انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 310/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 310/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1939



دراسات في الفن

الحب والمرأة والفن

للأستاذ عزيز احمد فهمي

جانب كبير جداً من الفنون يدور حول الحب

ولا عجب في هذا، فالحب عاطفة تشترك في تخليقها عدة غرائز من أقوى الغرائز التي يقوم بها كيان النفس الإنسانية وهي مبعث العواطف. ومن هذه الغرائز التي تخلق الحب في النفس: غريزة حفظ النوع، وغريزة السيطرة، و (غريزة العشرة) وهي أخص واعنف من غريزة الاجتماع، و (غريزة الوثنية) التي تنزع بالإنسان إلى تجسيد ما يصبو إليه وتحديده والتي تخرج به من إبهام المتجرد إلى وضوح الملموس، وهي غريزة لم تضعف إلا عند الذين يدمن إحساسهم التدريب على الاتجاه نحو معان يحبونها ويدهش لهم العالم ويتساءل: كيف يحبونها؟

وهذه الغرائز التي تخلق عاطفة الحب كل منها قوي عنيف. ونفس الفنان بطبعها أكثر طواعية للتأثر من غيرها لأنها أشد حساسية من غيرها. وإذا كانت نفس الفنان تلبي مسرعة نداء المؤثرات الخارجة عنها فأجدر بها أن تستجيب للهتاف المدوي في جنباتها. فلا غرابة إذن أن يزدهر الحب بين أهل الفن أكثر مما يزدهر بين غيرهم، ولا غرابة بعد ذلك إذا دار جانب كبير جداً من الفنون جميعاً حول الحب، فليست نفس أخرى أقرب إلى نفس الفنان من نفسه، وليس أحب إليه منها، وليس أجدر منها بالالتفات الذهني والحسي، وليس أشد منها وضوحاً لديه، وليس شيء ابعث منها على التسجيل

ولكن الذي نلحظه هو أن جانباً كبيراً جداً من فنون الحب يئن بالشكوى من هذا الحب، ويرضخ بالذل له، ويستعطفه متشفعاً إليه بالفن ذاته، كما أننا نرى في هذه الفنون المكلومة كثيراً مما يشبه علامات اليأس، وقد نرى منها قليلاً مما يشبه علامات التمرد الذي يعقب اليأس، إذ ينكر بعض الفنانين الحب إنكاراً، وإذ يسخر بعضهم من المرأة سخرية شاذة لا أصل لها في الطبيعة ولا شبيه لها في حياة الحيو وهذا يشهد بان الفنانين فاشلون في حبهم، أو هو يشهد على الأقل بأن كثيرين جداً من الفنانين يفشلون في حبهم. فما الذي يدعو إلى هذا؟ أهو قصور في رجولة هؤلاء الفنانين؟ أم هو التواء حاد بنفوسهم عن المسلك الطبيعي الصحيح الذي يجب أن يسلكه الذكر مع الأنثى ليقنعها بنفسه؟ أم هو انحراف عن أساليب الأرض إلى أسلوب جديد بعيد تسعى الحياة إلى اصطناعه وستأخذ يوماً ولكن بعد أن يكون هؤلاء الفنانون قد ركلوا الأرض إلى عالم يرتاحون فيه ولا يشقون؟ أم هو هذا كله مزيجاً مركزاً؟

الطبيعة وحدها هي التي تهدينا إلى سر هذه المشكلة. وإذا كانت حياة الإنسان قد تشابكت من نواح، وتحللت من نواح، وعقدت الحضارة أغلب أطرافها وأوساطها بحيث لم يعد من الميسور لكل عين أن تميز الأصيل في أفعال البشر من الدخيل عليها، فإن لنا في حياة الحيوان ما يدلنا بوضوح وجلاء على طريقة التهافت الطبيعية التي تجذب الذكر نحو الأنثى، والتي تجذب الأنثى نحو الذكر. فإذا ما تعلمنا من الحيوان هذه الطريقة عدنا إلى الإنسان الفنان ونظرنا: هل هو يماشي الطبيعة في غرامه أو هو يحيد عنها مترفعاً أو متدلياً أو هائماً على وجهه يتخبط ذات اليمين وذات الشمال؟

