مجلة الرسالة/العدد 354/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 354/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1940



الدرس الأول

للأستاذ محمد سعيد العريان

(هل كانات (قدرية) في أوّليَّتها تتوقع هذه الغايةِ التي انتهى إليها أمرُها)

هكذا سألني صديقي وهو يحدثني حديثها:

كانت تجلس في الصف الأخير من حجرة الدراسة، فقد كانت أطول قامة وأبعد نظراً؛ فما يشق عليها ولا يعنيها أن تجلس في الصف الأول أو في الصف الأخير؛ على أنها كانت أسبقَ التلميذات جواباً عند الاختبار، وأكثرهن عناية بالعمل المدرسي؛ فلا جَرمَ كانت بذلك أدنى منزلة إلى قلوب معلميها ومعلماتها. وكانت على إرثٍ من الأدب والفضيلة، يبدو في طرْف غضيض، وصوت خفيض، ولسان عَذْب التحية عف الخصام؛ وكانت إلى كل ذلك مليحة رشيقة، مقبلة ومُدْبرة!. . . وإني لأعجب لنفسي كيف لم أتبيَّن ما فيها من رشاقة وخفة إلا في تلك الليلة التي كانت. . . حين بدأت حوادث هذه القصة؟. . . على أن المعلم في مدارس البنات، قلّما يُعنى بالنظر إلى وجوه تلميذاته، ولعله لو سئُل الرأيَ في تفضيل واحدة على واحدة من بناته في هذا الباب، لأخطأ الرأي والنظر، ولكانت أَدَمَّ الدميمات هي عنده الجميلة التي لا تباريها واحدة ولا تقاربها؛ فإن طول العشرة ودوام المخالطة خليقٌ بأن يلوِّن رأيه بلون غير اللون الذي ينظر به كل رجل إلى كل امرأة؛ ومن ذلك لم يهجس في نفسي يوماً أن فلانة من تلميذاتي أجملُ أو أَدَمُّ من فلانة؛ وكذلك لم أكتشف ما كان في (قدرية) من جمال وفتنة إلا في تلك الليلة وإنها لتلميذتي منذ ثلاث سنين!

كان ذلك في يوم من أيام الربيع، وقد تبرَّجتْ الدنيا بزينتها وأخذتْ زخرفَها ونَضَت الكائناتُ عن سرَّ الإبداع العبقري الذي أودعه فيها الصانع الأعظمّ!

وكان العام الدراسي في أخرياته، وقد فرغ المعلَّمون أو كادوا مما عليهم من فرائض العلم، وتأهب التلميذات لواجبهن استعداداً ليوم قريب. . .

ورأت المدرسةُ أن تجري على تقاليدها احتفالاً بانتهاء عام؛ على أنها رأتْ أن يكون في حفلتها هذه السنةَ شيءٌ جديد، محاكاة لمدارس أخرى، ومساهمة في بعض أعمال البر؛ فاعتزمت أن يكون احتفالها في مسرح كبير مشهور، يُدعْى إليه طائفةٌ من أهل البذْ والمعروف، لتستعين المدرسة بما تجمع منهم على البر بطائفة من الفقراء. . .

هي سنَّة جديدة سنها بعض القائمين على شئون التعليم فَجَرَت قاعدة؛ فِلَم نتخلَّف نحن وقد سبقتْ إلى هذه السنة الجديدة مدارس؟

وأعدّت المدرسة برنامجاً حافلاً، فيه تمثيل، ورقص، وموسيقى؛ وما بّدٌ أن تجتمع هذه الألوانُ الثلاثة في كل حفلٍ مدرسي يراد منه أن يغل إيراداً يعين على بعض أعمال البر. . . وإلا فماذا تقدَّم المدرسة من وسائل التسلية ثمناً لما تطلب من أهل البذل والمعروف!

وقالت معلَّمةٌ لأخرى: ينبغي أن تكون حفلتنا. . .

فقاطعتها الثانية: نعم، وستكون أفخمَ ما أُقيم من حفلات المدارس في هذا الموسم. . .!

