مجلة الرسالة/العدد 452/لكي تعيش. . .!!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 452/لكي تعيش. . .!!

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 03 - 1942



للأستاذ م دراج

أليس عجيباً أن يتعارض المنطق من القانون؟ إن منطق الحياة ليقول: الحياة تبرر نفسها! ولكن القانون لا يخضع دائماً لمثل هذا القول! (الحياة تبرر نفسها) منطق عجيب حقاً بنسف دعائم الجريمة والعقاب، ومع ذلك فالقانون باق، وسنة الحياة لا تتغير! أجل. . . إن القانون يثور على المجرمين، ولكنه لا يفهم لماذا أجرموا؟ يصليهم العذاب في أركان مظلمة يسميها (دور التأديب والإصلاح)! ولكن هذه الدور تزداد دائماً، وتتسع، وتكتظ، ومع ذلك يصر على إنها ليست للإفساد، لسبب الانحطاط في طبقة ما من الأمة، ويتعلل بتدهور أخلاقها، ثم ينسى التفسير الصحيح لهذا التدهور، وكيف تسببت أعراضه وتفاقمت، لأنه لا يريد أن يقول: إنه الجوع أو الجهل، أو الحرمان أو الفقر بمعنى أقرب وأوضح. . .

هذه هي القصة، قصة المرأة التي خلقت التاريخ، وبقيت المحور الذي تدور عليه حوادث العالم حتى اليوم. . . رأيتها بالأمس تسير الهوينا إلى جانب الطريق: تتصفح الوجوه صفحة صفحة بعينين لهما منطق مفضوح! لقد طال سيرها على غير هدى، حتى كاد التعب يهوي بفرعها إلى الأرض، فأسندت ظهرها إلى جذع شجرة عتيقة كمن يريد انتظار شيء معلوم. . . فوقفت على بعد منها، لأني لمحت على وجهها سمة التضليل واضحة، ولم يخف عني أنها تنتظر المجهول. . . المجهول الذي يقودها من هذه السوق التي أقامتها مدنية القرن العشرين لتجارة الرق المشروعة، فماذا رأيت؟ رأيت قطعة من جسم الإنسانية، تتمرغ في الوحل، والناس يطربون لهذا المنظر البشع، ويتهافتون على مشاهدته، فبعضهم من ذوي (الرؤوس البيضاء) كانوا يرمقونها بنظرة التهكم والسخرية؛ أما البعض الآخر فمن ذوي الشعور اللامعة والحواجب المزججة، فإنهم يصارعونها النظرات أولاً ثم يفتشون في مظهر الثديين، ثم يهبطون بأنظارهم حتى قدميها، وكثيراً ما كان بعضهم يتعمد المرور من ورائها ليطمئن إلى حكمه الأخير! وهم لا يكفون عن اللف والدوران، وكأنهم جيوش من النحل تطوف حول زهرة من أزهار الربيع. . . إن منظرها على هذا الوضع ليضايقني ويثير في غيرة لا أعرف مصدرها، لعلها الثورة على الإنسانة الذليلة، أو لعلها الأنانية التي لا يخلو من بعضها كائن بشري. . . وجدتني مضطراً إلى الابتعاد، فقد كان يؤلمني أن أكون أحد المتحفزين للدخول في صفقة كهذه. ولم أكد أبتعد خطوتين، حتى أعود فألقى عليها نظرة أخيرة، فأجد سيارة ضخمة لها طنين العظمة والكبرياء تتباطأ رويداً رويداً، ثم نقف عن الحركة، ويتحرك بابها، ولا ينزل منه أحد. . . لقد حجبت عني هذه السيارة منظر الفتاة، فقفزت كذلك خطوتين بعض الشيء، وخيل إلي إنها تسأل عن الثمن. . . وأخيراً تقفز إلى جوار السائق وتندفع السيارة بصيدها الحرام، مخلفة وراءها عثاراً مشيعاً بدخان العظمة والكبرياء. . .

ويضيق صدري، فأمشي مسلوب العاطفة والفكر معاً. أمشي أنا أيضاً على غير هدى، هنا وهناك لا ألوي على شيء. وفجأة أسمع طنيناً بعيد إلى صوابي، فأدرك أن حياتي كانت معرضة للخطر، كنت مهدداً بالفناء من هذه السيارة الماجنة، فقد وقفت مني على بعد أمتار. وألقت صيدها المذبوح إلى الطريق! وعلى غير وعي مني أتبع خطواتها، فهي تسير في نفس الاتجاه الذي يصل بي إلى مسكني. ولكني لا آبه بالوقت، ولا بحاجتي إلى الراحة، وأتابع السير وراءها حتى تعرج على دكانه تبيع (سمكا مشويا) ثم إلى بائع الخبز فتبتاع منه حاجتها. . . وتواصل السير وأنا أتبعها. . . لقد اندفعت اندفاعاً غريباً لأعرف شيئاً عن قصتها. سلكت شوارع مظلمة، وحارات، ودروباً ما كنت أتصور أن القاهرة، هذه المدينة الجميلة الضاحكة. . . ذات القصور والفنادق والملاهي والأحياء التي تضارع أرقى العواصم في الغرب، هذه المدينة التي يسمونها كذباً وتضليلاً عروس الشرق، تضم هذه المباءات القذرة، تلك التي لا تجد لها مثيلاً بين زنوج أفريقيا أو بلاد نيام نيام أو أي أرض شئت