وقبل أن نخطو هذه الخطوة يحب أن نجيب عن سؤالين قد يخيل لبعض الذين يصحبونني في جولتي هذه أنهما يعرقلان المضي في مذهبنا، أو أنهما على الأقل يشوهان هذا المذهب. أما السؤال الأول فناعم خفيف يقول لنا بصوت خافت رقيق: هبكم رأيتم الفنان قد حاد عن طريق الطبيعة التي تزعمون فلماذا تخصونه بالحساب والعتاب من بين الناس وأكثرهم حائد عن هذا الطريق؟ وإذا كان هو يئن بالشكوى من حبه، فكثيرون غيره يئنون؛ غير أنه يذيع أنته وهم لا يذيعون؟! ونحن نجيب عن هذا السؤال فنقول: إن الفنان هو رائدنا إلى الطبيعة؛ وليس يبرر بعده عنها إلا أن يكون هذا البعد قفزة إلى مرحلة من مراحل الرقي الإنساني يسبق بها البشر ليكون فيهم بشيراً بما سينتهون إليه بعد حين. وليس مما يريح ضمير الإنسانية أن ترى الفنان وهو هاديها إلى الحق ومواطن الراحة مضطرباً في حياته الخاصة، وفي أعز جانب من حياته الخاصة هذه دون أن تعرف علة هذا الاضطراب لعلها تستطيع أن تنقذه منه

وأما السؤال الثاني فيصرخ فينا بعنف ويقول: كيف قررتم أن الحب عند الإنسان يشبه الحب عند الحيوان، ولم تروا أنه أرقى وأشرف؟ ونحن نرد هذا السؤال بقولنا: إن الحب لا يمكن إن يخرج على حال من حالتين: فأما نزوع روحاني لا يصحبه النزوع البدني وهذا شيء لا يعوقه عائق، ولا تصده عقبه ولا يمكن أن يشكو فيه شاك من بعد أو حرمان أو لوعة أو صبابة أو هجر أو غدر أو غير ذلك مما يشكوه العشاق، ومما تدور حوله فنون المتبرمين من الفنانين العاشقين، فالروح متى رضيت عن روح لم تعد تعبأ بما يفرق بينهما من بعد المكان، أو بعد الزمان، ولم تعد تهتم باختلاف الجنس بينهما أو توحده

إما هذا، وإما أن يصحب هذا النزوع الروحاني نزوع جسدي وفي هذا تظهر الشكوى، ويظهر الأنين، وتظهر فنونهما فلا بد إذن يكون النزوع الجسدي هو الذي يسببهما إذا لم يصب التوفيق، وهذا النزوع البدني موجود عند الحيوان، ولكنه يصيب التوفيق دائماً، ولا يفشل مطلقاً إلا عند العدوان حين يندس بين الذكر وأنثاه ذكر جديد قوي غلاب، وعلى هذا كان من غير الطبيعي في حياة الإنسان أن يفشل الرجل في حبه ما لم يصرعه رجل أقوى منه في الناحية التي تعترف بها الأنثى، وتنقاد لها

هذان هما الحالان اللذان يتشكل بهما الحب في حياة الإنسان على الإطلاق. وأرى من العفة أن أربأ بصورة الحب الإنساني عن الحالة الثالثة التي يتفرد فيها النزوع البدني وحده. لا لأنني أريد أن أمجد الإنسان، ولكن لأني أرى في بعض الحيوان ما يعف عن هذا الحب ويتسامى عليه، ويجمله بالألفة والمعاشرة، والحنان والتعاطف. والمسلم به أن الإنسان أرقى من الحيوان.

وبعد، فأني أحسب أن الطريق قد عبد أمامنا، وأننا نستطيع أن نخطو في خطوتنا الأولى نحو الحب عند الحيوان.

