انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 42/الهجرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 42/الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



رواية في فصل واحد وسبعة مناظر

للأستاذ توفيق الحكيم

إني أشهد أن محمداً نبي كريم

إني أشهد أن محمداً بشر عظيم

إني أسجد للعظمة والنور

وما صفحاتي إلا إشهاد وسجود.

توفيق الحكيم

المنظر الأول

كان النبي (ص) جالساً وحده في المسجد وأشراف قريش مجتمعون عن كثب يتهامسون. . . .

قريش - ما الرأي في محمد؟ إن عمه أبا طالب يمنعه وينصره علينا

عتبة بن ربيعة - أجل، ولا قِبل لنا بأبي طالب

أبو جهل - إني لأخشى أن يتابع محمداً بعض رؤوس القوم فيعز ويمتنع ويفشو أمره في القبائل

أبو سفيان - ما أحسبه يا أبا الحكم إلا نائلا منا إن تركناه فيما هو فيه

قريش - وما الرأي؟

عتبة (تبدو له فكرة)

يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟

قريش - بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه

(يقوم عتبة إلى رسول الله ويجلس إليه. . . .)

عتبة (للنبي)

يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم: فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

محمد - قل يا أبا الوليد، أسمع

عتبة - يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً، سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الوحي الذي يأتيك رئيَّاً تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.

(يسكت عتبة وينظر إلى النبي)

محمد - أقد فرغت يا أبا الوليد؟

عتبة - نعم

محمد - فاستمع مني

عتبة - أفعلُ

محمد (يلتو)

بسم الله الرحمن الرحيم، حم تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصَّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ، إنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون. . .

؟

عتبة (ينصت ويلقي يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه. . .)

محمد (يمضي فيها يقرؤها عليه)

ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون. قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم. فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألاَّ تعبدوا إلا الله، قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أُرسلتم به كافرون، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون. . .

(ينهي رسول الله إلى السجدة منها فيسجد. . . .)

عتبة - (مأخوذا كأنما على رأسه طائر واقع. . . . . . . . . . . .)

؟

محمد - قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك

عتبة - (يقوم إلى أصحابه صامتا)

؟

أبو جهل (لقريش ناظرا إلى عتبة مقبلا عليهم)

أحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به

عتبة - (يجلس إليهم ساكناً)

أبو جهل - ما وراءك يا أبا الوليد؟

عتبة - (في صوت متغير)

ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه

(قريش يعروها دهش ويصمت الجميع)

أبو جهل - (ينتبه ويرفع رأسه ملتفتاً إلى عتبة. . .)

سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه عتبة - والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ

قريش - أهذا رأيك فيه؟

عتبة - هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. . .

المنظر الثاني

(بعد غروب الشمس. . . . . أشراف قريش عند ظهر الكعبة)

أمية بن خلف - هل بعثتم إليه؟

أبو سفيان - نعم، لقد بعثنا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك

أمية بن خلف - أجل، ابعثوا إليه فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه

أبو جهل - لن يستطيع اليوم أن يسحرنا بحديثه كما سحر أبا الوليد

أبو سفيان (ينظر)

ها هو ذا مقبلا سريعاً

أمية - (ينظر)

أرى في وجهه المستبشر أنه يظن أن قد بدا لنا فيه بداء

(رسول الله يحضر ويجلس إليهم مستبشراً طامعاً في إسلامهم)

أبو سفيان - (لأبي جهل)

كلمه أنت يا أبا الحكم

أبو جهل - (لرسول الله)

يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام. فأن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وان كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وان كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وان كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك

(يسكت وينظر إلى النبي)

محمد - ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم

قريش (تتهامس)

انه غير قابل

أبو جهل - يا محمد إن كنت غير قابل شيئاً مما عرضناه عليك فانك تعلم أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فان صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول

محمد - ما بهذا بعثت اليكم، انما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فان تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم

قريش (تتهامس)

انه والله غير فاعل

أبو جهل - فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك

أبو سفيان - وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، يغنيك بها عما تراك تبتغي، فانك تقوم بالأسواق كما نقوم، تلتمس المعاش كما نلتمسه

أمية - نعم، فليجعل لك قصوراً وكنوزاً حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم

محمد - ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قريش (تتهامس)

فليرنا ما يتوعد

أبو جهل - أسقط السماء علينا كسَفا كما زعمت، فان ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل

محمد - ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل

أبو سفيان - يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟

أبو جهل - يا محمد، أنه قد بلغنا أنك أما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا؛ فقد أعذرنا إليك، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا

