انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 41/فضيلة. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 41/فضيلة. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1934



للأستاذ الأديب عباسي

والفضائل كالرجال: منها المائع المسترخي، ومنها الشديد الصلب الذي لا يثنى، ومنها المقرور مفرط القر، ومنها المشبوب مفرط الحر، ومنها مرهف الحد نافذ الشفرة، ومنها كثير الفلول كليل السطوة، ومنها الذليل المستعبد ومنها الأبي المستكبر، ومنها الواضح البين، ومنها الذي ليس له أول ولا آخر. وتستطيع أن تمضي بالمقارنة إلى آخر ما يحضرك من صور للرجال ونماذج. ولا عبرة بما يوحيه اللفظ من معاني القداسة والاشتقاق من الفضل. فأنت تعرف جيدا من الفضائل كالرجال أيضا تخضع لملابسات الحياة وتعنو الزمن، وتنال من دهرها تقديرا عادلا حينا، وتقديرا جائرا أحيانا أخرى.

وفي عصور النضال العنيف والجهاد المحرج يقسر الناس على التفطن إلى جميع مناحي الحياة دقيقها وجليلها ويحملون على تناول موادها تناولا سريعا مرتجلا لا إشفاق فيه - غالبا - على ماضي تليد ولا مستقبل موموق بعيد والذي يربح المعركة للقوم من هذه المواد هو الذي لاشك يربح البقاء والخلود.

ولعل الشرق في هذا الوقت الحافل بجميع ضروب النزاع المليء بأقرب الاحتمالات وابعدها، هو احوج ما يكون إلى أن يكر راجعا إلى هذا الكتاب القديم الذي دونت فيه فضائلنا، ويطمس بالقلم العريض هذه الأسطر المجرمة التي تسيء إلى رجولة الشرقي، وتنقص من حيويته الفردية ثم حيويته الاجتماعية، وعملية التنقيح في الاخلاق والفضائل هذه عملية قديمة خبرها اليونان والرومان والعرب وغيرهم، وخبروا أخيرها اصدق مختبر. ولعل اشد عصور هذه الأمم سوادا هي العصور التي كان فيها الرقيب في غفوة عنها، فشبت بعض هذه الفضائل من رقدتها ونشبت تنهش في الحياة وتوالي تمزيقها إلى ان أحالتها في النهاية رسما لجسم، وبقية من جثة. والحياء - كما تعلم - من اقدم ما خط في كتابنا الأخلاقي - الحياء لا بمعنى صرف النظر وتحويل الفكر عن الشهوات والملاذ الدنيئة - بل الحياء بمعنى إعطائك سيفك لخصمك ليقتلك به، أو الارتماء على فجوة بين حائطين ليعبر عليك إلى غايته من هو دونك، أو السير وراء الناس من بعد تلتقط بقايا الزاد وفتات الأطعم إن سبيل النجاح سبيل واضح لا يخطئه النظر الصائب والاستعداد الصادق. فإذا رمت السير فيه غير مرفوع الرأس موفور الثقة بالنفس، فأحر بك أن تجدك في آخر الطريق أو موطئا للإقدام. ان الزحام على طيبات الحياة لا يدعك تسير في رفق وعلى مهل. وخجلك الذي تخجل واستكانتك التي تستكين، ليس لهما إلا نتيجة واحدة تعرفها لاشك تمام المعرفة. وهي لا ريب الحرمان والخيبة على حين قد تكون وأنت المحروم اكثر الناس استعداداً وأحقهم بالفوز تقول كتابة فرنسية: ما من حياة إلا ويمكن ان تكون ضررا على حياة أخرى أو اكثر. فإذا صدقت كاتبتنا فيما تقول - وما أخالها إلا صادقة - فما معنى ذلك؟ معناه أن نجاحك في سعي أو سبقك إلى غاية هو في الواقع حرمان لواحد أو اكثر ممن عداك. فهو - لذلك - مدفوع بغريزته إلى مزاحمتك وإقامة العراقيل في وجهك ليصرفك عن النجاح في هذا المسعى أو السبق إلى تلك الغاية. وهو غالبا لا يكتفي بان يوقفك حيث أنت بل تراه لا يحجم ولا يتجمجم أن يدفعك خطوة أو خطوات إلى الوراء، فذلك اضمن لفوزه واكفل بنجاحه.

