انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 42/خالد بن الوليد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 42/خالد بن الوليد

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



القائد الذي لم يهزم قط

للدكتور عبد الوهاب عزام

كان شرف قريش قبل الإسلام لبني عبد مناف وبني مخزوم، وكان شرف بني مخزوم إلى المغيرة بن عبد الله بن مخزوم حتى آثر بعض ذريته اسم المغيري على اسم المخزومي. وكان هشام بن المغيرة يسمى رب مكة، ولما مات أرخت قريش بموته، وكان ابنه أبو جهل زعيماً من زعماء قريش. والوليد بن المغيرة أخو هشام كان أكبر رجل في مكة. وكان يلقب الوحيد، وريحانة قريش. ولما كلم زعماء قريش أبا طالب في أمر النبي عرضوا عليه أن يأخذ عمارة بن الوليد ويسلم إليهم محمدا فقالوا كما روي ابن هشام: (يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك).

وقال المفسرون في قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). إن المشركين عنوا الوليد بن المغيرة في مكة وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف. وقالوا في الآيات (ولا تطع كل حلاف مهين) - إلى أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) والآيات: (ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا). أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ومن أجل التنافس بين بني عبد مناف وبني مخزوم كانت عداوة هؤلاء للإسلام. روي ابن هشام قول أبي جهل، (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟)

كان للوليد بن المغيرة عشرة بنين أو ثلاثة عشر، أسلم منهم ثلاثة عمارة وهشام وخالد.

وأم خالد لبابة بنت الحارث بن حزم الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين، ولبابة الكبرى زوج العباس، وكانت لبابة الكبرى منجبة أنجبت سبعة من بني العباس يقول فيهم الراجز:

ما ولدت حليلة من بعل ... في جبل نعلمه أو سهل

كسبعة من بطن أم الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل! وحسب أختها إنجابا أنها ولدت خالدا.

اتفق الرواة على أن خالداً مات سنة إحدى وعشرين، وقال القسطلاني: وكان له بضع وأربعون سنة. فمولده حول خمس وعشرين قبل الهجرة أو اثنتي عشرة قبل البعثة.

وكان خالد قائد فرسان قريش، وذاع صيته بما فعل في أُحد إذ فجئ المسلمين من خلفهم حين ترك رماتهم مواقفهم فهزم المسلمون بيقظة خالد ومهارته. وهو يومئذ دون الثلاثين. وقد شارك فيما كان بين المسلمين وقريش من حرب إلى غزوة الحديبية، وكان يومئذ قائد الفرسان، وتقدم بهم من مكة إلى كراع الغميم ليرد المسلمين

إسلام خالد

روي ابن إسحاق عن عمرو بن العاص: (خرجت عامدا إلى رسول الله لأسلم فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة مقبل فقلت: أين يا أبا سليمان؟ فقال والله قد استقام الميسم، وان الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ قلت والله ما جئت إلا لأسلم. فقدمنا المدينة على رسول الله فتقدم خالد ابن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت يا رسول الله أني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر. فقال رسول الله يا عمرو: بايع، فان الإسلام يجب ما كان قبله، وان الهجرة تجب ما كان قبلها فبايعته ثم انصرفت).

دخل خالد في جند المسلمين يومئذ وسرعان ما شارك في الغزوات وأبلى فيها. فلم يمض على إسلامه شهران حتى شهد غزوة (مؤتة) في جمادى الأولى من السنة الثامنة. وكانت موقعة نائية نازل فيها المسلمون أضعافهم من العرب والروم. وتهافت القواد الثلاثة الذين ولاهم الرسول واحداً بعد الآخر: زيد بن ثابت، فجعفر بن أبي طالب، فعبد الله بن رواحة، فاختار الناس خالداً فدافع العدو وانحاز بالمسلمين حتى نجا، بهم وقفل إلى المدينة فلقي الناس القافلين يعيرونهم: يقولون يا فرار، فقال الرسول صلوات الله عليه، بل هم الكرار، وسمى فعل خالد فتحاً، ولقبه سيف الله. في البخاري أن رسول الله قال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) ولا ريب أن من الفتح أن يخلص خالد هذا الجيش القليل من سورة جيش عرمرم جمع الروم والعرب فلا يقتل منه إلا اثنا عشر. ولا ريب أن بعضهم قتل قبل تولي خالد القيادة (وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية) فإنما أنقذ خالد جنده إذ دفع بنفسه في نحر العدو حتى دقت في يده تسعة أسياف وإنها لبطولة.