أمية - نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله

أبو سفيان - لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا

محمد (يقوم عنهم يائسا) (ويقوم معه عبد الله بن أبي أمية)

؟

عبد الله - يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن أخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أوآمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلّما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك

محمد - (ينصرف حزيناً آسفاً)

؟

أبو جهل - يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم

الجميع - والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد

المنظر الثالث

أبو طالب (وقد حضره الموت. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)

أبو طالب - شربةَ ماء

العباس (على رأسه يسقيه)

؟

أبو طالب (يلتفت)

من هذا؟

العباس - أين؟

أبو طالب (يشير إلى الباب)

؟

العباس (يتوجه إلى الباب ينظر ثم يعود)

هو أبو جهل في رجال من أشراف قومه، ما أحسبهم إلا يمشون إليك في أمر محمد ابن أخيك

أبو طالب - أدخلهم عليّ

العباس (يدخلهم)

؟

أبو جهل - يا أبا طالب، انك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه

أبو طالب (يشير إلى العباس أن يبعث إلى محمد)

؟

العباس (يخرج في طلبه ثم يعود)

لقد جاء محمد (يدخل رسول الله)

أبو طالب (للنبي)

يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك

محمد - نعم يا عم، كلمة واحدة يعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم

أبو جهل - نعم وأبيك وعشر كلمات

محمد - تقولون، لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه

(يصفق القوم بأيديهم)

أبو جهل - أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحداً؟ إن أمرك لعجب

أبو سفيان (يتهيأ للانصراف مع بعض القوم) والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه

(يتفرقون ويخرجون)

أبو طالب (للنبي بعد خروج قريش) والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا

محمد (ناظرا إليه طامعاً في إسلامه)

أي عم، فأنت فقلها، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة

أبو طالب - يا ابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. . . .

(يقترب منه الموت)

العباس أخي. . . .

أبو طالب - من هذا؟

العباس - أين؟

أبو طالب - (يغمض عينيه ويحرك شفتيه)

؟

العباس (ينحني عليه، ويصغي إليه بأذنه ثم يهمس إلى رسول الله. . .)

يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها

محمد - لم أسمع المنظر الرابع

(بيت النبي في مكة)

بلال - (يدخل باكياً)

؟

جارية - ويحك يا بلال. ما بك؟

بلال - قاتلهم الله

الجارية - ما يبكيك يا بلال؟

بلال - قاتلهم الله

الجارية - من هم؟

بلال - أغروا أحد سفهائهم فاعترض رسول الله وحثا على رأسه التراب

الجارية - التراب؟

بلال - نعم

الجارية - قريش؟

بلال - نعم. هي قريش صنعت هذا

الجارية - نعم، اليوم

بلال - واحزناه عليك يا أبا طالب. من ذا يمنع اليوم النبي وينصره؟

الجارية - (ترى إحدى بنات النبي مقبلة)

صه ودع البكاء عنك يا بلال

بلال - (يرى النبي مقبلا)

رسول الله. . .

(ثم يكفكف دمعه سريعاً)

محمد - (يدخل والتراب على رأسه)

ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب

ابنته - (تبكي)

؟ (ثم تأتي بماء وتغسل عن النبي التراب. . . .)

محمد - لا تبكي يا بنية، فان الله مانع أباك

المنظر الخامس

(في الطائف. النبي في نفر من سادة ثقيف وأشرافهم على مقربة من حائط لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وهما فيه ينظران)

عتبة - (يهمس)

ما جاء به إلى الطائف؟

شيبة - ما أحسبه إلا جاء يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه

عتبة - قريش؟

شيبة - نعم، ما كان أحد يمنعه وينصره على قريش إلا عمه أبو طالب، فلما هلك عمه نالته قريش من الأذى بما لم تكن تطمع به في حياة عمه

عتبة - وهل تحسب ثقيفاً ناصرة إياه؟

شيبة - إن لم تنصره ثقيف فلا ناصر له

عتبة - (يلتفت إلى ناحية القوم)

انظر يا شيبة. انه جلس إلى أشراف ثقيف يدعوهم إلى ربه الذي يحدث عنه. وما أرى في وجوه القوم إلا استهزاء به وبما يقول

شيبة - (ينظر)

سمع. هذا مسعود بن عمرو يدنو منه

مسعود - (يدنو حقيقة من النبي)

أني أمرط ثياب الكعبة ان كان الله أرسلك

عتبة - (لشيبة همساً)

أسمعت؟

شيبة - (هامساً)

سمعت

عتبة - (همساً) أرى وجهه قد تغير

شيبة - هذا أيضاً عبد ياليل بن عمر يدنو منه

عبد ياليل (يدنو من النبي)

أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟

عتبة - (هامساً)

انهم يغلظون له

شيبة - صه. هذا حبيب بن عمرو يدنو منه كذلك ليقول له شيئاً

حبيب - (للنبي)

والا لله اكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك

محمد - (يقوم وقد يئس منهم)

عتبة - انظر يا شيبة، انه قد قام

شيبة - ما أراه إلا بائساً حزيناً

عتبة - انه يريد أن يقول لهم شيئاً، اسمع

محمد - (للقوم)

إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني

عتبة - (هامساً)

ماذا يريد بهذا؟

شيبة - لعله يكره أن يبلغ قومه عنه خذلان ثقيف له فيذئرهم ذلك عليه

(صياح وأصوات).

عتبة - ما هذا الصياح؟

(ينظر)

انظر هؤلاء ناس وعبيد تصيح به

شيبة - (ينظر)

ما أحسب إلا أن القوم قد أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به.

عتبة - انظر لقد اجتمع عليه الناس وهو لا يستطيع منهم فرارا

شيبة - ما أرى إلا أنه سيلقى منهم أذى كثيرا

عتبة - أنه مقبل علينا

شيبة - أنهم يسدون عليه السبيل

(الصياح يقترب)

عتبة - لقد ألجأوه إلى حائطنا

شيبة -، أجل، ها هو ذا يسقط إعياء

(النبي قد عمد حقيقة إلى ظل حيلة من عنب فجلس فيه وقد رجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف. . .)

عتبة - أي هوان يلقى هذا الرجل من أهل الطائف!

شيبة - أتحركت له رحمتك يا عتبة؟

عتبة - (ينظر إليه)

اسمع. إصغ. انه يقول شيئاً

محمد - (وقد اطمأن قليلاً بعد ذهاب الناس عنه. . .)

اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتهجمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ أن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك

عتبة - (همساً لأخيه شيبة)

أسمعت؟

شيبة (مأخوذا)

نعم!

عتبة - أيمكن أن يكون مثل ذلك الرجل كذاباً؟

شيبة - ويحك يا عتبة! عتبة (ينادي غلامه همساً)

يا عداس!

عداس - لبيك!

عتبة - خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه

عداس (؟ يسارع إلى ما أمر به)

شيبة (ينظر إلى وجه أخيه)

ما حملك على هذا؟

عتبة (ينظر إلى النبي)

انظر يا شيبة، إن عداساً قد أقبل بالطبق ووضعه بين يديه

عداس (للنبي)

كل!

محمد (يضع يده في الطبق)

بسم الله!

(ثم يأكل)

عداس (ينظر في وجه النبي)

والله أن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلاد

محمد - ومن أهل أي البلاد أنت؟ وما دينك؟

عداس - نصراني. وأنا رجل من أهل نينوى

محمد - من قرية الرجل الصالح يونس بن متي

عداس - وما يدريك ما يونس بن متي؟

محمد - ذاك أخي. كان نبياً وأنا نبي

عداس - (يكب على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه. . .)

؟

عتبة - (هامساً لشيبة) أرأيت؟

شيبة - نعم

عتبة - وما تقول في هذا؟

شيبة - أما غلامك فقد أفسده عليك

عداس (يقبل عليهما)

؟

عتبة - ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

عداس - يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي

شيبة - ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فان دينك خير من دينه

عداس - إن مثل هذا لا يمكن أن يحتمل ما لقي إلا في سبيل الحق، ولا أن يثبت على دينه بعد كل هذا إلا أن يكون دينه دين الحق

المنظر السادس

(دار الندوة التي تجتمع فيها قريش للمشاورة. إبليس في ثياب شيخ نجدي جتيل يدخل الدار وهي خالية فتلقاه حية تظهر في الحائط)

الحية - (تصيح به)

إبليس في لبوس شيخ من نجد؟

إبليس - لا تصيحي أيتها الصئيلة

الحية - ماذا جئت تصنع في دار الندوة؟

إبليس - أريد محمدا

الحية - تريد به الهلاك

إبليس - أريد لنفسي الحياة

الحية - ماذا صنع بك؟

إبليس - سيغير وجه الأرض!

الحية - كيف؟

إبليس - نور يخرج من قلبه يضيء الأرض الحية - وما يضيرك هذا؟

إبليس - يعمي بصري هذا النور

الحية - أطفئه من قلبه

إبليس - لا سلطان لي على مثل هذه القلوب

الحية - قلب لا ككل القلوب، إني لأذكر أمره، لقد أتاه الملكان وهو صغير بطست من ذهب مملوءة ثلجاً فأخذاه فشقا بطنه واستخرجا قلبه، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قبله وبطنه بذلك الثلج حتى أنقياه. . .

