انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 306/عود إلى التفاؤل والتشاؤم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 306/عود إلى التفاؤل والتشاؤم

مجلة الرسالة - العدد 306
عود إلى التفاؤل والتشاؤم
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1939



للأستاذ عبد الرحمن شكري

قلت إن الشاعر أو الناثر لا يحكم عليه ولا يقال إنه متفائل أو متشائم بما يقوله في حالات نفسه العارضة المتغيرة، لأن كل نفس تفيض بالسرور والأمل تارة، وتنقبض بالحزن تارة، والنفس التي لا تستطيع إلا السرور في موطن الحزن إنما هي كالأبله الذي لا يستطيع إلا الضحك، وحالة هذا ليس فضيلة ولا قوة.

وقد يتاجر بعض تجار الأدب باسم التفاؤل، وإنما تفاؤلهم سلعة مغشوشة وعملة زائفة يريدون أن يربحوا بها الحمد والثناء، وأن يغروا بها الناس؛ وهذا التفاؤل أيضا ليس فضيلة في النفس، بل هو نقيض الفضيلة، وإنما يحكم على القائل بما يقوله في وصف أمله في الحياة، وحثه إلى المُثل العليا، وما يقوله في تمجيد جهود الناس فيها كما في قصيدة: (أبناء الشمال) أو (شهداء الإنسانية) أو (إلى المجهول) أو (الباحث) أو (قو الفكر) أو (العصر الذهبي) أو (الحق والحسن) أو (النشوة والارتقاء).

ويحكم عليه أيضا حكماً صادقاً إذا نظر الناقد فيما قاله القائل في وصف محاسن الحياة والأرض والكون؛ فإذا استطاع أن يُجمل الحياة بقدرة فنه على وصف آيات الكون والطبيعة، لم يستطع الناقد أن يقول إن التشاؤم غالب عليه، ولا أدري كيف يستطيع ناقد أن يقول هذا القول إذا قرأ لي وصف محاسن (الصحراء). . . حتى الصحراء تجد فيها النفس، وفي مظاهرها المختلفة محاسن. . . وقصيدة: (البحر). وقد نشرت في الرسالة أيضا وفيها وصف تلون البحر وتغير مناظره ووصف جزره:

ومن جزر مثل الجنان مضيئة ... كأن جهلتها الصائلات الدوائر

ووصف (عيون الندى):

فليس عيون الغيد أشعلها الصبي ... بأحسن في لألائها حين تعطف

ووصف الربيع في قصيدة (الفصول):

أهواكِ يا روح الربيع فهيئي ... جسماً كجسم الغيد في لألائهِ

ووصف النهر المترقرق في قصيدة (على بحر مويس):

عهدتْهُ في صيفه لؤلؤاً ... لو أَنَّ للؤلؤ سيلا يسي ووصف مناظر الغابة وأصواتها التي تحكي جميع شجون النفس في قصيدة: (الغابة). أما وصف: (شريعة الغابة) من فتك في آخر القصيدة، فهذا ليس من التشاؤم. بل هو تحليل لصفات النفوس يدل عليه تقاتل الآحاد والأمم في العالم، ويعترف بصدقه كل إنسان ما عدا الإنسان الذي لا يستطيع إلا الضحك دائماً، وما عدا الإنسان الذي يتخذ الباطل في وصف النفس تجارة ربح ويسميها التفاؤل. ووصف مظاهر الضوء ومباهجه ومحاسنه في قصيدة: (الضوء) دليل آخر على التفاؤل الصحيح غير المزيف:

أو مثل فجر الآمال إنَّ لها ... فجراً وليلاً يَضاء بالذكرِ

كأنك أنتَ سُلّمُ لعلا ... ء النفس تسمو لآية العَمر

تُخالُ من رقة المراسم مع ... نى لا يراه البصير بالبصر

والساخر الذي يستطيع بالرغم من سخره أن يقول كما قلت في قصيدة (سؤر العيش):

والسخر مرآةَ إبليس التي نصبت ... إن تبُصر الحق فيها عاد كذَّابا

فيجعل السخر مرآة الباطل ومرآة إبليس في بعض الأحايين لا يكون التشاؤم غالباً عليه، والذي يستطيع أن يصف سحر: (ضحكات الأطفال) كما استطعت في قلبه نور الأمل لأن الأطفال هم أمل الحياة:

ضحكة منك صوتها صوت تغري ... د العصافير تستلين القلوبا

ضحكة ردت المشيب شبابا ... وأماتت من الوجوه الشحوبا

ضحكات كأنها كلمات ال ... له تمحو مآثماً وذنوبا

إلى آخر القصيدة. وقد قلت في وصف أثر مظاهر الجمال في قصيدة (قبس الحسن):