وبعد قليل سار المسلمون لفتح مكة، وكان خالد قائد المجنبة اليمنى وفيها جماعة من أسلم وغفار وسليم ومزينة وجهينة وغيرها من القبائل، وأمره الرسول أن يدخل مكة من أسفلها، فكان بينه وبين قريش قتال يسير قتل فيه نفر من الفريقين

وبعثه رسول الله بعد الفتح إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام، فقتل جماعة منهم حين لقوه بالسلاح، فلما نمى الخبر إلى الرسول قال: (اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد) وودى القتلى. واعتذر خالد بأن عبيد الله بن حذافة السهمي قال له: أن رسول الله أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الإسلام. ومهما يكن فقد أخذ المسلمون على خالد تعجله في قتال القوم. ولكن لم تذهب هذه الهفوة بحسن بلائه.

ثم بعثه الرسول فهدم العزى في بطن نخلة، وكانت في سدانة بني سليم، (ولا نجد ذكر خالد في موقعة حنين، إلا ما روى ابن إسحاق أن الرسول وجد امرأة مقتولة فأرسل إلى خالد أن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفاً.

ولما كانت غزوة تبوك بعث الرسول خالداً إلى أكيدر بن عبد الملك أمير دومة الجندل فأسره وجاء به إلى الرسول فصالحه

ولما وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والعرب وأرسل الرسول دعاته إلى أرجاء الجزيرة بعث خالداً إلى بني الحارث بن كعب في نجران فاستجابوا لدعوته وأقام فيهم يعلمهم الإسلام، وكتب إلى الرسول بإسلامهم، فكتب إليه الرسول أن يقدم مع وفدهم. وفي ابن هشام وصبح الأعشى نص الكتابين.

في حروب الردة

ولما سير أبو بكر الجيوش لحرب المرتدين رمى بإبن الوليد أقرب الأعداء إلى المدينة: طليحة بن خويلد الأسدي ومن شايعه، ثم مالك ابن نويرة اليَربوعي. فسار خالد إلى متنبئ بني أسد فأدار عليه في (بزاخة) حرباً أكذبت دعوته وأذابت غشه. ثم يمم مالك ابن نويرة وكان قد مالأ سجاح المتنبئة، فلما جاء البطاح وجد القوم قد تفرقوا حيث سراياه، فرجعت بأسارى منهم مالك ابن نويرة. ثم قتل الأسارى. ونقم الناس من خالد بعد أن شهد بعض الجند أنهم أجابوا أذان المسلمين بالأذان إعلاماً بإسلامهم. وروي بعض المؤرخين أن خالداً أمر بإدفاء الأسارى في ليلة باردة، وإدفاء الأسارى قتلهم في لغة كنانة، فسارع الجند إلى قتلهم، وما أراد خالد القتل. وزاد ارتياب الناس بخالد حين تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك. وجاء إلى أبي بكر أبو قتادة الأنصاري مفارقا خالدا، ومتمم أخو مالك مستعدياً عليه. ورأى عمر أن يقاد خالد بمن قتل. فقال أبو بكر: هيه يا عمر، تأول خالد فأخطأ! فارفع لسانك عن خالد. ثم كتب إلى خالد يستقدمه فقدم وأبان عن عذره فقبل منه الخليفة. قال الطبري: (وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد متعجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها. ثم قال أرئاء؟ قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته. والله لأرجمنك بأحجارك. ولا يكلمه خالد بن الوليد، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر. فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عما كان في حربه تلك. وان في عفو أبي بكر عن خالد لبرهاناً على أن فعلته لم تكن بحيث ظن عمر.