والذي نلحظه هو أن للحيوان غزلاً يشبه الغزل عند الإنسان من حيث إنه دليل الرغبة في إقامة بين الذكر والأنثى، ومن حيث إنه الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحب. والمشاهد أن هذا الغزل يتخذ عند الحيوان عادة شكل الصراع، ومن الحيوان ما يترفق فيه فيكون صراعه كاللعب والمداعبة، ومنه ما يشتد فيه ويقسو فيكون صراعه صراعاً حقيقياً تتهشم فيه العظام، وتسيل فيه الدماء. وهذا النوع الأخير من الصراع يقيم الدليل المحسوس عند الأنثى على أن الذكر الذي يغازلها قوي غلاب، وعلى أنه يأخذ حقه منها قوة واقتداراً، وأنه لا تثنيه مقاومتها إياه عن الوصول إلى ما يريده من فرض سلطانه عليها، والأنثى في هذا الصراع العنيف تبذل أقصى قوتها لتحول بين الذكر وبين التسلط عليها، لا لأنها تكره أن يتسلط عليها، ولكن لأنها لا ترضى أن تذل لضعيف قد يعجز عن حمايتها وحماية نسلها إذا اعتدى عليها معتد، هذا إذا كانا من الحيوان الذي يأتلف ذكره بأنثاه، أما إذا لم يكونا من هذا الحيوان فهي تكره أن تستسلم للضعيف خشية أن ينتقل ضعفه إلى نسلها الذي تحب أن يكون قوياً غير بما ركب في نفسها من غريزة حفظ النوع سليماً صالحاً.

أما النوع الآخر من الصراع وهو الذي يشبه اللعب والمداعبة فهو أقرب أنواع اللعب والمداعبة إلى المصارعة الإنسانية المصطنعة التي يقيم الناس لها الملاعب في هذا العصر والتي يكتفي فيها الغالب في التدليل على قوته بإظهار تمكنه من تهشيم خصمه دون أن يهشمه وهذا الأسلوب تصطنعه الحيوانات الرقيقة، والحيوانات المستأنسة. ومهما خلا هذا الأسلوب من التحطيم والتهشيم والتجريح، فإنه لا يخلو من معانيها، وإن فيه ما يدل دلالة تامة على احترام القوة والاعتراف بلزوم الغلبة والقهر يقيم عليهما الذكر صلته بأنثاه.

فإذا أضفنا إلى هذا ما نراه من تجميل الطبيعة للذكر دون الأنثى: كالديك ازدان بالعرف دون الدجاجة، والأسد تحلى بالمعرفة دون اللبؤة، والكبش ازدهى بالقرنين دون النعجة، والطاووس تبرج بذيله الملون الطويل دون (الطاووسة). . . إذا أضفنا هذا إلى ما تقدم رأينا أن الطبيعة توجه الذكر إلى (مكايدة الأنثى): قهراً بالقوة، أو اعتزازاً بالجمال، أو قهراً واعتزازاً بالقوة والجمال معاً. ومن هذا يمكن أن ندرك أن الطبيعة قد وضعت ناموساً تقوم عليه الصلة بين الذكر والأنثى، وأن هذا الناموس يستلزم أول ما يستلزم أن يذل الذكر أنثاه، وأن يذكرها دائماً بأنه أقوى منها، أو أنه أقوى وأجمل منها.

والطبيعة توفر في هذه السوق التي يتداول الذكر والأنثى فيها نواحي القوة والضعف، ونواحي الزينة والعطل وبقية تلك الزوائد والنواقص فيهما شرطاً لا بد أن يتوفر في هذه السوق: وهو أن تقتنع الأنثى مؤمنة صادقة مجبرة بفضل الذكر عليها فيما يمتاز به، وإلا فالصلة بينهما زائفة، وهو آخذ منها ما يرضيه ويقنعه، إذ لا يعطيها ما يرضيها ويقنعها كما يحدث للحيوانات المسجونة التي تنسل نسلاً ضعيفاً