يا شمس حسن حياتنا ثمرٌ ... ينضج في ضوء حسنك الثمر

على أن الحسن في الأحياء والأشياء ذوق رمز ومعنى واصطلاح تخلقه النفس. ومن أجل ذلك كانت سعادة المرء في نفسه كما قلت في قصيدة (طائر السعادة):

ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه ... فليس له بين الأنام نصير

وكره الإنسان للعيش هو من حبه للعيش كما في هذه القصيدة أيضاً:

قلى العيش حب العيش قد شط رغده ... كما يَبغضُ المهجور وهو أسير

كمن يبغض الحسناء يقلى دلالها ... وفي الصدر منه لوعة وزفير وقلت في وصف أثر النفس في النفس في قصيدة: (النعمان ويوم بؤسه) وكيف أن الوفاء في أحد الناس جعله يلغي يوم بؤسه ويقول:

ألا علِّلاني يا خليليّ أنمّا ... على العيش بالإحسان والصدق والندى

وأعترف حتى في قصيدة: (ثورة النفس) بما في النفس البشرية من حسن:

تريدين أن الجسم يغدو كأنما ... يضيء به منك الضياء المحجّب

وفي جمال فجر النهار وفجر العمر من قصيدة (فجر الشباب):

وكان للفجر قلب خافق أبداً ... من الحياة ووجه كله لطف

وفي إضاءة الحياة بالجد والعمل والأمل في قصيدة (العظيم في قوله):

رأيت حياة المرء في نفع قومه ... ولا خير في كنز إذا كان خافياً

وما نُصِيب المصباح إلا لضوئه ... وإن كان في أحشائه الدهن فانياً

وفي حب الشعراء للحياة من قصيدة (الشاعر وجمال الحياة):

نحن كالنحل لا نحب من الزه ... ر سوى كل غضة مطلولة

وفي وصف محاسن الأرض والطبيعة:

وكأنما نسج الإله جنانها ... شرك النهى وحبالة الأهواء

وفي أشد القصائد حزناً كما في قصيدة (بين الحياة والموت) وهي من شعر الحالات العارضة أقول في وصف العيش:

ولكنه كالخمر تحلو لشارب ... وإن سُلبتْ منه النهى والسرائر

وفي النسيب اعتراف قصيدة بجمال الحياة بالرغم من مرارة تجاربها:

وأنت جميلٌ كالحياة مُحَبَّبٌ ... وإن كنت مثل العيش مر التجارب

وفي قصيدة (حكمة التجارب) قلت في عزاء التجارب:

خذ بِنصحي فقد حييت كثيراً ... ولو أني لم أُمض عمراً طويلا

عشتُ في كل ساعة أبد الده ... ر وعالجت نَضرَةً وذبولا

ورمتني الحياة بالحلو والم ... ر فطوراً رغداً وطوراً وبيلا

ورفعت الستار عن خدعة العي ... ش وقهقهت وانتحبت عويلا

وصحبت الحياة في حالتها ... وَخَبرْتُ القنوط والتأميلا إلى أن قلت:

ورأينا الحياة من كل وجه ... وعشقنا كمالها المستحيلا

ورجعنا إلى الحقائق حتى ... لم نعد نطلب المحال بديلا

فهذا ليس من التشاؤم بل هو ما يناله المرء من حكمة الحياة وهو لم يمنع من وصف آمال الإنسانية كما في القصائد التي ذكرت في أول المقال. وقصيدة (الحسن مرآة الطبيعة) عل ما بها من ذكر الموت في آخرها جمعت مظاهر الحسن ومنها:

أنت مرآة ما يجيء به الكو ... ن من الحسن بكرةً وأصيلا

فأرى في الصباح منك ضياءً ... وأرى في المساء منك ذبولا

وأرى منك في الخريف شبيهاً ... ثمراً يانعاً وزهراً جميلا

وما أذكر الموت في آخرها إلا أنه يدعو إلى محاسن الحياة والتزود منها. وقد وصفت أثر تفاعل الكون والنفس في قصيدة (الشعر والطبيعة) ومنها:

إذا غنت الأطيار في الأيك صُدَّحا ... تغنت لأشجان الفؤاد طيور

وللريح هبات وللنفس مثلها ... تُغَنِّي رُخاءٌ فيهما ودَبُور

نرى في سماء النفس ما في سمائنا ... ونبصر فيها البدر وهو منير

إذا كنتُ في روض فقلبيَ طائر ... يُغَنِّي على أفنانه ويطير

وإنْ كنتُ فوق البحر فالقلب موجة ... تَسَرَّبُ في أمواجه وتسير

وإنْ كنتُ فوق الشُّمِّ فالقلب نسرها ... وللنسر في شم الجبال وكور

وفي قصيدة (الشاعر المحتضر) يتعلل بأنه قبل موته جمل الحياة بفنه:

وجَمَّلْتُ الحياة بنظم شعر ... شبيه الضوءِ في الأفق الأغَرِّ

وقد جعلنا مثل هذا القول علالة لأن بين الأدباء من يتعلل به وإن كنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه العلالة ولا نأسى لضياع عمل عمر بأكمله.

