انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 195/الفنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 195/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1937



الفن البابلي الآشوري

للدكتور أحمد موسى

إذا كنا قد عرفنا شيئاً عن الفن المصري من عمارة ونحت وتصوير وفهمنا كيف أن هذا الفن كان إلى حد ما أساساً للفن الإغريقي، وعلمنا أن الحضارات تقاس بالفن، أمكننا أن ننتقل اليوم إلى حضارة فنية أخرى هي حضارة بابل القديمة (3800 - 625 ق. م.) والجديدة (خالديا 625 - 538 ق. م.) وآشور (2250 - 606 ق. م) التي لم تبلغ في مجموعها مستوى عظمة الحضارة المصرية فنياً؛ فضلاً عن أنها لم تكن أساساً اتخذه الإغريق لحضارتهم الفنية، رغماً عن وجود بعض الشبه الضئيل بين النحت البابلي الآشوري وبين الإغريقي، من حيث عدم الاكتفاء بالخطر المحدد للمنحوتات النصف البارزة والمصورات (كما رأينا في الفن المصري)، وإخراجها شاملة بعض تفاصيل أعطت شيئاً من الحياة قربها من النحت الإغريقي.

ويحسن قبل التكلم عن الفن البابلي الآشوري وعن مميزاته أن نعرف شيئاً عن نشأة بابل وآشور اللتين كانتا مصدر حضارة غرب آسيا. ففي الجزيرة المحصورة بين نهري دجلة والفرات التي تعد من أخصب البقاع الصالحة للزراعة، نشأت بابيلونيا من الجنوب وآشور على نهر دجلة من الشمال

وإذا رجعنا إلى التاريخ الذي اعتمد واضعوه على الآثار والدراسات الفنية، فإننا نرى أن الحفريات التي أجريت في مناطق كثيرة من هذه البلاد، دلت على أن أول آثار الإنسان المتحضر نوعاً رجعت إلى حوالي عام 4000 ق. م.

على أنه لا يهمنا هنا أن نعرف إن كان أصل هؤلاء الناس من الآريين أو من الساميين، كما أنه لا يعنينا أن نبحث لتحديد نوعهم، ولكن المهم أن نعلم أن بابل نفسها انقسمت مملكتين شمالية وجنوبية، ثم اندمجتا معاً حوالي عام 2300 (2000؟ ق. م.) في عصر ايري أكو - وكانت مدينة بابل على نهر الفرات (على خط عرض يافا تقريباً) عاصمة لها

أما آشور فهي أقدم كثيراً من هذه، إذ قامت الحضارة فيها عام 2250 ق. م. على أساس حضارة بابل. وكانت مدينة نينوى لعهد طويل عاصمة لها، وهي واقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة أمام مدينة الموصل الحالية، وفيها ظهر الفن الآشوري الرائع في المرحلة الزمنية المحصورة بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، واستمر التقدم في هذه الفترة حتى تأسيس مملكة آشور، وازدهار الفن في عصر ساراجون (722 - 705) وسانهريب (705 - 681) وأسور بانيبال (668 - 626 ق. م.) ولم يتدهور الفن إلا في عصر نابوبولاسر واتجه بعد ذلك اتجاهاً آخر عندما حكمها كيروس بن قمبيز سنة 539 ق. م. وضمها إلى مملكة الفرس

هذا سرد تاريخي بسيط اقتصرت فيه على ما لا استغناء عنه لمن يود الوقوف بشكل إجمالي على الحالة التي نشأ خلالها الفن البابلي الآشوري، الذي ينقسم إلى عمارة ونحت وتصوير كالفن المصري والإغريقي وغيرهما

ونظراً لقلة الأحجار في هذه البلاد، تجد أن العمارة لم تكن رائعة، فضلاً عن تهدمها جميعها لضعف اللبن الذي استخدم في معظم مبانيها إلى جانب الآجر

وبالدراسة الإجمالية لبقايا العمارة البابلية الآشورية، يمكننا أن نعرف أنها خلت من الأعمدة التي كانت من أهم مميزات الفن المصري والإغريقي، ولذلك تجد أن الحوائط كانت سميكة إلى حد بعيد، فضلاً عن إقامة أكتاف لها من البناء لتساعد على تقوية الحوائط المرتفعة.

إلا أن لبابل وآشور ميزة قد تعادل النقص الناشئ عن عدم إنشاء الأعمدة، وهي القباب التي بنيت على هيئة نصف كرة والقبوات التي أقيمت على شكل عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية، بجانب السقف المسطحة التي كانت فوق أعمدة ارتكزت على أكتاف الحوائط

ودفع التحضر أهل بابل وآشور إلى وجوب زخرفة مبانيهم، فتراهم أحرقوا الطوب وصقلوا سطحه بالحرارة حتى أصبح لامعاً كالصيني، فأعطى لهذه المباني شيئاً من الجمال والبهجة علاوة على الرسوم والتصاوير التي عملت عليها، والتي مكنتنا من تحديد درجة تحضرهم.