وكان أبو بكر وجه عكرمة بن أبي جهل ابن عم خالد إلى بني حنيفة قوم مسيلمة المتنبئ في اليمامة وأتبعه شرحبيل بن حسنة فتعجل عكرمة الحرب قبل أن يؤازره شرحبيل فهزم، وعنفه أبو بكر وبعثه مدداً للمحاربين في عمان، فلما فرغ سيف الله من بني أسد وتميم سيره أبو بكر إلى اليمامة، فرأى أن يؤمن طريق جيشه بإبعاد القبائل الموالية لمسيلمة وسجاح، فكتب إلى بني تميم فطردوهم من الجزيرة، وتقدم خالد لطيته فإذا شرحبيل قد سبقه إلى الحرب وباء بالهزيمة. وكانت بين خالد وبين مسيلمة موقعة عقرباء الطاحنة التي تهافت فيها أنجاد المسلمين. وكادت تقضي بالفلج لبني حنيفة، ولكن خالدا أمر الناس أن يمتازوا ليعرف بلاؤهم، فتميز الناس وأحسنوا البلاء. وحمى الوطيس، وما طل النصر بلاء الأبطال حتى رأى خالد أن الحرب دائرة ما دام مسليمة قطبا لها، فبرز ودعا إلى المبارزة، وارتجز ونادى بشعار المسلمين يومئذ: (يا محمداه!) وصمد إلى مسيلمة يحطم الصفوف إليه، وآزره أطال جنده فلم ينثن إلا ومسيلمة قتيل. فقضى للمسلمين بالنصر وجاء بنو حنيفة مستسلمين فصالحهم خالد، وجاءه أمر أبي بكر بقتلهم فأعلمه أن عهده قد سبق. وحفظ للقوم ذمتهم.

فتح العراق

لم يكد يفرغ خالد من مسيلمة حتى وجهه أبو بكر لفتح العراق لحرب الفرس: الأسد الذي كانت القبائل تخشاه وتتحاماه، وأمره الخليفة أن يبدأ بالأبلة ثم يفتح إلى الشمال صوب الحيرة، كما أمر عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيح في الشمال ثم يتجه إلى الجنوب شطر الحيرة، كذلك وأي القائدين سبق إلى الحيرة فهم الأمير على صاحبه

كتب خالد إلى هرمز والى الأبلة يدعوه إلى الإسلام وينذره الحرب، ثم التقى الجمعان قرب كاظمة في موقعة ذات السلاسل، فبارز خالد هرمز فقتله فحقت الهزيمة بقتله، ثم سار خالد يقود جيشين من الجند والرعب، فكانت مواقع المذار، والولجة، وأليس، ومغيشيا، وخالد يسير من نصر إلى نصر، ويوالي الكتب والأخماس إلى أبي بكر، فلما جاءته البشرى بفتح مغيشيا قال: (يا معشر قريش. عدا أسدكم على الأسد فقلبه على خراذيله، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد!)

خالد في الحيرة بعد شهرين من دخوله العراق، وها هو في الثاني عشر من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة يكتب كتاب الصلح لرؤساء الحيرة

(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً وعمراً إبني عدي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به - عاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسهم إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيساً عن الدنيا تاركاً لها، وعلى المنعة، وإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم. وإن غدروا بفعل أو قول فالذمة بريئة منهم).

تتابعت القرى على الصلح بعد الحيرة. ومن الحيرة وجه خالد كتبه إلى أمراء الفرس ومرازبتهم يدعوهم إلى الإسلام، وينذرهم الحرب. وصار خالد أمير العراق كلها ففتح الحيرة (لعهد أبي بكر فمد فتوحه إلى الشمال في الأرض التي عهد إلى عياض فتحها، طوى الأرض إلى الأنبار فاعتصم الناس بالحصون وخندقوا. فنحر أضعاف الإبل وألقاها في الخندق وعبر عليها، فاضطر أهل المدينة إلى المصالحة، ثم سار إلى عين التمر وقد اجتمع له بها العرب والفرس. وخرج للقائه عقبة ابن أبي عقبة في جموع من تغلب وأياد والنمر فانقض خالد على عقبة وهو يسوي صفوفه فاحتضنه وأسره وكفاه عناء الصفوف والزحوف فانهزم جنده، فهل عرفنا قبل خالد قائدا يخطف القواد، ليكفي الجند عناء الجلاد؟

ثم توجه تلقاء عين التمر فنزل من فيها على حكمه.

