مجلة الرسالة/العدد 432/شخصيات تاريخية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 432/شخصيات تاريخية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 10 - 1941


3 - تيموستوكل

للأستاذ محمد الشحات أيوب

مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

(تابع)

تحتم إذن وضع خطة جديدة لمجابهة هذا الموقف الجديد، فمن لليونان بقائد ماهر يستطيع وضع هذه الخطة؟ لم يبحث اليونان كثيراً، إنما نظروا إلى صفوفهم فوجدوه بينهم يحثهم على أن يتراجعوا ويتماسكوا، فلما رأوه وكله ثقة واطمئنان إلى نتيجة النزاع وهي النصر الحاسم سرت الثقة بينهم وتجمدوا في أماكنهم كالثلج الذي وقع على الأرض لا يريد أن يبرحها وقد تركوا أمروهم إليه وأسلسوا له القياد فوضع هذه الخطة التي كانت أساساً لما أحرزه اليونان من نصر عظيم في موقعة سلامين الشهيرة. وأظنك أيها القارئ بعد هذا لم يخف عليك أن هذا القائد صاحب هذه الخطة إنما هو بطلنا تيموستوكل العامل الرئيسي في إحراز النصر والاحتفاظ باستقلال اليونان كاملاً.

اقتضت هذه الخطة أن يهجر الأثينيون مدينتهم إلى جزيرة سلامين القريبة من أرض وطنهم وأن يقف الأسطول اليوناني في المضيق البحري الذي يفصل بين أثينا وسلامين، وهو مكان ضيق جداً، إلى شماله تقع سواحل أثيكا، وإلى جنوبه وغربه تقع سواحل سلامين، وقد اختار تيموستوكل هذا المكان لضيقه لأنه عقد العزم على أن تكون الموقعة الفاصلة في البحر، وشجعه على ذلك هذا النجاح الذي أحرزه في الموقعة البحرية السابقة موقعة الأرتيميزون، وفي هذا المكان الضيق تنعدم الميزات الناشئة عن كثرة العدد وعما يمكن أن يقوم به العدو من حركات التفاف وتطويق بالنسبة لأسطوله الزاخر بالسفن. واختار هذا المكان أيضاً لقربه من جزيرة سلامين وإليها هاجرت الأسر الأثينية، وهي بإقامتها في الجزيرة بالقرب من الأسطول لا شك خير مشجع لكل أثيني بل لكل يوناني على الأستماتة والاستبسال في سبيل الدفاع عن أرض الوطن واستقلال البلاد؛ ونحن نعلم ما كان للأرض عند اليونان من حرمة وقداسة فهي رمز لكيانهم في الحياة وفي الممات.

