انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 294/رد على رد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 294/رد على رد

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1939



بين القديم والجديد

(لأحد أساطين الأدب الحديث)

يجمع الأستاذ الغمراوي في نفسه من صفات الخلق العظيم ما لا يتفق إلا لقليل من المهذبين الأفاضل؛ فهو يغار على الفضيلة والدين، ويجمع إلى غيرته لطف المناظرة والأنصاف وآداب الحديث والمجادلة بالتي هي احسن؛ وهذه رعاية من الله، نرجو أن يديم الله عليه نعمته. وقد ظهر عدل الأستاذ وأنصافه في اعترافه بأن في الأدب القديم أكثر مما يشكو منه مما في الأدب الحديث، وفسر القديم بأنه ليس القدم الزمني، فالقديم والحديث في اصطلاح الأستاذ صفات لا تدل على الزمن، وضرب مثلاً بشعر عمر بن أبي ربيعه وقال: أنه لو كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له نفاه بسبب غزله. فعمر بن أبي ربيعه إذاً على قدمه الزمني ليس من المذهب القديم في الشعر والأدب على سد اصطلاح الأستاذ، إذ أن القديم في اصطلاح الأستاذ هو من لم يقل غزلاً يثير شجون النفس وشهواتها وتعلقها بفتنة الحسن. وليعذرني الأستاذ إذا قلت أنه يصعب عليه أن يجد شاعراً واحداً يصح أن ينطبق عليه اصطلاح القديم في عرفه، فهذا الرافعي على تقواه ودينه وفضله له في الغزل نثراً وشعراً أشياء (أشهى) من شعر عمر بن أبي ربيعه. ألم يقرأ الأستاذ الغمراوي للرافعي وصفه للراقصة ومحاسن جسمها وقصته معها؟ ومع ذلك فالأستاذ الغمراوي يقول أن أدب الرافعي يمثل الأدب القديم في اصطلاحه، مع أن الأستاذ الغمراوي لو كان خليفة وعرض عليه غزل عمر بن أبي ربيعه وبعض ما قاله الرافعي شعراً ونثراً في الغزل ووصف مفاتن الحسن ولذة التقبيل ومحاسن جسم المرأة لأمر الأستاذ بنفي الشاعرين: ابن أبي ربيعه والرافعي معاً. وإذا كان الأستاذ في شك من أن الرافعي له أشياء أشهى من أشياء عمر بن أبي ربيعه ذكرنا له طرفاً منها ورضينا بحكمه وهو اعدل الحاكمين من الناس. بل نحن نترك للأستاذ الخيار فليختر أي شاعر ونحن نورد له ما يستحق به النفي لو وكل الأمر إلى الأستاذ الغمراوي في نفي الشعراء ونورد ما يستحق به النفي ونقارنه بما استحق به عمر بن أبي ربيعه النفي ونقبل حكم الأستاذ الغمراوي في المقارنة وهو خير الحاكمين.

أننا ما أردنا أن نعذر شطط المتأخرين بشطط المتقدمين كما ذكر الأستاذ وإنما أردنا أن نبين أولاً أن النفس البشرية واحدة في كل زمان ومكان مهما اختلفت الفروق الظاهرة وبالرغم من شذوذ الآحاد بالنقاوة النادرة أو النجاسة البالغة النادرة. وأردنا أن نفسر أثر المتقدمين في أقوال المتأخرين وإن نقول أن الشطط في وصف المفاتن وفي شرح الشكوك النفسية لم يأتنا من ناحية الإفرنج وحدهم بل جاءتنا به مؤلفات العرب ولا سيما عندما أدخلت الطباعة وطبعت المخطوطات العربية القديمة والحديثة. على أن النفس الإنسانية يا سيدي الأستاذ ينبوع يفيض بكل ذلك من غير حاجة إلى كتب العرب أو كتب الأوربيين؟ وإن شاء الأستاذ فليرتد أماكن الناس الذين لم يتأثروا كثيراً بكتب العرب ولا بكتب الإفرنج وليسمع هواجس نفوسهم.

على أن في ذكر الأستاذ التجاء عمر بن الخطاب إلى النفي ما يدل على أن النفوس في عهد عمر رضي الله عنه لم تكن تمتنع عن التعلق بمفاتن الحسن ومحاسن الحياة، ولعل الأستاذ قد أذكرته التجاء عمر إلى النفي قصة سماع عمر غناء التي تغنت بهذا البيت:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

