إرم ذات العماد) لنسيب عريضة، ولكن قصيدة شاعرنا (الملاح التائه) قصيدة وحدها بميزاتها وغايتها، لأن صاحبها اتجه بها شطر الفن الخالص، وجردها من أي غرض يرمي بها إلى الأبتدال، اعتقاداً منه بنظرية (الفن الخالص للفن الخالص) بينما نجد قصيدة (المواكب) تزحف في جو ثقيل مرهق بالفلسفة الشاكة الحائرة، وقصيدة (على بساط الريح) ترمي إلى غرض فلسفي أخرى توجهه العاطفة، وقصيدة (عبقر) تكاد تكون أكثر تجرداً للفن؛ أما قصيدة (إرم ذات العماد) فهي أشواق صوفية هائمة على رمال الوجد والحنين. وأصحاب هذه القصائد جميعها ثائرون على ماضي الشعر العربي وأسلوبه الضيق الموروث، ولذلك تجردوا من قوالبه، وانطلقوا من غاياته، وانقادوا إلى عوالمهم الذاتية المجردة، ولكل غايات استقبلها وبلغها بمقدار ما هامت نفسه، وسما فنه. ولعل أبرز ما في (هذه القصائد) هذه الوحدة في الغاية، تنطلق معها من فاتحتها إلى خاتمتها. وإنا لنجد هذا النوع غريباً في أدبنا، لأن الأدب العربي لم يسجل مثله، في حين أن الآداب الغربية طافحة بهذا النوع الذي يدل على امتداد الفن، وبعد الغرض، وسمو التحليق. وهنالك دواوين قائمة بنفسها لتوحي إليك بفكرة واحدة، على طرائق مختلفة، كهذا الذي فعله الشاعر الفرنسي - فرناند جريك - في ديوانه جمال الحياة، فجمال الحياة فكرة تفاؤلية تسيطر على نفس الشاعر، والشاعر في كل مظهر من مظاهر الكون يتوسم هذا الجمال، ويتغنى به، ومهما يكن من شيء، فإن هذا يدلنا على أن الشاع الحقيقي يعتنق رسالة أو فكرة يجمعها من مزاجه الخاص يحاول أن يبثها ويبشر بها

كانت هذه القصيدة بيدي فتناولها صديق لي أديب فما لبث أن أبدى نفوره منها واستنكاره لهذا الضرب من الشعر لأنه خالٍ - بحسب اعتقاده - من الغاية والغرض؛ وما كنت بلوَّام لمثل هذا الصديق على اعتقاده، لأن المدرسة الشعرية العتيقة لا تزال على اعتقادها في أن الشعر خاضع للغاية ينزع إلى الحكمة أو إلى القومية، أو. . . أما هذه القصيدة فما نزعتها؟ وما غايتها؟ إننا نحب أن نعتق شعرنا من هذه التقاليد، ونرفعه من هذه الأغراض الدانية، لنتوجه به شطر الفن الخالص. إذ أن الشعر العالي لا يتجلى في هذه العواطف الصافرة التي تؤز فوق الرؤوس، ولا في هذه الأصباغ الكثيفة غير المتناسقة؛ وإنما الشعر هذه اللمحات الفنية الهادئة والرعشات الوديعة التي تذكرك برعشة الطبيعة حين يقظتها. ومن عجب الدهر أننا نتخطى تعاليم المدرسة القديمة، ونلمس نقائصها، وننفي أكثر شعرها، ثم نرى من لا يزال يتحمس لها، ويناضل من أجلها الآن نستطيع القول - إزاء هذه المقطوعة - أننا إزاء قصيدة شعرية بلغت من السمو والفن والدقة ما لم تعرفه قصيدة عربية من قبل. ولكي يستطيع الشاعر أن يبث لمحادثة الفنية لم يجد إلا جوَّاً يونانياً. والعلة في ذلك أن الجو العربي نفسه محدود الشاعرية، محصور الخيال، ليس فيه هذه الوثبات التي توحي للشاعر المطلق أن يحلق في جو مطلق، فليس في هذا الالتجاء نفسه ما يعيب الشاعر أو القصيدة، لأن الجو اليوناني - في اعتقادي - برئ من كل غرض، يملكه الفن وحده ولا يجد الأدباء الغربيون حرجاً في الرجوع إلى هذه المملكة الغنية بشوارد الفن، على رسوخهم وغناهم. ولأدبائنا الحق في تفهم الأدب اليوناني والفن اليوناني. بعد أن درس العقل العربي العقل اليوناني، كانت بينهما صلات متينة، وجولات مشبعة بروح الصداقة. والفن اليوناني - على اعتقادي - أشد ضرورة للعرب من الفلسفة اليونانية