لم ينل تيموستوكل بسهولة هذا القرار القاضي بإلزام الأسطول اليوناني ساحل جزيرة سلامين الشمالي وإنما ناله بعد كبير عناء، لأن اليونان كانوا مترددين جد التردد في التزام هذا المكان. وكان القائد الأعلى وهو إيريبياد متردداً هو الآخر، بلغ تردده حداً عظيماً لأنه كان غير واثق من النصر من ناحية، ولأنه كان يريد التراجع نحو الجنوب للدفاع عن بلاده وهي شبه جزيرة البيلوبونيز من ناحية أخرى. وقد عقد القواد ثلاثة مجالس حربية ظهر فيها هذا التردد بأجلى معانيه، لذلك لم يكن أمام تيموستوكل إلا أن يسلك سيبل التهديد والوعيد، فهدد بترحيل العائلات الأثينية إلى بلدة سيريس في جنوب شبه جزيرة إيطاليا واتخاذها مقاماً للأثينيين جميعاً. وهم بهذه الهجرة يتركون الإسبرطيين وبقية اليونان وحدهم، فلم يستطع القائد الإسبرطي بعد هذا إلا أن يسلم بوجهة نظر تيموستوكل وهو صاغر للنصيحة ومستسلم لهذا الإرشاد، آملاً انتهاز فرصة مقبلة لتنفيذ رأيه القاضي بالتقهقر والتراجع، وهو قد رأى هذه الفرصة قد أقبلت حينما علم بحركات الأعداء وقرب إقدامهم على الهجوم، فعزم على التراجع نحو الجنوب من جديد. وتفسير ذلك أن أجزرسيس عاهل الفرس جمع قواده في فالير واستشارهم فيما يجب أن يتخذوه من أمر لأنفسهم في هذه المعركة، فأشاروا كلهم بضرورة الهجوم ما عدا الملكة أريتميز ملكة الدوريين في جنوب غرب آسيا الصغرى، وحجتهم في ذلك أن المكان ضيق فهم يستطيعون إذن القضاء على أسطول اليونان إذا ما هاجموه هجوماً عنيفاً، وقد غاب عنهم أن المكان ضيق لا يبيح لهم القيام بحركات تطويق أو التفاف أو انقضاض، وإنما يحتم عليهم أن ينبسطوا انبساطاً، وبذلك تنعدم الفائدة عن التجمع والتركيز فيسهل لسفن الإغريق الصغيرة الحجم أن تتسلط على سفنهم الكبيرة فتحاصرها في هذا المكان الضيق وتصليها ناراً حامية.

ولكن من أين لتيموستوكل هذا الهجوم وهو يكاد يكون الفرصة الوحيدة التي تجبر اليونان على التزام أماكنهم وإجبارهم على القتال؟ لم يجد تيموستوكل أمامه إلا المكر والخداع، وذلك بأن يحث الفرس على المضي في حركاتهم الهجومية، بل والإسراع فيها، فأرسل إلى ملكهم رجلاً من أتباعه يثق فيه كل الثقة - هو الخادم سيكينوس - لإبلاغه أن اليونان يحاولون الهرب من المضيق نحو الجنوب، ولإيقافه أيضاً على حالة اليونان وتصويرها على أنها تنم عن انقسام في الرأي وتشعب في المصالح واختلاف في الرغبات؛ فإذا أراد القضاء التام على أسطول اليونان فليس له إلا أن يقوم بهجومه هذا، بل ويسرع فيه؛ وقد اقتنع ملك الفرس بهذا الرأي، ووقع في الفخ وأسرع في الهجوم، فاضطر اليونان إلى أن يلزموا أماكنهم ولا يبرحوها، وبذلك نجح تيموستوكل في حمل اليونان على البقاء في مضيق سلامين والقتال فيه!

ثم التحم أسطول الفرس بأسطول اليونان، وانتصر اليونان انتصاراً عظيماً كان له دوي هائل في البلاد المتحضرة حينذاك، وليس لنا أن نتحدث هنا عن تفاصيل هذه المعركة البحرية الحاسمة التي كان لها شأن في تقرير مصير بلاد اليونان لمدة قرنين على أقل تقدير، وإنما لنا أن نقرر هنا أن الفخر في إحراز هذا النصر الحاسم إنما يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى تيموستوكل القائد الأثيني العظيم. من أجل هذا، لا نعجب إذا علمنا أن جائزة عظيمة منحت له لجسارته وشجاعته وحسن توجيهه للمعركة.

وهذه المعركة تعد في نظرنا أهم عمل أتاه تيموستوكل في حياته فهي من المعارك الحاسمة في التاريخ، إذ على إثرها زال الخطر الفارسي عن بلاد اليونان أو كاد؛ وقد كانت هزيمة الفرس شنيعة جداً، وبقدر ما كانت هذه الهزيمة ساحقة، بقدر ما كان نصر اليونان عظيماً وحاسماً. ولقد اضطر أجزرسيس بعد ذلك إلى ترك بلاد اليونان، ورجع إلى بلاده في غير إبطاء ولا تمهل، لأنه كان يخشى عواقب هذه المعركة، ومر بمضيق الهيلليسبونث، وهناك رأى الجسور التي كان قد بناها من قبل قد اقتلعتها الزوابع والأعاصير، والشعوب التي كان قد أخضعها وهو في طريقه إلى أثينا قد قامت بالثورة ضد سلطانه ونفوذه؛ فلم يجد أبداً من أن يترك ببلاد اليونان جزءاً من جيشه للاحتفاظ بسلطان الفرس على هذه البلاد، ولانتهاز فرصة ربما تسنح في المستقبل للتغلب على اليونان.