فنفى عمر رضي الله عنه نصراً هذا. ولو رجع الأستاذ إلى ما قبل سيدنا عمر وتدبر حكمة الآية الكريمة التي تنهي الناس عن قرب الصلاة وهم سكارى لرأى عبرة تسلك النفوس البشرية في كل عصر في صعيد واحد بالرغم من تفاوتها. وأستحلف الأستاذ أن يحكم على تلذذ كعب بن زهير بذكره كبر عجز حبيبته في قصيدة (بانت سعاد) عندما قال (هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة) وتلذذه بذكر كبر العجز في قصيدة يمدح بها النبي وهي قصيدة يتبرك بها بعض الناس، وبعضهم يتخذها حجاباً وتميمة بما فيها من التلذذ بذكر كبر العجز من غير فطنة إلى ما فيها. ومع ذلك قد مر النبي صل الله عليه وسلم بغزل كعب هذا مر الكرام بما كان يدعو إليه من العقيدة السمحة وتألف النفوس ومعرفته ضعف النفس وقصورها. فماذا كان يصنع الأستاذ الغمراوي لو أن شاعراً مدحه بقصيدة تغزل في أولها وتلذذ في غزله بذكر كبر عجز حبيبته؟ هل كن يتغاضى كما تغاضى النبي الله عليه وسلم أم كان ينفيه كما أراد أن ينفي عمر بن أبي ربيعه؟ وماذا كان يقول الأستاذ لو أن شاعراً إنجليزيا مدح ملك إنجلترا ومقام الملك دون مقام النبوة فقال الشاعر في قصيدته (إن حبيبتي يا كنج جورج لها عجز كبير)؟ أننا يا أستاذنا نضرب هذه الأمثال لنبين أن الناس ناس في كل زمان ومكان، وإن النفس البشرية واحدة مهما تباينت واختلفت صفاتها. ولو كان الأستاذ في شك من ذلك فليراجع ديوان حسان بن ثابت فيراه في قصيدة يتهم أبا الوليد ابن المغيرة بمحبة غلام رومي جميل كان مملوكاً له، وبأنه علق صورة الغلام كي ينظر إليها إذا غاب عن نظره، ويتهم أمه بمحبة الغلام أيضاً. (صفحة 329 طبعة السعادة شرج العباني). ولو رجع الأستاذ إلى كتاب (العقد الفريد) لقرأ أن سائلاً سأل عبد الله بن العباس ابن عم النبي : هل قول المجون ينقض الوضوء؟ فقال: لا. وانشد بيتاً فيه مجون وكانت قد حانت الصلاة فقام وصلى للدلالة على أن شعر المجون لم ينقض وضوءه. وفي حالة أخرى سمع وهو يحدو ببيت فيه مجون. ولو تقصى الأستاذ أخبار سبي الرقيق من المدن الفارسية والرومية التي فتحت عنوة واثر ورود هذا السبي إلى شبه جزيرة العرب، وما كان يرد قبله من جلب تجارة الرقيق قبل الإسلام لعلم أن الولوع بمفاتن الحسن لم يكن مقصوراً على الشعراء المتقدمين أو المتأخرين. ونحن لا نريد أن نعذر حالة الناس في عصرنا. فلعل التعلق بمفاتن الدنيا في عصرنا أضر وأفسد إذ أن القوى الحيوية الخلقية العظيمة في نفوس المتقدمين كانت تستطيع موازنة ضعف هذا التعلق، وانعدام هذه القوى الخلقية الحيوية في عصرنا يزيد ضرر التعلق بمفاتن الحسن وشهواته. نعلم ذلك ونوافق الأستاذ على ضرورة معالجة هذه المسألة، ولكن لا يكون ذلك إلا بالتربية وتطهير الكتب ولا سيما القديمة. أما أننا رجعنا إلى مبدأ نهضة التجديد فالأستاذ نفسه يعترف بأن التجديد في الأدب روح لا قالب، وإن هذه الروح مستمدة من نظام التعليم الحديث، ومن الأنظمة التي اقتبست من الأنظمة والشرائع والسنن الأوربية، ومن البعثات العلمية إلى أوربا وأثرها في النفوس، ومن الكتب التي ترجمت؛ وما دامت المسألة مسألة روح لا قالب فلا يستطيع الأستاذ فصل التجديد في العلوم والتعليم والنظم والشرائع عن التجديد في الأدب وهو لم يحاول أن يفعل ذلك. أما أننا فسرنا قوله: (تغليب دين على دين) بغير ما أراد فعذرنا في ذلك أنه كان يقارن بين الثقافة والحضارة والدين عند العرب وعند الأوربيين فلم يخطر ببالنا أنه يعني بالدين عند إطلاقه على الأوربيين معنى الضلال والباطل وإنما ظننا أنه يعني دينهم، ولنا العذر أو بعض العذر. وأما قول الأستاذ أن حافظ إبراهيم رجع بالغزل إلى طريقة الجاهلية وصدر الإسلام أي طريقة الغزل بالعاطفة كما فعل العذريون فهذا ما لا يقول به حافظ نفسه ولم يقل به أديب قبل الأستاذ. والأصح وهو ما قلناه من أن البارودي وشوقي وحافظ أنقذوا الأدب من طريقة ابن حجة الحموي وخليل بن أبيك الصفدي وصفي الدين الحلي وأشباههم ورجوا به إلى طريقة مسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وحسبهم هذا فخراً. وقد جعلنا أكثر قولنا في التجديد في الشعر لأن الباعث على مقالات الأستاذ كان شعر الرافعي والعقاد، ولم نقصر التجديد على محاولة إدخال العاطفة كشرط أساسي في الغزل بل قلنا أنها شرط أساسي في كل شعر، وإن الصنعة لازمة. ولكن كخادمة للتعبير عن النفس والحياة وعواطف النفس وأحاسيسها فيهما، فتحجر الصنعة من غير بحث في النفس قيد، والتخلص من جمود ذلك التحجر حرية، وهي الحرية التي أردناها في قولنا. وقد فسرنا ذلك بإطالة وأوضحنا أن هذه الحرية ليس معناها التخلص من قيود العرف أو الدين، فنرجو الأستاذ أن يرجع إلى ما فصلنا من الكلام عنها. وقد اعترفنا للأستاذ بما في نزعة التجديد من عيوب وحبذا لو رجع الأستاذ إلى ذلك التفسير والتعليل، وقلنا أنها عيوب عارضة وليست كل شيء. أما المسائل الاجتماعية التي ذكرها الأستاذ فهي أمور يختلف فيها الأدباء وغير الأدباء ويختلف فيها الناس في كل عصر؛ ولو شاء الأستاذ لذكرنا من أقوال كتاب العرب وشعرائهم ما هو اشد من أقوال طه حسين وهيكل وقاسم أمين. ومن الغريب أن الأستاذ لا يرى حرجاً في الاقتباس من علوم أوربا ويرى حرجاً في الاقتباس من مذاهبهم وأبواب أدبهم، وإذا كان هناك حرج فالحرج في الحالتين.

(قارئ)