اتفقنا في هذا. فلنعرج إذن على الحب عند البشر، ولتكن القبائل التي تعيش على الفطرة أول من نشارف من البشر. وهذه القبائل لا يزال الرجال فيها يمثلون ما يشبه الدور الذي يمثله الذكر الحيوان مع أنثاه فالقوقاز لا يسلمون العروس لعروسها، وإنما يدبر العروس حملة على محلة عروسه فيهجم عليها في جمع من أهله وأصدقائه، ويختطف عروسه من بين أحضان أهلها بالقوة والعنف ليشهدها وليشهد أهلها على أنه قوي جدير بها، وليسجل عليها هذه الشهادة يذلها بها طول عمرها معه إذا حاولت أن تتمرد عليه أو أن تطاوله. وبعض قبائل الزنوج تحتفل بزفاف فتياتها احتفالاً أعجب من احتفال القوقاز وأشد افتخاراً بالقوة والجلد والصبر. وإن لم يكن فيه من الشجاعة والفروسية شيء: ذلك أنهم يتداولون على العروس السعيد بالضرب المبرح الموجع، فقدر ما احتمل الضرب وكتم التوجع عز عند صاحبته وزاد احترامها إياه ورأته حقيقاً بالحب: لها بل عليها أن تفاخر به معجبة راضية. . . ولا يزال من أهل النوبة المصريين من يفعلون ما يشبه هذا. فالعروس يطلب من صاحبته أن تحضر له جمرة من النار ليشعل بها لفافته، فتحضرها إليه. فيمسك الجمرة بيده، ويضع الجمرة على حجره، تأكل جلده ولحمه ريثما يتأنق في لف التبغ في الورق ليشمل بعد ذلك لفافته ويعيد الجمرة إلى مكانها، وبقدر ما يطول احتراق جسده ويشتد يعز عند صاحبته ويعلو قدره

والمرأة القوقازية تحب من يخطفها لأن بيئة القوقاز بيئة رعي ومهاجرة ومحاربة تكثر فيها الغارات، ويكثر فيها الكر والفر ولا يستطيع أن يخطف المرأة فيها إلا البطل. والمرأة الزنجية تحب من يحتمل الضرب الموجع في سبيلها لأن بيئة الزنوج بيئة قاسية تضرب الناس بالحر والبرد والمطر والرياح والمرض والسم، فالأشد صبراً من غيره في هذه البيئة هو البطل. والمرأة النوبية تحب الذي يحترق في سبيلها بالنار لأن بيئة النوبة يموت فيها الضعاف من وهج الحر والقيظ وشدتهما. فالذي يحتمل الحرارة عندهم هو البطل

هذه بيئات إنسانية قريبة من الطبيعة والرجل فيها لا يزال يلوح للمرأة بقوته، والحياة فيها لا تزال مستقيمة بين الرجل والمرأة

أما جمال الرجولة الخشن فقد ظل الرجال يحرصون عليه زماناً طويلاً كانوا يرسلون فيه شواربهم ولحاهم التي زينتهم بها الطبيعة ولكنهم اليوم لم يعودوا يحافظون عليه، واكتفى فريق من أهل المدنية فيهم بممارسة الألعاب الرياضية لتنمية عضلاتهم وتقويتها كما كان يفعل اليونان القدماء في وقت يذكر التاريخ أن المرأة فيه كانت متبرمة بالرجل لأنه اكتسب من رياضته تناسقاً وامتشاقاً انشغل به عن النظر إلى جمال الأنثى

ولعل هذه الألعاب الرياضية هي البقية الباقية من معالم الرجولة القوية التي تحتفظ بها الحضارة اليوم، ولكنها شيء إذا كسا البدن رجولة أو ما يشبه الرجولة فإنه لا ينفذ إلى الروح والنفس، ولذلك يستعين الرجل المتحضر اليوم على قهر المرأة بالمال أو الجاه أو النفوذ أو المنصب أو الشهرة أو غير ذلك مما يتنافس فيه الرجال المتحضرون. ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه المميزات المدنية كلها رأينا أنها لا تتاح إلا للذين يتكالبون على العمل في سبيل الوصول إليها أو للذين يصيبونها عفواً بالوراثة أو بالواسطة؛ أما الذين يفوزون بها عن جدارة فأولئك الذين في حسابنا، وهم ينفقون في سبيلها من رجولتهم ما كانت المرأة تحب أن يستبقوه لها فهي لا تستطيع أن تستغني عن حياة المناوشة والمصارعة وهي تكره أن تبيع نفسها بالمال، وإن كانت تبيع نفسها بالمال؛ وهي لا تقنع من الرجل بجاهه وإن كانت ترتمي على أصحاب الجاه؛ وهي لا ترضى بمنصب الرجل وشهرته وإن كانت تتهافت على أصحاب المناصب الكبيرة والمشاهير، فهي تنحرف عن طبيعتها مجاهدة مستعيضة بهذه البهارج عما كانت تتوق إليه من قوة الرجل ورجولته. ولعل حوادث الخيانة الزوجية التي تتعدد وتتكاثر في المدنيات دليل قاطع على أن الزوجات ساخطات على الأزواج، وأنهن لا يزلن يبحثن عن الرجولة الضائعة في هذه الحضارة