وأخيراً أراها تحيي أمها العجوز، وتنحدر إلى باب مسكنها الغائر في بطن الجبل. فأتذكر المرأة التي أمر بها كل يوم وهي جالسة إلى صندوق القمامة تفتش فيه جاهدة عن شيء يؤكل، والرجل الذي تسلل إلى فضلات طعام إحدى الفرق المعسكرة، فأرداه الجندي صريعاً بالرصاص. والفلاح الذي يأكل الحشائش من الأرض كالحيوان. والعامل الذي يقسره الجوع أن يسرق قطعة من (العجوة) ليبلع بها رغيفه. . . كل أولاء كهذه المرأة هم في العذر والحاجة سواء. لقد فقدوا كل إحساس لأنهم جياع فما يهمهم عرف ولا قانون. وهل في عداد القوانين التي تنظم حياة المجتمع قانون واحد يجنب الفقير عواقب الشطط!! آه. .

لقد تذكرت! هناك السجون! وهل رأيت في السجون إلا فقيراً أو محروماً أو مطروداً؟ هذه السجون بنيت لفريق واحد من الناس، وليس هذا الفريق من الأغنياء!

وعدت إلى داري مهموم القلب، يحتدم بيني وبين نفسي عراك عنيف: إنها ساقطة. . . بغي. . . عاهرة تفسد في الأرض. أثور، وهي تهدئني: (ألا تدري أن صفقة كهذه لا غبار عليها، ما دام الخمر والجوع هما وسيطاها! إن الخمر والجوع كليهما كأس يثمل شاربها. فكل كأس من الخمر رصيد من العرق أو الدموع! فلم لا ترى مثل هذا يحدث على الشاطئ الغربي من النيل. . . حيث تقوم القصور الشاهقة مطلة على الأكواخ والكهوف لا محل للأسطورة القديمة التي كانوا يسمونها الفضائل، والشرف. والكرامة. والمروءة! كل هذه أكاذيب قد عفت منذ زمن بعيد. إن الإنسانية تتقدم، وتتطور، دائماً، دائماً، حتى في تجارة الرقيق. ولكنها تجارة منظمة. أجل تجارة منظمة تتفق وأسلوب القرن العشرين. . .

لا يا صاحبي، إنها إنسانة لابد لها من القوت لتعيش. ومن يدري؟ ربما أعيتها الحيل في البحث عنه. أذلتها الحاجة. والجواب بغير ثمن ليس من طبيعة هذا العصر، ولا من تعاليمه. فما الكرامة، وما الشرف، وما العرض، أمام الحاجة الملحة للطعام؟ وما دمنا قد رضينا أن يحيا كل إنسان لنفسه، فليس لك أن تلوم المرأة العاطلة، التي لا عائل لها ولا قانون يحميها، إذا انغمست في الظلام تفتش عن شيء أعياها البحث عنه في النور. إن لغة العطف والرحمة لم تعد من مصطلحات هذا الزمن. فالرجل القادر على أن يمنح العطف والرحمة في شكل كسرة تمسك الرمق أو ثوب يستر الجسد قد طغت عليه تكاليف المدنية، فهو يرى أن (جالوناً) من البنزين لسيارته، أو كأساً من الشراب يذهب بصوابه، أو حفلة ساهرة ترمز إلى عظمته، أحق وأولى من معونة لا يطالبه بها القانون، ولا تعترف بوجوبها الدولة!

صدقني إذا قلت لك: إن يد المدنية الحديثة قد قلبت صفحة الزمن، فطوت معها كل أثر للفضائل في العهد القديم. نحن الآن أمام صفحة جديدة، تختلف في تعاليمها ومراميها، وليس من معانيها شيء اسمه الرحمة!!

إن القوة الآلية التي جعلت الثروة تتركز في يد عدد قليل من الناس، وتتزايد بأرقام مخيفة، هي بعينها التي سلبت الكثرة الهائلة النزر الضئيل الذي بيدها حتى باتت تبحث عن الرغيف فلا تجده. فالزيادة المطردة في جانب، والنقص المستمر في جانب، قد أوجدا ميزاناً عجيباً تعلو فيه كفة إلى السماء، وتهبط أخرى حتى تلاصق الأرض. وليس القب الذي يرفع هذا الميزان هو توراة (موسى) ولا إنجيل (عيسى)، ولا هو القرآن الذي بلغه (محمد)، كما أن صنجاته ليست من المروءة أو الكرم أو الزهد، ولكنها من نوع آخر تبيحه المدنية وتشجعه، من الغش، والطمع، والمكر، والاستغلال الشنيع الذي لا يصده حتى عرض فتاة مسكينة تتضور جوعاً!

فكيف إذن تطلب من امرأة ضعيفة جائعة محرومة من شريعة الدين وشريعة المدنية، أن تفهم معنى الكرامة والشرف وقداسة العرض في هذا المعترك الضال؟ الإنسان ظل للنظام الذي يعيش فيه، فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟

كيف؟ كيف؟ لم يعجبني دفاع نفسي عن البغي. رأيت فيه دفاعا عاطفيا لا يجوز على العقل، فاختلفنا. واتفقنا أن نقدم (للرسالة) هذه القضية.

م. دراج