انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 305/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 305/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939


ُ

كتابان

1 - آرائي ومشاعري: للآنسة فلك طرزي

2 - أشعة ملونة: للشاعر أحمد الصافي النجفي

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

- 1 -

منذ عام أو أكثر التقيت بالآنسة فلك طرزي في دار الرسالة فتعارفنا، وجلسنا نتحدث على طبيعة المجلس في تلك الدار الحافلة فأخذنا في كلام يتصل بالأدب والسياسة وبرجال الأدب والسياسة، وامتد بنا الحديث إلى الأخلاق والتقاليد والقومية وما يتفشى في شباب الشرق من داء العصر. وكانت الآنسة تتحدث وكنت أنا أستمع وأتأمل، فظهر لي وراء ذلك الشخص الناحل ثورةٌ جامحة، ونفس طامحة، وإحساس كبير مرهف، واعتزاز بالقومية العربية، والكرامة الوطنية، تبديه الآنسة الفاضلة في صرامة وعنف حتى لقد فارقتها وأنا أشفق عليها مما هي فيه!

ومنذ أيام جاءني كتاب الآنسة - آرائي ومشاعري - عن طريق الرسالة لأقدمه إلى القراء، فما كدت أجيل النظر بين صفحاته حتى رأيت فيه روح الفتاة كما رأيته بالعيان، وتبينت لي شخصيتها بين السطور كما تبينتها بالنظر من قبل، شخصية صريحة واضحة، وروح - كما قلت لك - ثائرة متمردة على الناس وعلى نفسها، فهي لا تهدأ ولا تقر، وهي تكشف لك عن هذا الجانب من شخصيتها فتقول: إن نفسي لا تكاد تريح ذاتها من بعض ما تنوء به من أعباء الفكر، حتى تشعر أن ما خرج منها ليس إلا جزءاً من العبء الذي يزخر فيها فيعاودها القلق والاضطراب، وكلما حاولت التخلص منهما رجعا إليها بصورة أشد وأقوى، لهذا قلما تنعم نفسي بالراحة وتسعد بالاستقرار، وإن هي بلغتهما فسعادتها بهما لا تتجاوز اللحظات. . .

وماذا تكون آراء ومشاعر هذه النفس الثائرة وهذه الروح الشرود؟ هي آراء صارمة تتخطى القيود والحواجز، آراء تستمد الحجة من منطق القلب أكثر مما تستمده من منطق العقل، وإنها لتشتد صرامة وعنفاً إذا ما انطلقت في جانب الوطن والقومية العربية، فأنت إذ تسمعها في (يوم الإسكندرونة) وفي (موقف لبنان من الأقطار العربية) وفي تحيتها (إلى شباب النادي العربي) وفي حديثها عن (أثر المرأة في النهضة القومية) نعم أنت إذ تسمعها في هذه المواقف وأشباه هذه المواقف فإنما تسمع زئير الأسد الهائج لا بغام الظبية الشادية!

وهي مشاعر مرهفة تفيض بكثير من حر الجوانح والألم الممض، فأنت إذ تنصت إليها وهي تتحدث عن (النفس الحيرى) و (الوفاء المفقود) و (الضحكة التي تخرج من أعماق النفس) وفي رسالتها (إلى مي) خلبك منها الشعور الدقيق الرقيق، والأناقة الفنية، والنعومة الرافهة، كما يقول الأستاذ خليل مردم

وهذه الآراء وتلك المشاعر هي زفرات متقطعة صعدتها الآنسة المهذبة في فترات مختلفة على صفحات الصحف المصرية والسورية فجاءت قطعة من نفسها وروحها تجري في أسلوب له رنين صوتها وجرسه، وإن كان لا يخلو من هفوات في اللغة والنحو. وإذا كان للآنسة من الآراء والمشاعر ما لا يوافقها عليه القارئ فأحسبها قد تحللت من هذه المؤاخذة إذ سمت كتابها (آرائي ومشاعري)، ولكل إنسان رأيه في الحياة، وليس من الإنصاف أن يتحكم إنسان في شعور إنسان!

