انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 40/بديع الزمان الهمذاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 40/بديع الزمان الهمذاني

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1934


2 - بديع الزمان الهمذاني

للدكتور عبد الوهاب عزام

تكلم الأستاذ في المقالة الأولى عن الحال السياسية والأدبية في القرن الرابع، وعن أسرة بديع الزمان وسيرته إلى أن رحل إلى نيسابور.

وقد وقع خطأ مطبعي أثناء ترتيب المقالة فوضعت الأسطر من الثالث إلى الحادي والعشرين من صفحة 501 النهر الأيمن في غير مكانها، وكان ينبغي أن توضع بعد السطر التاسع من النهر الأيسر في الصفحة نفسها

فهذا الإسماعيلي هو، فيما يظهر أحد هؤلاء الإسماعيلية الذين اكرموا مثواه في جرجان.

وفي رسالة إلى أبيه يقول (وقد كان رسم أن اعرفه سبب خروجي من جرجان، ووقوعي في خراسان، وقد كانت القصة أني لما وردت من ذلك السلطان حضرته التي هي كعبة المحتاج. لا كعبة الحجاج ومشعر الكرام، لا مشعر الحرام، ومنى الضيف لا منى الخيف، وقبله الصلات، لا قبلة الصلاة، وجدت فيها ندماء من نبات العام، اجتمعوا قبضة كلب، على تلفيق خطب، أزعجني من ذلك الفناء، واشرف بي على شرف الفناء، لولا ما تدارك الله بجميل صنعه وحسن وقعه، ولا اعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا، لكن الجملة أن غيروا السلطان وأشار على أخواني، بمفارقة مكاني، وبقيت لا اعلم أيمنه اضرب أم شآمة، ونجدا اقصد أم تهامة،

ولو كنت من سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجاج عليّ دليل

قد علم الشيخ أن ذلك السلطان سماء إذا تغيم لم يرج صحوه. وبحر إذا تغير لم يشرب صفوه، وملك إذا سخط لم ينتظر عفوه فليس بين رضاه والسخط عرجه، كما ليس بين غضبه والسيف فرجه

ونظرت فإذا أنا بين جودين، أما أن أجود ببأسي، وإما أن أجود برأسي، وبين ركوبين إما المفازة وإما الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن أفارق أرضي أو أفارق عرضي، وبين راحلتين إما ظهور الجمال، أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن، وأنشدت:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً ... فلا رأى للمضطر إلا ركو ولست ادري من هذا السلطان. واحسبه فخر الدولة ابن بويه، وأما شمس المعالي فلم يكن سلطانا في جرجان ذلك الوقت

في نيسابور

ورد نيسابور فكتب إلى أبي بكر الخورزمي، وهو شيخ أدبائها وأحد أغنيائها (أنا لقرب الأستاذ أطال بقاءه (كما طرب النشوان مالت به الخمر) ومن الارتياح للقائه، (كما انتفض العصفور بلله القطر) ومن الامتزاج بولائه، (كما التقت الصهباء والبارد العذب) ومن الابتهاج بمرآه (كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب) فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، وكيف اهتزازه لضيف في برده جمال، وجلدة حمال.

رث الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب

وهو أيده الله ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه إلى مستقري لأفضي إليه بسري، أن شاء لله تعالى)

ويؤخذ من كلام البديع انه ذهب إلى دار الخوارزمي فلم يحسن لقاءه، أو لم ترض نفس الهمذاني بهذا اللقاء فكتب إليه (الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه أزرى بضيفه أن وجده يضرب إليه آباط القلة في اطمار الغربة فأعمل في رتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أنواع المضايقة من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا، فأن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، وأتقزز صف النعال، فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت أن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف وفيهم مقامات حسان وجوههم=وأندية ينتابها القول والفعل

ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحط الرحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا، ورأى الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق أن شاء الله تعالى) فرد الخوارزمي رداً حسنا

وسعى سعاة السوء بين الرجلين. ثم جمع بينهما الشيخ أبو الطيب فلم يحمد ذلك الاجتماع.