وإذا كانت المرأة تكره المال والجاه والنفوذ والمناصب العالية وما فيها من أبهة ولا تقبل عليها إلا على سبيل البدل عن مطلبها الطبيعي، وإذا كانت لا تزال تحب أن ترضي طبيعتها بين يدي من يذلها برجولته ومن يتقن فنون المغازلة والمصارعة على ألوانها فماذا هي صانعة عند الفنان أو ماذا هو صانع بها؟

الفنان تسيطر عليه الغرائز التي تسيطر على بقية الناس فهو إنسان مثلهم ولكن هذه الغرائز لا تشتد به - حين تشتد - كما تشتد ببقية الناس، ولا تترفق به - عندما تترفق - كما تترفق ببقية الناس، فهو وإن كان يحب أن يحفظ النوع البشري كما يحب الناس أن يحفظوه فإنه يسعى إلى ما هو أشرف من حفظ النوع وهو ترقية النوع، والفنان يؤدي لهذا النوع بفنه ما يجاهد النوع دهوراً في سبيل الوصول إليه. وهو وإن كان يحب السيطرة كما يحبها بقية الناس فإنه يتمتع من السيطرة بما لا يتمتع به أحد، ففنه يلوي عنده الأعناق ويخفض بين يديه الرؤوس؛ فإذا لم يوفق إلى هذا في حياته فهو على إيمانه بفنه مؤمن بان البشرية التي غفلت عن تقديره وهو فيها ستنال جزاءها إذ تنصاع يوماً إلى قبره لتطوف بالتقديس حول عظامه ولو بعد أن ينخرها السوس! وإنه ليرى ذلك وهو في ظل العرش. وهو وإن كان يحب العشرة كما يحبها بقية الناس فهو يتأنق في اختيار عشرائه من المعاني والأخيلة والأفكار التي يرصد لها انتباهه وإحساسه ويتعقبها ويتبختر عندها مترنحاً منتشياً كراهبة ترقص في خلوتها على نغم الذكر عابدة لا فاجرة، خالصة غير مشوبة

هذه هي الغرائز التي كان حقها أن تشترك في تخليق الحب في نفس الفنان كما تخلقه في نفوس بقية الناس، ولكننا قد رأيناها جميعاً تعدل عن الحب إلى الفن

وبقيت بعد ذلك (غريزة الوثنية) التي ذكرتها في بدء هذا الحديث، واحسبني قلت إنها لم تضعف إلا عند الذين يهد من إحساسهم التدريب على الاتجاه نحو معان يحبونها هم، ويدهش لهم العالم ويتساءل: كيف يحبونها؟ ومن يكون هؤلاء غير الفنانين؟

إذن فالفنانون على هذا الأساس لا يحبون! وعلة انصرافهم عن الحب بعيدة كل البعد عن الأسباب التي توقعناها في أول حديثنا، فقد خيل إلينا أن عجزهم عن الحب قد يرجع إلى قصور في رجولتهم، أو التواء حاد بنفوسهم عن مسلك الحب الطبيعي الصحيح، أو انحراف عن أساليب الأرض إلى أسلوبهم الجديد

ولكننا رأيناهم في أول حديثنا يحبون. وقد سجلنا عليهم فشلهم في الحب من بعد تسجيلهم إياه على أنفسهم في فنونهم. . . فهل هم يحبون أو هم لا يحبون؟. . . أحبهم الله!