أما اليونان، فقد انقسموا على أنفسهم بعد زوال الخطر عنهم، فاعتقد الإسبرطيون كما سبق أن اعتقدوا من قبل هم وغيرهم من بقية اليونان بعد موقعة ماراتون، أن معركة سلامين نهائية، لا يجسر الفرس أن يأتوا بعدها إلى بلادهم لغزوها. ورأى الأثينيون غير هذا الرأي، إذ كانوا أكثر من الإسبرطيين حصراً وتبصراً بعواقب الأمور، فاعتقدوا أن الفرس لا شك سيعيدون الكرة من جديد، وقد كانوا على حق في ذلك، لأن الفرس لا زالوا ببلاد اليونان يأتمرون بإمرة قائدهم ماردونيوس الذي قادهم في العام التالي إلى موقعة (بلاثية)، وفيها التحموا بالجيش اليوناني وعلى رأسه الإسبرطي بوزانياس، وكان أن انتصر اليونان من جديد، وكان الانتصار عظيماً أيضاً.

ولقد أسهبنا في الحديث عن مقدمات معركة سلامين لأن النصر فيها راجع إلى تيموستوكل قبل أن يرجع إلى أي شخص آخر، ولم نخض في تفصيلاتها الحربية التي لها مجال آخر غير هذا المجال وكنا مضطرين اضطراراً إلى هذا الإسهاب لأن هذه المعركة من أهم المعارك التي أثرت على عقلية اليونان، ذلك أن اليونان لضعف أمرهم ولصفو شأنهم لم يؤلموا أن يحرزوا هذا النصر الحاسم ضد أكبر دولة قوية في هذا العصر وهي دولة الفرس لذلك كان هذا الانتصار انقلاباً عظيما في بلاد اليونان ووضعها بالنسبة للدول الأخرى، من أجل هذا قويت نشوة الفرح والسرور عندهم وزادت ثقتهم بأنفسهم؛ وكان لهذه المعركة أيضاً دوي عظيم وتأثير كبير على العقلية اليونانية إذ ألهمت أحد كبار الشعراء وهو (إشيل) فجعلته يكتب، وقد كان شاهد عيان للمعركة، وتراجيدية رائعة هي تراجيدية الفرس في أسلوب قوي فتان رفع من شأن اليونان وقوى الثقة بأنفسهم بقدر ما وضع من أمر الفرس وعاهلهم (أجرزسيس) فزادت حماسة اليونان وقوي شعورهم بأنهم أصبحوا دولة جديدة سيكون لها شأن خطير في التاريخ. لذلك كانت هذه المعركة بداية لعصر جديد هو عصر ازدهار الحضارة الإغريقية وفيه وصلت الآداب اليونانية إلى القمة وتطورت العلوم والفنون، بل ونظم الحكم التي حققت ما ترنو إلى تحقيقه الحضارة الأوربية الحديثة من حرية ومساواة، فكانت الديمقراطية الأثينية في عصر بركليس وكانت الآداب اليونانية في عهد إشيل وسوفوكليس.

واعتزت أثينا بعد ذلك بهذا النصر، فاعتبرها اليونان صاحبة الفضل في إبعاد الخطر الفارسي عنهم، فالتفت حولها الدويلات اليونانية الصغيرة وعلى الأخص البحرية منها التي توجد في بحر إيجه وطلبت إليها أن تدافع عنها ضد غزوات الفرس وتهديداتهم، فكانت هذه الحركة بداية لتكوين حلف ديلوس الشهير، وهو أساس الإمبراطورية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلاد.