واختيرت الرواية، واستؤجِر المسرح الكبير، ودُعي فنانٌ كبير من أهل الكفاية. . . ليدرَّب التلميذات على اصطناع شخصيات الرواية، كل واحدة بدورها، راقصة أو ممثلة!

وطاف المدَّرب بالتلميذات في صفوفهن يختار منهن ذواتِ الوجوه والأجسام. . . الفنية!

واختار (قدرية) لدور ذي خطر. . .

وتأبَّت الفتاةُ بما في طبيعتها من الحياء وما في دمها من إرث أجدادها؛ وعجب البناتُ أن تأبى قدريةُ وإن كل واحدة منهن لتتمنى؛ واستمعت قدرية إلى أحاديث البنات صامتة، ثم. . . ثم قبلت فخوراً مزهوة، وغلبتها غريزة الأنثى الغيور على ما في دمها من إرث الآباء والأجداد!

ووقف المَدرَّب يلقَّنها ويستمع إليها، ووقفت هي مصغية تستمع إليه وتحاكيه، تجهر بصوتها حيناً وحيناً تخافت به؛ وعرفت من مخارج الصوت ما لم تكن تعرف، ولانت أعطافها بعد خشونة ويبس، وأحسنتْ أن تدورَ على عقبها، ثم تنثني وتنهض، وأجادت تمثيل اللفتة المتكبرة، والنظرة ألعابرة، والرَّنوة الآسرة ثم تبكي وتضحك في وقت معاً. . . . . .

وقال المدرب الفنان: يا لها من فتاة! إنها لفنانة موهوبة!

وأطبقت الفتاة جفنيها في حياء وهي تشكر له، فبدت في كلمتها وحركتها أبرع فناً مما ظن مدربهُا. . .!

ولم يُمانع أبوها وأمها أن تكون ابنتهما راقصة ممثلة ساعة في ليلة من ليالي البر؛ وأين يبدو لهما وجه الاعتراض والمدرسة هي التي اختارتها لذاك؛ وإن المدرسة لأعرف منهما بما ينبغي وما لا ينبغي؛ وإن عليها وحدها أن تختار لتلميذاتها من وسائل الرياضة والتثقيف ما يؤهلهن للحياة. . .!

وجاءت الليلة الموعودة بعد تدريب طويل وإعداد شاق. . . وكان على أبواب المسرح الكبير معلمون ومعلمات لاستقبال المدعوَّين، وغص البهو والشرفات بالآباء والأمهات، والأصدقاء والصديقات، و. . . والمربين والمربيات. . .

وراحت طائفة من التلميذات تجوس خلال الصفوف في ثياب بديعة ومظهر فاته، يبعن الزهر والحلوى مما صنعت أيديهن من قبلُ استعداداً لهذا اليوم ومساهمة في أعمال البر. . .

. . . وكانت (قدرية) خلف الستارة بين أيدي المواشط يهيئنها للظهور، وأمامها مرآة كبيرة تريها من نفسها ما لم تكن ترى أو تعرف، وابتسمتْ ابتسامة الإعجاب والرضا حين رأتْ وعرفت. . .!

وخرجتْ إلى المسرح مجلوة ملونة كما لم تبد في يوم من أيامها، وانسكبت عليها الأشعة من أربع جوانب المسرح تشبُّ لونها وتزيدها ملاحة وفتنة، ووقفت متأهبَّة. . .

ورن الجرس، ثم ارتفعت الستارة، وضج المسرح بالتصفيق فانحنت في رشاقة وخفة وهي تكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، ونثرت ابتساماتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية. . .

ولم يكفّ التصفيق حتى ارتفع صوتها يغني. . . واستدار بها البنات يرقصن ويغنين. . .

وغنّتْ ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمَّرتْ ثم زلّت، واستعطفتْ ثم دلَّتْ، ووعدتْ ثم تأبَّتْ، ومنعتْ ثم نوَّلت، وقالت عيناها. . . وقالت عيونُ الناس. . .

