مجلة الرسالة/العدد 400/فتح مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 400/فتح مصر

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1941


كما صوره الأديب المجهول

للدكتور زكي مبارك

دخل العرب مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين لهجرة الرسول، على خلاف في ذلك لا يغير الجوهر من موضوع هذا الحديث

ولم تكن مصر بعيدة عن أذهان العرب في الجاهلية، فقد تحدث القرآن عن أخبار مصر بإفاضة وإطناب، ذلك يشهد بأن العرب كانوا يسايرون ما يقع في مصر من حوادث وتقلبات، ومن هنا كانت الحكمة العالية في عناية القرآن بالتحدث عن مصر وملوك مصر وهو يدعو إلى الاعتبار بمصاير الجبابرة والظالمين

كان العرب يعرفون مصر قبل الفتح، وكانوا ينزحون إليها من وقت إلى وقت، طلباً للغنى والثراء. ومن شواهد ذلك شدة القرب بين اللغة العربية واللغة المصرية، وهو قرب يؤيده الاتحاد في ألفاظ كثيرة تعد بالمئات، ألفاظ نطق بها العرب والمصريون مع تشابه في الجرس والمدلول، وذلك لا يقع بين أمتين عن طريق المصادفات، وإنما هو برهان على قوة التعارف فيما غبر من عهود التاريخ.

والحق أن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام كانت من مواسم اليقظة العربية، فكانت للعرب سفراء من التجار بأكثر البلاد التي فتحت في أيام الخلفاء، ولا سيما مصر والشام، فمن العسير أن نصدق أن مصر لم تخطر في بال العرب إلا قبيل سنة عشرين وكانوا يعرفون في جاهليتهم أنها أعظم مصادر الخيرات والثمرات، وأنها الطريق إلى أفريقيا الشمالية، وبأفريقيا الشمالية أقطار تسامع بها العرب ودخلت في أساطيرهم قبل الإسلام بأزمان

أقول هذا - وهو حق - لأثبت أن ما سطر التاريخ من أخبار فتح مصر لم يكن إلا من صنع الأديب المجهول، فمن هو ذلك الأديب؟

في الأدب العربي عشرات أو مئات الأدباء المجهولين، فالذي سطر خطب وفود العرب على كسرى أديب مجهول، والذي دون مشاورة المهدي لأهل بيته أديب مجهول، والذي ألف رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء أديب مجهول، والذي حرر المساجلة بين المقوقس وعبادة بن الصامت يوم حصار حصن بابليون أديب مجهول، فماذا صنع هذا الأديب؟

يجب أولا أن نفهم أن العرب لم يدونوا أخبار الفتوحات يوماً بيوم، كما يصنع الناس في هذا العهد. فقد كان العرب محمومين بالقتال والصيال، وهل دونوا القرآن إلا بعد الخوف عليه حتى يهتموا بتدوين أخبار الفتوحات؟

إذا فهمنا هذا أدركنا بسهولة أن من دون من أخبار فتح مصر لم يكن إلا صورة من التاريخ المزخرف، وهو تاريخ يمثل عقل الكاتب أكثر مما يصور الواقع، وإلا فكيف جاز أن يتفق عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص على خطاب يتلقاه عمرو في الطريق وفيه هذه الكلمات: (إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فأرجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك. . .)

ليس هذا خبراً من الأخبار، وإنما هو أقصوصة من الأقاصيص؛ فعمر بن الخطاب لا يسير جيشا لفتح مصر إلا وهو مصمم على ضم مصر إلى الممالك الإسلامية. وعمر بن العاص لا يدافع رسولا يحمل إليه خطاباً من أمير المؤمنين، كما تشاء (القصة) أن تقول لغرض شريف هو وصف عمر بالحذر، ووصف عمرو بالإقدام، وكذلك وصف عمر وعمرو في أكثر ما تحدث به القصاص، وهم أقطاب التاريخ المزخرف في شباب العصر الإسلامي

ثم أنتقل الأديب المجهول إلى وصف الحوار الذي دار حول حصن بابليون، وهو حوار ترى فيه المقوقس يتكلم اللغة العربية بفصاحة يصورها هذا التحذير الطريف:

(إنكم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فاعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء)

ثم يتلطف الأديب المجهول فيجعل رسول عمرو إلى المقوقس هو عبادة بن الصامت مع جماعة من الفرسان، فلأي غرض تخير عبادة لذلك اليوم المشهود؟

أنا أفترض أن الفن الأدبي هو الذي قضى بذلك التخير، فقد كان عبادة أسود، وكان العرب يعيرون بالسواد، فلم يكن بد من قرن الشجاعة بالسواد ليصبح وهو من مزايا الرجال

المقوقس: كيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟

أصحاب عبادة: إنه وإن كان أسود، كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيا، وليس ينكر السواد فينا