إبليس - العلقة السوداء!

الحية - تلك رسولك في كل قلب

إبليس - تبا له، تبا له

الحية - كما كنت أنا رسولك إلى أول قلب

إبليس - حواء؟

الحية - ذاك يوم ملعون إلى أبد الآبدين

إبليس - أتندمين؟

الحية - ماذا جنيت من كل هذا؟

إبليس - قلت لك: تلك حياتي

الحية - حياة ملعونة في كل زمان

إبليس - ويل للنفاق! ويل للنفاق!

الحية - نفاقك

إبليس - بل نفاق من يلعننا

الحية - كنت أود أن تفتن غيري

إبليس - أود أن أفتن هذا الرجل

الحية - انك تقول أن لا سبيل لك عليه

إبليس - تبَّاً لي!

الحية - أنه ليس كغيره من الناس إبليس - تبا له!

الحية - لقد وزنه الملكان وهو صغير بعشرة من أمته فوزنهم، ثم وزناه بمائة من أمته فوزنهم، ثم وزناه بألف من أمته فوزنهم: فقالا والله لو وزناه بأمته كلها لوزنها

إبليس - صه. انهم قادمون

الحية - من هم؟

إبليس - ادخلي جحرك. ولأتخذن لغة القوم

(الحية تختفي ويقف إبليس بباب الدار ويدخل أشراف قريش)

أبو سفيان (لابليس)

من الشيخ؟

ابليس - شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، عسى ألا يعدمكم منه رأي ونصح

أبو جهل - أجل فادخل

(إبليس يدخل معهم ويجتمعون في دائرة. . .)

أبو سفيان - تكلم يا أبا الحكم

أبو جهل - إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا

أمية بن خلف - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهير أو النابغة ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم

إبليس - لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره

أبو سفيان (يتفكر قليلا)

نخرجه من بين أظهرنا فتنفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت إبليس - لا والله ما هذا لكم برأي. ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد. دبروا فيه رأياً غير هذا

أبو جهل (بعد تفكير)

والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد

أبو سفيان - وما هو يا أبا الحكم؟

أبو جهل - أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتى جليداً نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم

إبليس (مبتهجاً)

القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره

(يتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. . .)

المنظر السابع

(ليلة الهجرة. . . . النبي في داره. . .)

جبريل (للنبي)

لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه

(يرتفع الملك)

علي بن أبي طالب (يدخل هامساً)

ألمح في عتمة الليل رجالاً قد اجتمعوا على بابك، ما أحسبهم إلا يرصدونك حتى تنام فيثبون عليك

محمد - نم على فراشي والتف ببردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فانه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم

(علي يفعل ما أمره به النبي) أبو جهل - (يهمس بين الرجال على باب النبي)

أكره أن يفلت منا الليلة كما أفلت مني يوم احتملت الحجر أري فضخ رأسه في المسجد

أمية (هامساً)

وكيف أفلت منك يومئذ؟

أبو جهل (هامساً)

ما أدري والله. لقد أقبلت نحوه حتى إذا دنوت منه رجعت مرعوباً وقد يبست يداي على حَجري حتى قذفته من يدي، فقد عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني

أمية - سحرك والله يا أبا الحكم

أبو جهل - إن كان قد سحرني يومئذ فما أحسبه يستطيع ذلك الليلة معكم جميعاً

أمية - أرى أنه قد نام

أبو سفيان (يتطلع إلى مكان النبي)

انه نائم في برده الأخضر الذي ينام فيه

أبو جهل - إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وان لم تفعلوه كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم ناراً تحرقون فيها

(رسول الله يخر عليهم آخذا حفنة من تراب في يده. . .)

محمد - نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم

(ينثر عليه الصلاة والسلام التراب على رؤوسهم حتى لم يبق منهم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وهو يتلو:)

يس والقرآن الحكيم انك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم، لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.

(ينصرف النبي وهم كالنائمين لا يبصرون. . . .) ؟

راع (يمر بهم)

؟

قريش (لا تراه)

الراعي (لقريش)

ما تنتظرون ههنا؟

الجميع (كأنما افاقوا يهمسون)

محمدا

الراعي - خيبك الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟

الجميع (يضع كل منهم يده على رأسه)

حقا هذا تراب، ما هذا التراب؟

(يتطلعون إلى فراش النبي وفيه علي في برد رسول الله)

أبو جهل (متطلعاً)

والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده

الراعي (كالمخاطب لنفسه)

إن محمداً قد هاجر أيها الغافلون. . .!)

(جميع الحقوق محفوظة توفيق الحكيم)