وكأني لم أر قدرية قبل تلك الليلة؛. . . لقد بدا لي من جمالها وخفتها ما لم يكن لي به عهد من قبل؛ أهذه هي. . .؟

ولما أسدِلت الستارة في الخاتمة، كان تحت قدميها أكداس من الزهر؛ وفي أذنيها أنغام من هتاف الإعجاب؛ ولكن قلبها كان أحفلَ بمعانيه. . .!

وحين لقيها أبوها بعد، كانت في عينيه دموع، وطبع على جبينها قبلة. . . وأقّلتهْا السيارة بين أمها وأبيها إلى البيت وهي صامتة، لأن معاني ذات خطرِ كانت تُطيف برأسها. . .

ونامت تلك الليلة بين هتاف وتصفيق وأكداس من الزهر: لقد كانت عيناها مغمضتين ولكن قلبها يقظان؛ وتمثل لها في أحلامها كلُّ ما رأت وسمعَت وشعرتْ، وراحت أحلامها تنسج لها أمانيها. . . وتلقَّت الدرسَ الأول في تلك الليلة، فنسيت به كل ما تعلمت من دروس!

لقد ذاقتْ قدريةُ من اللذة الفنية ليلتئذِ ما لم تذق طوال سنيها التي عاشت، فشاقها أن تستزيد. . .

ولما عادت إلى المدرسة بعد يومين، وسمعتْ ثناءَ معلَّميها ومعلماتها، أجدَّ لها ما سمعتْ معاني أحست في أعماقها صداها ووجدت فيها غذاءَ لأمانيها. . .

. . . وتناولت (المجلةَ) التي تعودتْ أن تقرأها في كل أسبوع، فراحت تعبر صفحاتها معُجلة حتى انتهت إلى صفحة (الفن) فتلبثتْ، وأخذت تنظر إلى صور الراقصات ونجوم المسرح معجبة متمنية. . . وفي أذنها صدًى بعيد من هتاف النظَّارة وتصفيق المتفرجين. . .!

ولما حان عيد مولدها وأرادت أن تتصوَّر - على عادتها في كل سنة - لم يحلُ لها إلا وضعٌ واحد تبدو فيه صورتهُا، فلبستْ ثوبها الذي كانت ترتديه ليلتئذ ووقفت بعضَ مواقفها واستحضرتْ صورةَ ما كان. . . فانطبعت في الورقة صورةٌ من مشاهد ذلك الماضي، وتمثلتْ في نظرة عينيها تمامُ صورته!

ووقفتْ ذات مساء على باب مسرح كبير من مسارح اللهو تجيل عينيها في إطار كبير يضم شتيتاً من صور الراقصات وربات الفن، وطالت وقفتها؛ ثم انصرفت؛ وفي الليلة التالية كانت جالسة في الصف الأول من بهو المسرح تشهد التمثيل وحدها، ليس معها أحد من ذويها؛ واستطاعت في ختام الليلة أن يكون لها رأي فيما شهدت من ألوان الفن وفي عيوب الممثلين وغلط الراقصات. . .!

وفي الصباح كانت جالسة إلى بعض زميلاتها في حوش المدرسة تحدثهن حديثاً طويلاً عن عيوب الفن المصري في الرقص والتمثيل والغناء، وتشخّص العلة وتصف الدواء؛ وأمَّن صديقاتها على ما قالت؛ فما تشك واحدة منهن في أن من حق قدرية أن يكون لها رأي في الرقص والتمثيل والغناء؛ وإنهن ليسمعن من حديثها كل يوم ما يشهد بكفايتها وسعة معارفها في تلك الفنون. . .!

وتلقت قدرية بعد الدرس الأول دروساً كثيرة، في المسرح والسيما، والصحف، والكتب؛ وما نسيت مع كل أولئك شيئاً مما رأت في تلك الليلة التي كانت. . . لقد استقرت في أعماقها أصداء الهتاف والتصفيق الذي سمعت ليلتئذ. . . ورنين كلمات الإعجاب والرضا التي وعتْها أذناها، وصورتها بين الأشعة الملونة تنسكب عليها من جوانب المسرح وتحت قدميها أكداس الزهر. . . وبقي كل أولئك في نفسها مشهداً حياً كأنها ما تزال بين أشعته وألوانه، فإنها لتجد لتذكُّره لذة فنية تحبب إليها حياتها وتجدد لها في كل يوم أمانيها. . .