ثم كانت بينهما المناظرة الأولى في دار السيد أبي علي أحد الكبراء في نيسابور، فتناظرا في ارتجال الشعر مناظرة ظهر فيها غلب البديع وقد غضب من قطع الخوارزمي إنشاده عليه فصمت برهة، يقول الهمذاني: (ثم عطفت عليه وقلت يا أبا بكر أن الحاضرين قد عجبوا من حلمي، أضعاف ما عجبوا من علمي، وتعجبوا من عقلي، اكثر مما تعجبوا من فضلي، وبقى الآن أن يعلموا أن هذاالسكوت ليس عن عي، وان تكلفي للسفه اشد استمرارا من طبعك، وغربي في السخف امتن عوداً من نبعك، وسنقرع باب السخف معك، ونفترع من ظهر السفه مفترعك، فتكلم الآن. فقال لي أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته، فقلت: أما قولك دية أهل همذان فما أولاني أن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي تمتدح به وتتبجح وتتشرف وتتصلف، من انك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت واجتديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذم يا عافاك الله.

ذهب البديع إلى بيت الخوارزمي واصطلحا. ثم شاع بين الناس أن البديع غلب، فكتب الخوارزمي إليه يتهمه بأنه شاع هذا الكلام، ويقترح مناظرة أخرى، فكانت المناظرة الثانية في بيت الشيخ أبي القاسم الوزير. وحضرها عظماء نيسابور، وكانت مباراة الارتجال والترسل والنحو واللغة، وقضى بالفلج للهمذاني فلما خرج لقيه الناس بالتقبيل ولم يستطع الخوارزمي الخروج حتى جنه الليل.

وفي رسائل الهمذاني تفصيل المناظرة التي قضت له بالفلج. وينبغي أن لا ينسى القارئ أن هذا قول أحد الخصمين، ولست اتهم الهمذاني بالكذب الصراح، ولكني لا أبرئه من محاباة نفسه. ثم ينبغي أن نتذكر أن الخصمين ليسا سواء: أحدهما شيخ طائر الصيت يخشى أن يؤخذ عليه ما ينقص من قدره، والأخر شاب طامح إلى الصيت يريد أن يبني مجده على هزيمة قرنه، وهو لا يخسر كثيراً إن غلب، وهذا مظنة أن يستعظم الحاضرون ظفر البديع ولو كان قليلا وهفوة الخوارزمي ولو كانت مما يغتفر أمثالها. ثم أظن أن بعض النيسابوريين كانوا يحسدون الخوارزمي، ويودون أن يذهب بمجده ذلك الضيف الشاب الجميل الطلعة، الخفيف الروح.

وكان الخوارزمي، فيما يظهر متكبرا ذا جفاء، قليل الوفاء:

قال الصاحب بن عباد حين جاءه نعيه: أقول لركب من خراسان قافل: ... أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم

فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم

ويقول أبو سعيد الخوارزمي:

أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الوفاء

مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء

ثم لم تكن المناظرة في صميم الأدب من الشعر والترسل، بل كانت في البديهة والارتجال والحفظ. قال الهمذاني وهو يتحدى خصمه: (ومثال أن أقول لك اكتب كتابا يقرأ منه جوابه هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك اكتب كتاباً على المعنى الذي اقترح لك، وانظم شعراً في المعنى الذي اقترح، وافرغ منهما فراغا واحداً. هل كنت تمد له ساعداً؟ وأقول لك اكتب كتابا في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وانشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرء من أسفله هل كنت تفوق لهذه الغرض سهما أو تجيل قدحا أو تصيب نجحا، أو قلت لك اكتب كتابا إذا قرء من أوله إلى أخره كان كتابا، فأن عكست سطوره مخالفة كان جوابا الخ، وقد أجاب الخوارزمي على هذا كله بقوله: (هذه الأبواب شعبذة) وهي أن لم تكن شعبذة فهي ليست من الأدب، وأن دلت على توقد الذكاء وسرعة البديهة.