أين عياض بن غنم؟ في دومه الجندل تكالبت عليه الأعداء وأخذت عليه الطريق فاستغاث خالداً فأجابه: (من خالد إلى عياض، إياك أريد).

لبث قليلا تأتك الجلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب

كتائب يتبعها كتائب

وسار إلى دومة الجندل فاجتمعت لحربه كلب وغسان وبهراء وتنوخ، وعلى الناس رئيسان أكيدر بن عبد املك الذي أسره خالد في غزوة تبوك، والجودي بن ربيعة، قال الأكيدر:

(أنا أعلم الناس بخالد. لا أحد أيمن طائراً منه ولا أجد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم) فلما أبوا قال: لن أمالئكم على حرب خالد، وتركهم لينجو بنفسه، ولكنه طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك.

أخذ خالد عليه الطريق وقتله جزاء غدره بما كان بينه وبين المسلمين من عهد، ثم أتى دومة الجندل ففتحها وتألب أهل الفرس وأهل العراق على المسلمين حين علموا غيبة خالد، فرجع وهزم أعداءه في مواقع الحصيد والخنافس والمضيح والثنى والزميل.

ثم توجه إلى الفراص وهي بلدة على الفرات عندها حدود العراق والشام والجزيرة، وملتقى دولتي الفرس والروم. فلم يرهب خالد جموع الفرس والروم والعرب ومزقهم كل ممزق حتى روى الرواة أنه قتل في المعركة والطلب مائة ألف.

كانت الموقعة منتصف ذي القعدة من السنة الثانية عشرة. فقد طوى خالد وادي الفرات ما بين الأبلة والفراض في أقل من أحد عشر شهراً وانتصر في خمس عشرة موقعة لم يهزم في واحدة، أبت ذلك شجاعته، وكفايته واقتحامه الغمرات، وقتله القواد وصيته الذي ملأ جنده يقينا وعدوه رعبا.

من الفراض إلى مكة في أثني عشر يوما

ورحل خالد قافلا إلى الحيرة في الخامس والعشرين من ذي القعدة. وولى على الجيش عاصم بن عمرو، وأظهر للناس أنه سيسير في الساقة وأسر إلى خاصته أنه على عزيمة، الحج ثم طوى الفيافي ما بين الفراض إلى مكة فأدرك الحج، فلا محالة قد قطع هذه الصحاري المترامية في أثني عشر يوما. قال الطبري:

(وخرج خالد حاجا لخمس بقين من ذي القعدة مكتتماً بحجه ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال. فسار طريقاً من طرق الجزيرة لم ير طريق أعجب منه ولا أشد على صعوبته منه. فكانت غيبته عن الجند يسيرة فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه. فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون لم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة. . .

وكتب أبو بكر إلى خالد يأخذ عليه مسيره إلى الحج وترك الجند بغير إذن، ويأمره بالمسير إلى الشام مددا لمن بها من الغزاة. وأن يترك نصف الجيش مع المثنى ويسير بنصفه، فسار في صفر من السنة الثالثة عشرة.

وكان رحيل خالد من العراق إلى الشام معجزة من معجزات المسير، وأعجوبة من أعاجيب المخاطرة، فقد قطع بالجيش الجرار صحراء ليس بها ماء يقطعها الراكب المخف في خمسة أيام قطعها في خمس ليال ولا ماء إلا ما في أجواف الإبل: أعطشها وسقاها وكظم أفواهها، فكان ينحرها في مراحل الطريق فيرتوي الناس والخيل.

وقد خرج خالد من مفازته على بهراء فصبحهم بالقتال وهم لا يحسون جيشاً من الجن يسلك إليهم هذه المفازة، وحارب قبائل من العرب في طريقه حتى بلغ ثنية العقاب على مقربة من دمشق فنشر عليها راية سوداء من رايات الرسول صلوات الله عليه. ثم حارب غسان في مرج راهط وصار إلى بصرى ففتحها، ثم أدرك المسلمين في معسكرهم على اليرموك أو أجنادين. فما ظنك بهذا النصر السائر، والفتح المسافر، الذي يطوي البلاد والصحارى والقبائل في عزمات الجند القليل؟

خالد في الشام وافى خالد المسلمين معدين لمنازلة جحافل كثيفة من الروم والعرب، ووجد الجيوش مقسمة بين القواد الأربعة الذين بعثهم أبو بكر إلى الشام، أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فأراد أن يلقى الروم بجيش مجتمع ورأى موحد فخطب الناس:

(إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فان هذا يوم له ما بعده. ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية - على تساند وانتشار. فان ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لو تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته. قالوا فهات، فما الرأي؟ فقال فيما قال (هلموا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضها اليوم والآخر غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم. ودعوني إليكم اليوم).