وانتهى عهدي بقدرية وانتهى عهدها بي؛ فقد أتمت دروسها بالمدرسة ومضت لشأنها؛ وتصرمت سنون. . . ونسيت أمرها وما كان. . .

. . . وفي ليلة من ليالي الصيف الماضي، دعوت أهلي إلى سهرة في بعض ملاهي الإسكندرية؛ قصدَ التسلية والرياضة. ووقفتُ بباب الملهى العائم بين الأمواج المصطخبة، أقرأ البرنامج المنشور على الباب وأشاهد الصور؛ ورأيت صورة، فهجس في نفسي هاجس لم يلبث أن تلاشى. . .

ودخلنا، واتخذنا مقاعدنا على مقربة من المسرح. . . ومضت لحظات، ثم رن الجرس ورفعت الستارة؛ وتتابعت المشاهد فنوناً توقظ الفكر وتجلو صدأ النفس وتُسري عن الهموم؛ وفجأة برز أمامي مشهد رائع. . . يا لله. . .! من كان يظن. . .؟ هذه تلميذتي قدرية!

وبدت لي في مثل هيئتها التي رأيتُ أول مرة على المسرح الكبير في القاهرة منذ سنوات. . .

ثوب منفوش، كأنما اجتمعت أجزاؤه من أوراق الزهر، يكشف عن ساق ممتلئة مصقولة، كأنما يجري فيها شعاع الشمس، وانحنت في رشاقة وخفة، وهي تنثر ابتساماتها يمنة ويسرة، ترد تحية بتحية، والمسرح يضج بالتصفيق والهتاف باسمها الجديد الذي سمعتُه لأول مرة في تلك الليلة. . .

وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت. . .

وقالت عيناها. . . وقالت عيون الناس. . . وقالت لي نفسي. . .

وانتثرت أكداس الزهر على قدميها، وأسدلت الستارة. . .!

ليت شعري، هل كانت قدرية في أوّليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرُها؟

وهل كانت خواطرها تخيَّل لها هذا المصير الذي بلغته، يوم كانت تجلس مجلسها من الصف الأخير في حجرة الدراسة؟

وهل. . . وهل عَرف من عَرفَ: كم بين الدرس الأول والدرس الأخير. . . وأين ما بدأ مما انتهى. . .؟

وانفض السامر، وتهيأ أهلي للانصراف وما زلت في مجلسي أفكر، ثم نهضت؛ فإني لألتمس طريقي في الزحام على الباب إذ حانت مني التفاتة فرأيت؛ فتنحيت عن طريقي، وقلت للتي بجانبي: تفضلي! وكانت سيدة ورجلها وبينهما طفل؛ أما السيدة فأعرفها؛ فما تخفى علىَّ ملامح تلميذة من تلميذاتي مهما باعد بيِننا الزمان؛ وأما الرجل فزوجها؛ هكذا يعرف كل من يراه ويراها؛ وأما الطفل. . .

. . . هذه فتاة أخرى من تلميذاتي تبرز لعينيَّ فجأة بعد غياب سنين. . . هذه واحدة و (تلك) واحدة. . .

ليت (تلك) التي توارت خلف الستارة منذ قريب قد رأت ما رأيتُ لعلها تعلم ماذا باعت وما اشترتْ!

وشيعتُ (الأسرة السعيدة) بعينيّ ثم ارتد نظري إلى الوراء لأشيَّع الأخرى. . .

وكأنما اجتمعت لي هاتان الصورتان في زمان ومكان ليشغلني أمرهما من بعدُ ما يشغلني، فلا أزال أسأل نفسي كلما حضرتْني الذكرى: أيهما خير. . .؟

محمد سعيد العريان