انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 377/نداء. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 377/نداء. . .

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1940



للأديب عبد الرحمن الخميسي

(يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني

وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف، ووجهك جميل)

(التوراة)

وجهها

سَواهُ رَبِّي فِتنةَ الأحْياءِ ... من سَرْمَدِي الحُسنِ وَالألاءِ

ما وَجهُ أفرُودِيت إلا صُورة ... منه، كَظِلِّ الوَرْد فوْق الماءِ

خَطَّ الإلهُ السحْرَ في قَسَماتِهِ ... ونَماهُ في جَنّاتِهِ الفيحاء

وَسَقاهُ أرْوَاحَ الجمالِ فكله ... كلُّ الجمال مُفَصَّلُ الآلاء

فيه الربيعُ وفيه طيرٌ ما شدتْ ... لكنها تشدو بغيرِ غِناء

فيهِ من الليْلِ الوَدِيعِ قدَاسةٌ ... تُلقى بُذورَ الخيرِ في أطوَائي

فيه مِنَ الألَقِ المُصفَّى لُمعَةٌ ... خمريةٌ مَشْبُوبةُ الإغرَاءِ

فيه خُفُوتٌ شاعريٌّ، تحتَهُ ... نارُ الشباب تسيرُ في اسْتِخذَاء

فيه النَّقاوَةُ وَالْبراءِةُ جُمعتْ ... وتَحدَّرَتْ منهُ إلى البُرآءِ

هو مَعبدٌ تَعتاشُ في مْحِرابهِ ... صَلوَاتُ عُشاقٍ، ونُسكُ سَمَاء

ضَحيتُ فيهِ تقرُّباً من خَالقي ... بزهور عُمرِي والتِماعِ هَنَائي

ونفضتُ عَنِّي المجدَ، مجداً زائفاً ... ونشدتُ فيهِ رفَعتي وَعلائي

وَعَبَدتُ فيه الله لا مَحبُوبَتي ... فالله مُبدعُ تلكُم العَذرَاءِ

وَنَسَجتُ من أنْوارِهِ غَيبُوبَتي ... فوجدتُها أنقَي مِن الأضْواءِ

يا شَعرَها الغِريبَ لَيتَ أنا الذي ... أهْتَز فَوقَ جَبِينهَا الوَضّاء

فأمُدُّ مِنْ ذَاتي قناَعاً حَالِكاً ... يخْفي ابِتسَامَتَها عن الأحْياءِ

فَأنا أغَارُ، وَغيرَتي مَجنُونةٌ ... هَدَّتْ بنائي، آه أيْنَ بنائي؟

ما حَرَّكتْ أجْفانَها إلا وَقدْ ... لَطَمَتْ فُؤَادِي غمرةُ الإعْياءِ والسهدُ في العينين كَبَّل مَنَطِقي ... وَأصَابَني بالرعْشَةِ الحَمقاءِ

صوتها

ينسابُ كالصهباءِ في حسِّي إلى ... أنْ تحتويه نشوةُ الصهباء

فتميد بي الدنيا وأنسى صرفها ... وتُفَكُّ روحي من إسار بقائي

وأهيمُ في أفقِ الذهول معانقاً ... وَهْمي إلى عُشٍ من الأضواء

تختالُ فيه القُشبُ من أحلامنا ... وتَرفُّ حولي عَذبةَ اللألاء

هو ذُخرُ وجداني إذا ما فَرقَتْ ... بيني وبينكِ رِجفةُ الأنواء

فيرنّ في غوري صداهُ مرقرقاً ... شوقَ الحبيبِ إلي الحبيب النائي

ويُفيحُ حرَّ الوجدِ من أنغامِه ... في حَبَّتي وعلى هدير دمائي

فَيلُفني الإعصارُ إعصارُ الجوى ... وتُذيبُ نفسي غُربةُ الشعراء

إني أحِسُّ لرَجعِ صوتك في دمي ... لهباً وبرداً يُترِعان ذِمائي

وأودّ لو أني هواءً عاطراً ... ثَملاً بموسيقاه في أحنائي

أطوي عليه النفسَ خشيةَ سامعٍ ... وأغارُ يا دنيايَ من أحشائي

يا ليتَ أني في لهاتِكِ غُنوَةً ... علوية التلحين والإلقاء

لَسَكنتُ في الألباب أخلدَ منزلٍ ... ما دمتِ أنتِ ترنمتْ بغنائي

إني الشحيحُ وجَرسُ صَوتُك في دمي ... وسواسُ تِبرٍ نافذُ الأصْداءِ

حول الرنينِ يطوفُ عُمري مثلماً ... يَتَطَوَّفُ الحَرَّانُ بالأفْياءِ

ولسانُكِ الذّهبيُّ قيثارٌ سَرتْ ... من قَلبهِ أغْرُودةُ الجوزاء

وكأنها فجرٌ، أنا في نُورِهِ ... جسمُ الدجُنَّةِ ذائبُ الأعضاء

وكأنها عِطرٌ يُضمِّخُ مهجتي ... وأنا النسيمُ مُطهَّر الأرُجاء

وكأنها طلٌّ يغيثُ حَشَاشَتي ... وأنا البَنَفسجُ في الربى القَحْلاء

وكأنها جَمرٌ يُحرِّقُ معْدني ... وَيُحيلني رُوحاً مِنَ العلياء

وكأنها كلُّ الحَيَاة تدُبُّ في ... جَسَدِي دَبيبَ النور في الظلْمَاء