المقوقس: تقدم يا أسود، وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك

عبادة: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سوادا مني

من هذا الحوار نفهم أن ذلك الأديب المجهول قد أتجه إلى الدفاع عن اللون الأسود، وهو لون كان يعير بع العرب في بلاط كسرى وبلاط قيصر، وشعور العرب بالتأذي من السواد هو الذي فرض على شعرائهم أن يكثروا من التغني بالبياض، وهم لم يجعلوا (البياض نصف الحسن) إلا لكثرة ما عيرهم الناس بالسواد، وهل كانت رسالة الجاحظ في تفضيل السود على البيض إلا دفعاً لما تأذى به العرب من أراجيف الشعوبية وهم قوم ألحوا في تعيير العرب بالسواد؟

أنا أفترض أن سواد عبادة له دخل في جعله رئيس القوم عند محاورة المقوقس وقد شجع عبادة وهو أسود، وجبن المقوقس وهو أبيض، ليظهر الأديب المجهول فضل الأخلاق على الألوان، إن لم أخطئ في هذا الافتراض

ولكن ما الغاية الأصيلة لذلك الحوار الجميل؟

هو حوار يصور الخصائص الإسلامية في أدب النفس، وينفي عن العرب تهمة القول بأنهم لم يفتحوا الممالك إلا حبا في المغانم الدنيوية

لهذا نرى الأديب المجهول ينطق رسل المقوقس إلى عمرو بهذه الكلمات:

(رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد)

فهذا كلام مصنوع قد أبتدعه ذلك الأديب المجهول ليصور شمائل المسلمين على ألسنة رسل المقوقس، وإلا فكيف يمكن الحكم بأن هذا الكلام وقع بألفاظه ومعانيه، وما كان رسل المقوقس يتكلمون العربية، ولا كان الغزاة بقادرين على تسمع ما دار في مجلس المقوقس من وصف للعرب بتلك الأوصاف؟

والظاهر أن الأديب المجهول كان حريصاً على تأكيد هذه المعاني، فلم يكتف بإجرائها على ألسنة رسل المقوقس، وإنما أجراها بصورة أروع على لسان عبادة بن الصامت، إذ تصوره يقول وهو يحاور المقوقس:

(أنا قد وليت وأدبر شبابي، وأني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى وأقتصر على ما يبلغه، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيه، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)

ثم ترفق الأديب المجهول فأدار الحوار بأسلوب رشيق يجد القارئ تفاصيله في الجزء الأول من (النجوم الزاهرة) ويرى فيه ملامح من الحجاج الذي دار بين كسرى وأشياخ العرب يوم صاولهم وصاولوه في الصورة التي زخرفها أديب آخر مجهول

ومن الطريف أن نرى المقوقس يزين لأصحابه الصلح مع العرب بطريقة تشبه ما يسمى في هذا العصر (حجة دعاة التردد والهزيمة) فنفهم أن ذلك الأديب كان من أئمة الابتداع

المقوقس لأصحابه: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث أفوالله مالكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين

أصحاب المقوقس: وأي خصلة نجيبهم إليها

المقوقس: إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة (وهي دفع الجزية)

أصحاب المقوقس: فنكون لهم عبيداً أبداً؟

المقوقس: نعم تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خيراً لكم من أن تموتوا عن أخركم

أصحاب المقوقس: فالموت أهون علينا

وبهذا انقطع الأمل في الصلح، ودارت الحرب فاقتحم المسلمون الحصن، وانتهت الأمور إلى الخصلة الثالثة بعد أن أدى المصريون واجبهم في الدفاع عن بلادهم دفاعاً سلم من الخضوع لتخاذل المقوقس، وإن انتهى بالتسليم بعد احتدام نار القتال، والهزيمة في الحرب لا تغض من أقدار المحاربين، فالغالب والمغلوب في شرف الرجولة سواء

قد يعترض معترض فيقول: وهل تظن يوم الحصن خلا من مفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس حتى تحكم بأن ما دون من ذلك لم يكن إلا بدعا حبره أديب مجهول؟

وأجيب بأني واثق بأن المفاوضات دارت بين الفريقين، وإنما ارتاب في صحة الوثائق التي صورت بها تلك المفاوضات؛ لأنها أصغر مما يجب أن تكون، ولأنها أنطقت المقوقس وأصحابه بألفاظ صنعها كاتب فنان

ثم ماذا؟ ثم أهجم على خطاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر الخطاب الذي يقول: (مصر قرية غبراء وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات) والذي يقول: (فبينما مصر يا أمير المؤمنين، لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء)

أهجم على هذا الخطاب فأحكم بأنه موضوع لأني أستبعد صدوره عن عمر بن العاص، لأني أراه عبث عابث، لا كلام رجل مسئول

أما بعد فقد كان أسلافنا يقولون في ختام كل بحث: (والله أعلم) فأنا أختم هذا البحث بعبارة (والله أعلم) تأدباً بأدب السلف وفراراً من وصمة الرجم بالغيب

كتب الله لنا النجاة من الخطأ وهدانا إلى الصواب، إنه قريب مجيب

زكي مبارك