وفي قصيدة (خواطر الحياة) أثناء التألم أستطيع أن أقول:

والسخطُ غربال جَاهدٍ قصد ال ... سيل كأن الأَتيَّ مردود

أي أن حوادث الدهر لا تدفع بالسخط والحزن كما أن السيل لا يرد بغربال.

وفي قصيدة (كعبة النفس) جعلت الرجاء من الإيمان والعبادة: أيا كعبة الآمال ذات المحارم ... مكانك من قلبي كمحراب صائم

فلا تأخذوني بالرجاء فإنما ... رجائِيَ إيمانُ النفوس الحوائم

وفي قصيدة (بيت اليأس) جعلت الحزن ترياقاً يقي من الحزن كما أن القليل من السم قد يقي من السم:

كشارب السم كي يُصادِي ... مَنْ عَلّهُ سمه صريحاً

ورددت هذا المعنى في قصيدة (عدوى الحياة) وذكرت أن مصل الجراثيم وقاية منها:

كما يتداوى بمَصْلٍ عليلٌ ... وفي المصْلِ من بعض ما تَبّرَه

وفي (عصير الحياة) جعلت لذتها وأنغام فنونها من الآم تجاربها:

أسعى على ساعات عمريَ واطئا ... كالكرم يعصره الجناة فيخمر

وأحيلها نغماً يروق سماعه ... وأعيدها شعراً يلذ ويُسكِرُ

وقلت إن دجن السماء مثل حزن النفس قد يكون لذة وذلك في قصيدة (يوم مطير) فانظر كيف تستخرج النفس اللذة والأمل من الحزن والسحاب:

ثقيل على القلب البهيج عبوسه ... ولكنه قد يسحر القلب كارُبهْ

كذلك بعض الحزن للنفس شائقا ... تعاقره في نشوةٍ وتقارُبهْ

وهل تفاؤل أعظم من تفاؤلي في البيت الآتي من قصيدة (عجائب الحياة):

وأبغي صلاح الكون والناس مثلما ... مضى في بناءٍ عاملٌ وأجير

وقد جعلت حتى تعلل المتعلل بذكر الموت مظهراً من مظاهر حب الحياة:

وما عَلَّلْتْ نفس الفتى بمَنِيةٍ ... ستطوي هموم العيش طي الدساكر

سوى رغبةٍ في العيش يرهب صرفه ... فيعدو على البؤسي بذكرى الغوابر

والتلذذ بوصف مظاهر الأمل وأحاسيسه في قصيدة (السكون بعد النغم) يدل على التفاؤل ومنها في وصف الإحساس بالسكون بعد النغم:

كسكوت اللهيب فوجئ بالبش ... رى ويخشى من حسنها أن تخيبا

أو سكوت الشباب في حُلُم الآ ... مال من قبل أن تعاني المشيبا

أو سكوت الأم الرءوم حنانا ... وابنها نائم وقته الخطوبا

حلمت حلمها بما سوف يسعى ... في مساعيه جيئة وذهوبا من ثمار الحياة تختار أحلا ... ها له نعمة وسعدا وطيبا

وقد جعلت الأمل بهجة العمران في قصيدة (الأمل):

أيا بهجة العمران لولاك لم يكن ... فلا شيد الباني ولو كدّ كادحُ

وهي قصيدة طويلة كلها في مباهج الأمل ولذاته ومحاسنه، وأحاسيسه وفي قصيدة (شهداء الإنسانية) جعلت النعمة في الحياة مستخرجة من الشقاء.

وكم من نعمة لولا شقاءٌ ... قديماً لم تكن إلا وبالا

فكم خبر الأوائل من شقاءٍ ... فنلنا من شقائهمُ نوالا

وقد ذكرنا في هذه المقالات وغيرها أسماء قصائد عديدة جداً لا هي من شعر التشاؤم، ولا من المذهب الطبيعي الإنكليزي، والشعر العربي ليس في حاجة إلى مذاهب أو مسميات جديدة، وإذا لم يكتف حضرة الناقد الفاضل بهذه القصائد والشواهد ذكرنا له غيرها ونعتقد انه حسن النية في قوله، فعسى أن تكون عقيدتنا فيه صواباً. ونكرر للأستاذ الدكتور أننا طبنا نفساً عما قدمنا من عمل، ولا يهمنا أفنى أم بقى، ولكن الذي يهمنا ألا يتخذ وسيلة للنيل منا حتى ولو كان ذلك عن حسن نية.

عبد الرحمن شكري