أشخاص هذه القطعة أشخاص يونانيون لهم محلهم في الفن اليوناني والجمال اليوناني. وقد أحسن المؤلف صنعاً في الإعلان عن كل شخص في مقدمته. ومن هؤلاء (سافو) الشاعرة الإغريقية، وتاييس الراقصة الأثينية، وبلتيس صاحبة الشاعر الإفرنسي (بيرلويس). أما الحديث فيدور حول روح شاعر يبعث بعثاً جديداً يزف إلى الأرض كالشبح العابر. أو الوهم مثله الخاطر. تعرفه إحدى الحوريات أو الأرواح - تاييس - وتقوله لسافو إنه (فتى تملأ ألحانه الأرض غداً). وبلتيس يؤلمها أن يمر متكبراً، وقد أصابته لوثه أهل الفنون فليمض شقياً! أما تاييس فهي أكثر إشفاقاً عليه. لا تلومه لأنه (كف عينيه برق الحياة) فتحاول بيلييس أن تثير حقد صاحبتها فتذكر لها ما صنع أترابه الشعراء من قبل يوم أغووا حواء ولدات حواء. والمرأة - دائماً - حديث الفن!

أنالته أجمل أزهارها، ... فأهدى لها شر أزهاره!

ولعل هذه الأزهار تذكرنا بأزهار بودلير!

وهنا نستشهد بيلتيس بقصيدة (الحية الخالدة) التي قدم لها صديقنا الأستاذ الكيالي بأن المرأة هي الحية الخالدة التي يشتهيها الفنانون والشعراء رغم لدغاتها. وفي هذه القصيدة يهبط الشاعر بمعشوقته من المنزلة العالية التي تصورها فيها إلي المنزلة الدانية التي تضج بها الشهوة الجائعة؛ وتصبح فيه المرأة كتلة من لحم يثير الدماء بعد أن كانت جمالاً صور من نقاء - فانحدرت المرأة وانحدر بانحدارها الرجل لأنه أصبح شيئاً ككل الرجال، وأصبحت هي شيئاً ككل النساء

أما بيليتس فلا تحب أن تعتقد بخطيئة المرأة؛ لأن الرجال. . .

وكم في الرجال سعار الوحوش ... إذا لمسوا الجثة الدافئة. . .

أما المرأة. . .!

ألم ينسم الخلد من عطرها ... ألم يعبد الحسنَ في زهرها

ألم يقبس النور من فجرها ... ألم يسرق الفن من سحرها

شفت غلة الفن حتى ارتوى ... وإن دنس الفن من طهرها

وهامت على ظمأ روحها ... وكم ملئوا الكأس من خمرها

والمرأة تبقى بعد هذا أحجية الفن.

(خطيئتها قصة الملهمين) ... (وإغراؤها الفرح المفتقد)

لقد قربت جداً عارياً ... وقلباً يضن بأسراره

ثم تنتقل هذه الغواني من حديث الشعر إلى الفن الممثل في - تمثال جميل - فلا تجد سافو الفنان أعلى روحاً من الشاعر لأنه كمثله.

غداً يستغل غرام الحسان ... سبيلاً إلى الشهرة الذائعة يصيب بهن خلود اسمه ... وهن قرابينه الضائعة

ولكن بيليتس تريد أن تنتقم لنفسها ولأترابها، وتطلب النزول إلى الأرض.