ونحن لا يهمنا بعد أن بينا فضل تيموستوكل على هذا النحو، أن يحاول هيرودوت أبو التاريخ الغض من شأن تيموستوكل والإقلال من أمره، فكل ما أثاره حوله من ريبة وشكوك لا نثق فيه مطلقاً. وقد عرفت أيها القارئ الكريم من المقالة الأولى أن هيرودوت كان شديد التحامل على بطلنا هذا حتى قسا عليه قسوة شديدة. والغريب أن هيرودوت يتهم تيموستوكل بالخيانة العظمى نحو قومه، ويحاول أن يقنعنا بأنه أرسل إلى ملك الفرس من يخبره بأنه لن يتعقبه هو وأسطوله، بل على العكس من ذلك سيحتفظ بالأسطول اليوناني في جزيرة سلامين، وليس هناك من شك في أن كلام هيرودوت مناقض للواقع. صحيح أن الأسطول لم يتعقب الأسطول الفارسي أثر الموقعة مباشرة. وسبب هذا راجع إلى أن اليونان كانوا في غفوة هي غفوة الانتصار، ذلك أن الانتصار كان عظيماً جداً بحيث أدخل على قلوبهم الفرح والسرور فلم يصدقوا أنفسهم أنهم أحرزوا هذا النصر الحاسم، ولكنهم بعد أن أفاقوا من هذه الغفوة تعقبوا الأسطول الفارسي حتى جزيرة أندروس فوجدوه قد لاذ بالفرار فلم يعد بإمكانهم الالتحام به لإبادته والقضاء عليه؛ ونحن نرد هذا الاتهام أيضاً لأن أعمال تيموستوكل خير شاهد على أنه كان يخدم وطنه بصدق وإخلاص، فقد كان هو الوحيد الذي عمل على أن يلزم الأسطول اليوناني سواحل جزيرة سلامين للدفاع عن الأسر اليونانية المكدسة في هذه الجزيرة وعن أرض الوطن المقدسة، فكيف يجوز لعقولنا إذن أن تصدق، إن كان لها منطق سليم تفكر به أن بطلاً قومياً هذا شأنه في العمل على القضاء على عدوه بكل الطرق والوسائل يخون قضية وطنه وهو لم يدخر في سبيل ذلك وسيلة إلا اتخذها كالمكر والخداع حينما أوقع ملك الفرس في فخه فأوهمه أن اليونان ينقسمون على أنفسهم وعلى وشك الهروب من المكان الضيق الذي كانوا به عند سلامين بعد ما علموا من بدء تحرك الفرس وإقدامهم على الهجوم، مما حفز عاهل الفرس على الإسراع في هجومه، وكان هذا الإسراع من أسباب فشله، ومن العوامل التي ساعدت تيموستوكل واليونان على إحراز هذا النصر الحاسم.

ليس هناك من شك في أن تيموستوكل بطل يوناني عظيم خدم القضية اليونانية بكل صدق وإخلاص؛ وهو وإن كان قد تخلى عن هذه القضية القومية فإن ذلك كان يعد موقعة سلامين وهو لم يلتجئ إلى هذا إلا بعد خطوات، إذ الواقع أن سياسته تطورت جد التطور، فبعد أن كان يأخذ صف اليونان ويدافع عنهم بشدة، نجده يسير رويداً رويداً نحو جانب الفرس حتى يصبح من أتباعهم والخاضعين لهم والقائمين بخدمة سلطانهم ونفوذهم، وأمرْ هذا التطور عجيب له قصة شائقة سنعرضها عليك أيها القارئ الكريم في مقالة مقبلة إن شاء الله.

محمد الشحات أيوب