- 2 -

قد يكون من الصعب على الباحث وخصوصاً في الأدب العربي أن يتبين شخصية الشاعر واضحة صريحة في قصائده ومطولاته التي يحفل لها بقوة الأسلوب، ومتانة القافية، ونباهة الموضوع. فكثيراً ما يضطر الشاعر في مثل هذه المواقف إلى تملق العواطف في الناس، أو مراعاة الرغبة عند حاكم مسلط، ولكنك قد تتبين شخصية هذا الشاعر على أجلى ما تكون في مقطوعة يرسلها على هواه، أو أبيات صغيرة يقولها فيما بينه وبين نفسه!

وهذه الأشعة الملونة للشاعر أحمد الصافي النجفي هي نبرات متقطعة، وألحان قصيرة أرسلها في لحظات متباينة؛ ونظمها في ظروف مختلفة، وفي نواح متعددة من نواحي الحياة، وفي مكنونات النفس البشرية، ورسوم الأخلاق، وشواذ الكون، وغرائب البشر، وبالجملة فهي شعور الشاعر تجاه ما يحس وما يرى، وناهيك بإحساس الشاعر المرهف، ونظره الفاحص المستوعب، وكأن هذا هو الذي أطمع الشاعر في أن يقول:

كل بشعري واجد نفسه ... ففيه أسرار الورى المودعة

وقد يكون في هذا إسراف من الشاعر في جانب قرائه، ولكنه لا شك ليس بإسراف في جانب شخصيته هو، فأنا لا أعتقد أن كل إنسان سيجد نفسه في شعر الشاعر الصافي، وإن كنت أعتقد أنك ستجد نفس الصافي في هذا الشعر شفافة مترقرقة، وحسب الشاعر الخالد هذا، وحسب الصافي أن يقول في الكشف عن نفسه:

عندي عيوب بنفسي سوف أظهرها ... لأن إخفاءها مكر وتدجيل

والعيب يجدر أن يبدو ليعرفه ... كل الأنام فلا يعروه تضليل

إني وإن كنت في جهل له صغرت ... نفسي فأجهل مني العصر والجيل

بعوضة أنا في الدنيا وحين أرى ... بعض الورى فكأني بينهم فيل

وأن يقول:

أنا طائر لا يرتضي الأرض مسكناً ... كأني بين الجو أبحث عن عرش

ولكن دهري قص جنحي وأرجلي ... فما حال طير لا يطير ولا يمشي؟

ويعجبني من الصافي روح متمردة على التقليد بين قومه فيقول:

تقلد يا شرقي غيرك دائباً ... فتحسب موجوداً وما أنت موجود

لقد سلبك التقليد عقلك كله ... فشخصك موجود ورشدك مفقود

تقلد في أكل وشرب وملبس ... ويعروك للتقليد في الليل تسهيد

تقلد حتى في انتحار وميتة ... فعيشك تقليد وموتك تقليد

وإنه لينكر ذلك التقليد على نفسه فيقول:

كم سرت متبعاً غيري لتهلكة ... وكم ندمت لدن أحسست بالألم

ندمت دهراً ولكن لم يفد ندمي ... وهاأنا نادم دهراً على ندمي

وأحب أن أنبه الشاعر الصافي إلى العناية بالأسلوب، فإن قوة الأداء وروعته ضرورة لازمة للشاعر حتى يستطيع أن يؤثر، ولا شك أن اللفظ قوة تشد أزر المعنى وترفع من قيمته، ولكن الأستاذ يتهاون في هذه الناحية حتى ليهمل حق اللغة في بعض الأحيان، وحتى ليبدو أسلوبه مهلهلاً كالثوب الخلق. هذا وإنه ليحرص على أبيات تافهة فجاء ضوءها في الأشعة الملونة ضئيلاً باهتاً كما يقولون

محمد فهمي عبد اللطيف