لنشرب من دم هذا الفتى ... مصفى الرحيق بأكوابنا

ونجعل من حشرجات الرجال ... تحية شاد لأنخابنا

ولكن تاييس تدرك أن الجمال والحب يضيع عالمهما بدون الشعراء والفنانين فتقول:

إذا خلت الأرض من طيرهم ... فمن ذا يحي الجمال القسيم؟

فتغضب بيليتس وتعود إلى حبها المعروف، كما أوحته (أغاني بيليتس)، هذا الحب الذي ليس به حاجة للرجال!!

وهنا تستعر المشادة بين وتاييس وبيليتس، هذه تميل إلى كل هوى بين أثنين، وتلك تمثل هوى المرأة المتعلق بالرجل، وترى هذا الهوى ضرورة لا مناص منها لحياة الفنون. والجمال وحده هو الذي يهذب قلب الرجل، وينيم فيه الشرس المستخف!

وبعد محاورة تختلف ألحانها بين هؤلاء، يعود الإله - هرميس - الذي ترك الشاعر على أفق الأرض، فيرى حورياته في غضب وثورة، فيصف لهن هذا الفنان الذي ساء أمره عندهن، وفي وصفه أروع ما وصل إليه فنان وهو يتحدث عن الفن. . .

الفنان عنده. . .

يسف إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلي قمة لا ترام

ويُسقى بكأس إلهية ... مرنقة بالهوى والأثام

هو المرح الشارد المستهام ... شرود الفراشة عند المساء

ولعلك تلمس معي هذه القطعة المزدحمة باللمحة الفنية التي تظن أنها لا تنزل إلا على الشعراء الملهمين

أرته السماء أعاجيبها ... وروته من كل فن بديع

فضن بلألاء هذا الجمال ... وخاف على كنزه أن يضيع

أبي أن يبدده ناظراه ... فأطبق جفنيه ما يستطيع

فإن شارف الأرض نادت به ... ففتح عيناً كعين الربيع

أتستطيع أن تحدد لي عين الربيع هذه؟ ألمست معي هذه الدنيا من الرفيف والألوان والأعاجيب؟

ولا يزال - هرميس - يصف لحورياته هذا الفنان حتى يستل من أفئدتهن كل سخيمة ويعدن راضيات عنه، مؤنسات بفنه، مغضيات عن عثراته. لأن عثرات الفنان بشائر للفن، والفنان نفسه يعبد المرأة - على ما تحمله إليه - لأنه كما يقول:

وكانت حياتي محض اتباع ... فصارت طرائف من فنها

وكان شبابي صمت القفار ... ورجع الهواتف من جنها

فعادت ليالي الصبا والهوى ... أرق المقاطع في لحنها

وأفرغت بؤسي في حضنها ... وأترعت كاسي من دنها

وهكذا تنتهي القطعة برحيل الشاعر، بعد أن ترك في حورياته نظرات العطف والابتسام

هذه هي القصيدة التي أهداها الشاعر خالصة لوجه الفن، سلسة التعبير، لينة القوافي، هائمة الألوان، ولن يغني عن قراءتها شيء من هذا الموجز المشوه الذي ذكرته، لأن القطعة الفنية لا تنقل

والذين يتذوقون الشعر المجرد، ويحبون الفن المجرد، سيستمعون في هذه القطعة خير لحن يجاوب ألحانهم، ويتذوقون منها أصفى سلسال يروي ظمأهم

حقاً إن هذه القصيدة طليعة تلك المواكب الجديدة الهائمة في تيه المرح والعذاب والحب، وستتلو هذه الأرواح أرواح، وهذه الأشباح أشباح، ما دامت هنالك قيثارة صافية النغم، ومخيلة مجردة الخيال، هي قيثارة ومخيلة ملاحنا التائه.

(حلب) - (الحديث)

خليل هنداوي