ولست أقول أن البديع ليس أعلى من الخوارزمي في الأدب مقاما. ولكن أقول ما غلب بديع الزمان أبا بكر الخوارزمي هذه الغلبة التي تصورها رسائل الهمذاني ويرويها الأدباء.

اغتيط بديع الزمان بنيسابور ولقي من سراتها حفاوة وإكراما يقول في رسالة إلى أبيه عن صديق كان قد وعده اللحاق به: (وكان سألني أن أرود له منزلا وماؤه روى، ومرعاه غذى وأكاتبه لينهض إليه راحلته. فهاك نيسابور ضالته التي نشدتها، وقد وجدتها، وخراسان منيته التي طلبتها وقد أصبتها. وهذه الدولة بغيته التي أردتها، فقد وردتها، فان صدقني رائداً، فليأتني قاصدا. . . وأما أنا وأخباري بهذه الناحية فمتقلب في ثوب العافية، موقر بهذه الحضرة مرموق بعين القبول)

وقد كتب كثيرا من رسائله إلى جماعة من رؤساء نيسابور وهي تدل على ما كان بينه وبينهم من مودة. وفي نيسابور لقي بني ميكال ومدحهم. وفي رسائله واحدة إلى أبي جعفر الميكالي يشكو فيها تقصيره في تعظيمه: (وهل كنت تلا ضيفا هداه منزع شاسع، وأداه أمل واسع، حداه فضل وان قل، وهذا رأي وأن ضل، ثم لم يلق إلا في آل ميكال رحله، ولم يصل إلا بهم حبله، ولم ينظم إلا فيهم شعره، ولم يقف إلا عليهم شكره. . . ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبة فصار ذلك التقريب ازورارا. وذلك السلام اختصارا، والاهتزاز ايماء، والعبارة اشارة، ويقول في رسالة أخرى إليه: (واعرفه إني ما اطوي مسافة مزار إلا متجشما ولا أطأ عتبة دار إلا متبرما. ولست كمن يبسط يده مستجديا، أو ينقل قدمه مستغذيا. فان كان الأمير الرئيس، أطال الله بقاءه يسرح طرفه في طامح أو طامع، فليعد للفراسة نظراً) ثم ينقلب عتابه هجاء فيقول في رسالة إلى ابن ميكال (اشهد لئن صدق البحتري في اللامية، لقد صدق الأعشى في الصادية، وان وصف الدريدي في المقصورة، فلقد تغير الأمر عن الصورة، وان كان كالآخر الأول فما أحوج الكتب المقراض، وأكذب السواد على البيض - إلى أن يقول: اللامية قول البحتري:

ثلاثة عجب تنبيك عن خبري ... فيها وعن خبر الشاه ابن ميكال

والصادية قول الأعشى:

كلا أبو بكر كان فرعى دعامة ... ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا

يريد الهمذاني أن يقول أن بني ميكال كانوا كما قيل فيهم ولكن هذه الرئيس من بينهم قصر عن شأوهم.

ونجد الهمذاني في نيسابور يكتب إلى الشيخ العميد مستنجزا وعده في توليته بعض الأعمال: (فهل للشيخ أن يلطف بصنيعته لطفا يحط عنه دون العار، وسمة التكسب والافتقار، ليخف على القلوب ظله، ويرتفع عن الأحرار كله، ولا يثقل على الأجفان شخصه بإتمام ما كان عرضه عليه من اشغاله، ليعلق باذياله، وليستفيد من خلاله، فيكون قد صان الفضل عن ابتذاله، والأدب عن إذلاله، واشترى حسن الثناء بجاهه كما يشتريه بماله)

وفي نيسابور أملي المقامات. وسيأتي الكلام فيها.

يتبع

عبد الوهاب عزام