تأمر خالد على الجيش كله وفيه قواد أسن منه وأقدم إسلاما، ولكن اعتداد خالد بنفسه وثقة الناس به ألقت إليه بالمقاليد ذلك اليوم، فقسم الجيش كراديس ستة وثلاثين، وجعل على كل كردوس قائداً، ثم جعل قواداً على القلب والجناحين. ثم أدار المعركة طول النهار وبعض الليل، وأصبح في فسطاط قائد الروم قد ملك النصر كله وبلغ من العدو ما تمنى.

كتب كتاب الفتح باسم خالد. وبعد قليل جاء المسلمين نعي أبي بكر وولاية عمر.

هل عزل عمر خالدا

لا ريب أن عمر كان ينقم من خالد هنات في حروبه، وأنه أشار على أبي بكر بالاقتصاص منه لمالك بن نويرة، وما كانت تعجبه جرأته واستبداده في تقسيم الغنائم والأرزاق. وكان خالد معتداً برأيه كتب إليه أبو بكر يأمره ألا يعطي شيئاً فأجابه خالد: (إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك، هذا وأشباهه أسخط عمر على خالد وما كان عمر ليداهن في دينه وقد كثرت الأقوال فيما فعل عمر بخالد وينبغي أن نذكر أن خالداً لم يول على الشام من قبل أبي بكر ولا عمر ولكنه بعث مددا لغزاة الشام. فعمر ما عزل خالدا عن ولاية الشام أو قيادتها ولكن خالداً أمر نفسه يوم أجنادين وتيمن الناس به، فكان حرياً أن يكون أحد القواد. فلما جاء كتاب عمر بضم خالد إلى أبي عبيدة قال الناس ما قالوا في عزل خالد. وقد خطب عمر مرة فاعتذر عما فعل، فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة (عزلت عاملاً استعمله رسول الله ، ووضعت لواء رفعه. فقال إنك قريب القرابة حديث السن مغضب لابن عمك).

ولكن خالدا لا يعزل نفسه العظيمة، ولا كفايته التي لا تعوض فلما اجتمع القواد على دمشق يحاصرونها نزل خالد على الباب الشرقي فاقتحمه اقتحام الأبطال ودخل المدينة عنوة فسارع الرؤساء إلى أبي عبيدة يصالحونه فالتقى عنوة في وسط المدينة خالد الفاتح والقواد الآخرون. فكتب كتاب الفتح باسم خالد. فلما جاءت عمر الأنباء قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال مني.

ولم يزل خالد مشاركاً في فتوح الشام كافياً لما يعهد إليه من حرب أو ولاية بقية حياته

هذه سنة إحدى وعشرين من الهجرة وخالد العظيم في سن الخامسة والأربعين على فراش الموت في حمص وأمامه مجد عشرين سنة مظفرة لم تنكس له راية، ولا أعيا عليه فتح، ولم يختلف عليه اثنان من جنده، فاستمع البطل العظيم والقائد الباسل يقول:

(لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا اله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس. والسماء تهلني بمطر إلى صبح حتى نغير على الكفار - ثم قال: (إذا أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله).

ثم أوصى وصية، فمن اختار أميناً على انفاذها؟ عمر بن الخطاب! إن النفوس العظيمة لتختلف إلا في العظمة التي تؤلف بينها، والتي تأبى أن تصيخ إلى سفساف الأمور. اختلف الرجلان على أمور، وجمعتهما همة عالية ومطالب عظيمة.

لقد بكى خالدا الإسلام والمسلمون حتى عمر: سمع عمر البكاء على خالد فقال:

ما على نساء الوليد أن يسفحن على خالد دموعهن. . وسمع راجزا يذكر خالدا فقال والأسف ملء فؤاده: (رحم الله خالداً).

عبد الوهاب عزام