والواقع أنهم يحبون ولا يحبون. فالفنان إنسان حائر بين حلقتين من حلقات التطور البشري. أولاهما الحلقة التي يعيش فيها، والأخرى الحلقة التي ينتقل إليها بروحه ويستنبطها فنه ثم يعود بعد ذلك إلى ناسه. وهذه الحلقة التي يسرى به إليها ستتحقق يوماً ما في الأرض سواء أكان هذا اليوم قريباً أم بعيداً وسيعيشها الناس وكلهم في مستوى ذلك الفنان الذي يبهر جيله وسيكون من بينهم فنانون يبهرونهم بما يستنبطونه من حلقات أخرى لا يسري به إليها غيرهم. وقد ينكر هؤلاء وقد يعترف بهم. . . أمرهم وأمر الحق إلى الله

هذا هو مسلك التطور الروحاني للإنسانية فهو (كالداروينية) الجسدية ولكنه أشد غلياناً وإبهاماً

والفنان يتذبذبه بين الأرض وسمائه يتلون بلونين ويتشكل بشكلين: شكل يلائم حياة الأرض بقدر ما تسمح ذمته الفنية أن يتسامح في أمانته، وشكل آخر لا يلائم إلا الذين يستطيعون أن يطيروا معه إلى سمائه ولو أتباعاً مسترشدين به. والفنان السعيد الذي يرضى الله عنه هو الذي يوفق إلى غرام واحدة من بنات السماء. والفنان المنكوب الذي أرجو له الرحمة هو الذي يتعلق به غرام واحدة من بنات الأرض: تثقل به وتعرقله عن قفزاته فإن أشفقت عليه وسمحت له بهجرته إلى السماء كلما شاء لم يجد عندها حين يهبط إليها إلا ما اختص به الله بنات الأرض. فهو شقي معها كشقاء المقعد الذي يلهب طاغية ظهره بالسياط ليجري في سباق مع صبيان خفاف شياطين. . . وإن كان المثلان متعاكسين وينتبه الفنان إلى علة إخفاقه في حبه، فإما أن يرضي من محبوبته بما طلب له فيها من الجمال الروحي والبدني وإما أن يحاول صقل نفسها وتهذيبها ليجعلها تشبه ما يجب أن تكون عليه، فإذا وفق في هذا فإنه يرضى أغلب الرضى، أما إذا فشل فيه فهو الشاكي المتبرم الساخط على الحب اليائس منه المتخاذل أمامه أو المتمرد عليه

وقليلاً جداً ما يفرغ الفنان من وقته لمصارعة المرأة ومناوشتها لأنه يتعلم من جولاته في السماء أن هذه المصارعة من أساليب العنف التي يصح الاستغناء عنها بإدراك نتائجها فيحاول أن يتشفع إلى المرأة بفنه، وهو على كثرة ما يتدلل بفنه يخضع نفسه ويخضع فنه للمرأة ويسعى إليها في هذا الخضوع خاشعاً متوسلاً مستجدياً عطفها، فإذا به ينقلب أمام المرأة شيئاً آخر أكثر رحمة بها من الرجل، وأشد حناناً منه، وأكثر بذلاً وعطاء وتضحية في سبيلها ولكنه على أي حال ليس ذلك الرجل الذي تريد أن تراه قوياً، والذي تحب أن يقسو عليها قسوة تصهر أنوثتها وتسيلها. فهذه الرقة وهذه الرحمة وهذا الخنوع وهذه المسالمة التي يقرب بها الفنان من محبوبته كلها من علامات الأنوثة - عندها - لا من علامات الرجولة وهي من مظاهر الضعف - في نظرها - لا من مظاهر القوة، وهي تبعث في نفس المرأة الاستهانة بها والشك في أمر صاحبها إذ لا تضمن المرأة أن يتخذها الفنان وسيلة من وسائل الاستدراج يسلطها على كل من تعجبه من النساء ما دام الأمر لا يكلفه أكثر من كلمات رقيقة أو ألحان عذبة أو صور جميلة والفنان متى وصل به الحال إلى هذا الموقف كان عليه أن يختار واحد من ثلاث: فإما أن يخصص نفسه لفنه، وإما أن يخصص نفسه لحبه، وإما أن يتذبذب بين الفن والحب وهذا ما يفعله الفنانون الشاكون، فليس يتاح لكل فنان أن يتسامى حتى على الحب فلا يذكره ولا يذكر المرأة إلا كما ذكرها المسيح

عزيز أحمد فهمي