ونحن لا ندعو إلى إطراح الخجل أو المزاحمة بالمناكب لنقف عند هذا الحد من تقوية الأنانية الفردية واحتجان معظم الخير للنفس. ولكن يقيننا الذي لا يتسرب إليه الشك هو إن من احسن نيل الحق خاص وأجاد في مدافعة الأخصام عنه يحسن أيضا المدافعة عن حق عام والمزاحمة في نصرته. والمرء في أمم الغرب العريقة يزج في أتون من الخصام العنيف والنضال الشديد فما يزال ينحي ويذود عن نصيبه الموموق وحقه المشروع حتى يناله. فإذا دعا داعي النصيحة العامة والبذل المطلق كان صاحبنا هذا في أول الملبين وطليعة المستجيبين. وما ذلك إلا إن فضائل الصبر والاحتمال يصيبها المرء من هذا النضال مضافا إليها استشعاره الرضى كل الرضى عن هذا البلد الذي يظلله ويهيئ له من فرص النجاح على قدر استعداده، هي مما يحبب إليه هذا البلد ويدعوه إلى المسارعة في البذل له والتضحية من اجله وليس من باب المصادفة المحضة أن تجد الإنكليزي اكثر الخلق مطالبة بحق خاص، وأكثرهم في ذات الوقت مطالبة بحق عام.

ثم لا تحسبن انتفاء الحياء والخجل يولد الغرور ويشجع على القحة كما قد يتبادر إلى الذهن. والصواب أن نقول: إن انتفاء الحياء بالمعنى الذي أردت هو قتل للغرور واستئصال للقحة. وذلك إن ظهور الجميع بمظهر الصراحة والثقة بالنفس لا يدع للدعى مضطربا يضطرب فيه أو مجال يصول فيه، إذ لا يبقى حينها رائجا إلا سوق الجدارة والاقتدار. ولو انتفى المزاحمون لراح هؤلاء الأدعياء المغرورون يملأون الدنيا صياحا وصخبا وادلالا بقوتهم وسمو مواهبهم:

زد على هذه المحاذير أن الحيي بانزوائه قد يحرم المجتمع الذي نعيش فيه كثير من الثمار الطيبة والجني اليانع الذي قد لا يخصب خصبه المطلوب في غير نفسه. وحبذا لو درس أصحابنا الخجلون هؤلاء شيئا من صحائف الطبيعة الناطقة، ولقنوا بعض دروسها العلمية. إذا لكانوا يشفون من مرضهم المخامر هذا. لينظروا إلى الزهرة ترفع جيدها لتستقبل الشمس، وليلاحظوا الرياح تذروا النبتة لا تتشبث جهد التشبث في أديم الارض، وليلحظوا أيضا الزهرة الجميلة لا يفوح عطرها يأتي عليها منجل الحاصد وتلقى بين ما يلقى أمام البهائم. ثم ينظروا إلى ذلك الطائر الجميل يتخذ من رواء ريشه وجمال زينته وسيلة للتشبث بأسباب الحياة. وليصغوا أيضا إلى ذلك الطائر عينه يملا الأرض برجع صوته الرخيم، لا ليشنف اسماعهم، بل ليكون له مما تصوغه حنجرته الصغيرة وسيلة يستبقي بها النوع ويستديم الذرية.

إن المرونة الخلقية لا باس بها، ولكن ليس إلى الحد الذي يصبح عنده الإنسان كالإسفنج تعتصر كل ما فيه من حياة دون أن يأسى أو يتألم، فيحاول المدافعة عن نفسه بالتي هي احسن أو بالتي هي اشر. الحرير لا باس به لباسا للمترفين، ولكنه بئس اللباس للمحاربين. فلنكن إذاً الشوكة تدمي الأنامل وتؤذي الملمس لا الوردة تنثر غلائلها أو الشهد يستساغ منهله.

شرق الأردن

أديب عباس