انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 344/الحياة جميلة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 344/الحياة جميلة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1940


الحياة جميلة، وما يشوّه جمالها غير هذا الحيوان المسمى بالإنسان! لم يعش فيها كما تعيش سائر الأنواع على رسم الفطرة وهدى الطبيعة ووحي الله، وإنما عاش على قوانين من وضعه استمدها من أثرته وكبريائه وهواه فكان شرّاً على نفسه وحرباً على غيره

ربما اقتتل الوحش والوحش أو الطير والطير في سبيل القوت أو النسل؛ ولكنه اقتتال الساعة لا يسبقه تدبير ولا يصحبه حقد ولا تلحقه جريرة. أما الإنسان فهو وحده كدر السلام وقذى الحياة! أحيا لنفسه بفضل ذاكرته ماضياً يحفظ الثأر، وخلق لنفسه بفضل بصيرته مستقبلاً يحمل الخوف، فكان حاضره بينهما قتالاً مستحِراً لا ينقطع ولا يفتر، إما دركاً لثأر الأمس الذي يتذكره، وإما كسباً لقوت اليوم الذي يتبصره، وإما درءاً لخوف الغد يتصوره

الحياة جميلة، وأجمل منها الحي الذي يدرك هذا الجمال ويتذوقه ويستوعبه ويكتسيه. فالطائر أجمل من الروض لأنه عرف كيف ينقل ألوانه على ريشه، ويجمع ألحانه في صوته. والأسد أجمل من الغابة لأنه استطاع أن يجعل رهبتها حية في رهبته، وعظمتها ماثلة في عظمته. والجمل أجمل من الصحراء لأنه أندمج فيها فسير جبلها في هيكله. وصور رملها على أديمه. والحوت أجمل من البحر لأنه قطعة من الحياة صيغت من لين مائه وشدة موجه وسرعة تياره. وكأنما يدرك الطبيعة ويسايرها ويتأثر بها كل شيء من ناطق وصامت إلا هذا الإنسان، فقد خرج عن سنة الله في خلقه حتى اختصه بالأنبياء والرسل والمدارس والكتب! وهيهات أن يدخل النور عين الضرير، ويبلغ الصوت أذن الأصم!

الحياة جميلة؛ وليس جمالها قصراً على قوم دون قوم، ولا على طبقة دون طبقة. إنما الجمال وضاءة الفن الإلهي أشاعه الله في الأرض والسماء وهيأ المدارك للاستغراق فيه والاستمتاع به. فمن كان ذا سمع وبصر وقلب وجده في كل منظر وأحسه في كل حالة. فهؤلاء الذين يمرون عليه وهم معرضون عنه قد فسدت فيهم طبيعة الحياة، وتلبدت فيهم ملكة الحس، فانقطع ما بينهم وبين الوجود الحق والوجدان الصحيح

إن الجمال وسيلة الطبيعة لحفظ الحياة وبقاء النوع، تجمع به ما شت، وتؤلف به ما نفر. وهو بعد ذلك سرور النفس ونور القلب وسلام الروح؛ فمن تملاه في صوره الحسية والمعنوية في الكون كان له منه في كل زمان شباب وفي كل مكان ربيع الحياة جميلة، ومظهر الشعور بجمالها المرح والبهجة. فأينما تر الخمود والكآبة تر الشعور الذي أدركه الكلال أو أصدأه القبح أو أفسده الشر، فيموت فيه الوعي، أو ينعكس فيه الجمال، أو ينقلب فيه الخير. فالجمال في الطبيعة لابد أن يجاوبه جمال في النفس؛ والصفاء في العيش لابد أن يعادله صفاء في القلب. ومن هنا استسر الجمال والصفو على ذوي الحس المظلم والضمير الخامد

كن جميلاً تر الجمال في كل شيء حتى في الدمامة. ومتى امتلأت قواك المدركة بمفاتنه ومباهجه حَلِي الوجود في صدرك، وساغ المر في فمك، وسعيت إلى مجالي الجمال في النيل والجزيرة والريف فشدوت مع الطير، وطرت مع الفراش، وسبحت مع السمك، واستطعت أن تطاول الأغنياء في العز وتشآهم في الغبطة، وتقول لهم: إن السعادة بالجمال أضعاف السعادة بالمال؛ والمال لكم فجدواه عليكم، ولكن الجمال لله فجدواه على الناس

الحياة جميلة، وأنت يا ابن الحياة وارث هذا الجمال. فلِم تزوي عنه وجهك وترسل عينيك بالحسد والحقد إلى المترفين الخافضين وهم يتلهون بالقنص، أو يتزحلقون على الجليد، أو يتمتعون بالسياحة؟ إن في القاهرة وضواحيها من الجمال المبذول والنعيم المشاع ما يكفكف ثورتك على الغني، ويلطف سخطك على الحياة. هذا هو النيل الجميل يجري بين ضفافه السحر، ويخطر على سواحله الفتون؛ فمن الذي يمنع جمهرة الشعب أن تداعب أمواجه بالمجاديف، وتشق عبابه بالزوارق، وتقيم على شاطئيه مهرجانات السباق ومسارح اللهو؟ إنك لتمر على النيل في أي ساعة شئت من النهار أو الليل فتحسبه من السكون المخيم على شاطئه ومائه يجري في مجاهل الأرض. ولولا أن عليه جسوراً لا مناص من عبورها إلى الشاطئ الغربي لما ذكره القاهريون إلا كما يذكرون المقطم!

إن حياة الكسل والرخاوة والخمود والانقباض التي نحياها ألقت من ظلالها الباردة على النيل والجزيرة، فجعلت النيل في ركود المستنقع، والحدائق في سكون المقبرة ولذلك ترى الناس يمشون على جنباته أو بين جناته مطرقين صامتين كأنهم في مجال التأمل أو في مقام العبرة!

الحياة جميلة، ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء اللهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسباحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية. وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وزارة الشؤون الاجتماعية، فإن هذا الذي ذكرنا داخل في منهاجها وعلاجها؛ وهو يشبه أن يكون غرضاً أصيلاً من أغراض وزيرها المجاهد المصلح، فإن سياسته في تقويم الشباب قائمة على تقوية رجولته وشجاعته بالعسكرية، وتربية خلقه وذوقه بالرياضة