وإذا قارنا معابد بابل وآشور بالمعابد المصرية، نرى أنها أقل فناً منها، ذلك من حيث هندسة البناء، والإنشاء الكلي وجمال الطراز أقيمت هذه المعابد عادة على مرتفع من الأرض، تعلوه مصطبة بلغ ارتفاعها أحياناً ثلاثة عشر متراً، أو مصاطب بعضها فوق بعض (كهر سقارة المدرج) انتهت بقبة مزخرفة علت الهيكل المقدس وتماثيل وصور الآلهة

هذا بجانب مبانيهم التذكارية كبرج بابل (2300؟) الذي ذكر هيرودوت أنه كان مكوناً من سبع مصاطب , 1: 178 & 3: 158)، والبناء التذكاري المسمى معبد بورسيبا في الجنوب الغربي من بابل أنشأه نيبختنصر (605 - 562) وبيرس نمرود بالقرب من هيلا جنوب بابل.

كل هذا قد تهدم، وبعضه لا يعرف له أثر، كما تهدمت كل المباني العادية إلى حد يصعب معه التعرف على حالتها بدقة، ولكننا إذا نظرنا إلى نتائج أعمال الحفر وبقايا الخرائب نستطيع أن نصل إلى تكوين فكرة تكاد تكون صحيحة عن تصميمات المباني، فالقصور والبيوت كانت مربعة الشكل توسطها صحن يعلوه سقف مفتوح الوسط (كحوش قصر حفر رزباد) أو بدون سقف، تفرعت منه غرف السكن التي كانت سقوفها على هيئة قباب أو عقود نصف دائرية أو نصف بيضاوية كما سبق القول.

أما العصور على وجه الخصوص فكانت في بابل وآشور متشابهة تشابهاً قوياً، فهي مع بساطة تكوينها الإنشائي كانت كثيرة التحلية والتصاوير والمناظر التي كانت بألوان بلغت الستة أحياناً، وكانت الردهات والصالات كثيرة بلغ بعضها من 28 إلى 52 متراً على حين كان العرض من 10 إلى 20 متراً فقط.

وكانت النوافذ غريبة الوضع، فكانت عبارة عن فتحات تركت في أعلى الحوائط وأسفل السقف مباشرة.

من هذا نرى أن العمارة لم تكن عظيمة في بابل وآشور إلى حد يسمح لنا أن نقول لولا المنحوتات والتحليات والزخارف والرسومات النصف بارزة والمحفورة لما سجل تاريخ الفن شيئاً كثيراً لهذه البلاد.

ومجمل التعريف أن المشاهد لبقايا المنحوتات والزخارف والتصاوير الخ، يرى أنها مليئة بالحياة، كما يلاحظ قدرة الفنان وثبات يده في العمل. وقد وجدت رسومات نصف بارزة على لوحات من حجر الباستر المعروف شملت مناظر الآلهة والإنسان والحيوان كما شملت كثيراً من طراز الملابس التي اعتني بإخراجها عناية شديدة

ولعلنا بمشاهدة بعض الصور هنا نلاحظ الدقة التي وجهت إلى إظهار تموجات الشعر والإكثار من الظل والنور.

ومما تجب ملاحظته أن هناك وجه شبه إلى حد ما، بين ما رأيناه من منحوتات المصريين ومصوراتهم وبين ما نراه الآن من مخلفات بابل وآشور، وذلك بإظهار الأجسام كاملة التكوين والتصوير بحسب ما يجب أن تظهر به أمام المصور في حالة من الجفاف والصمت، ولكنها تميزت باشتمال الأجسام على شيء من خطوط التحديد الذي أظهر تفاصيل العضلات، إلى جانب هذا كان النحت والتصوير الآشوري على وجه الخصوص متقدماً إلى حد يقربه من روح النحت والتصوير الإغريقي.

وما وقع فيه الفنان المصري من الخطأ في تصوير الحمامات؛ وقع فيه الفنان البابلي الآشوري أيضاً، فترى تصويره لها كان كما لو كانت كل قطعة منها قائمة بنفسها لا تتصل بمجاوراتها

ومن ضمن المميزات الفنية ظهور الأسد أحياناً برأس إنسان في معظم المصورات البارزة والمسطحة ظهوراً مستمراً، إلى جانب الأجنحة التي نحتوها أو صوروها عندما مثلوا آلهتهم

وفي المتحف البريطاني ومتحف اللوفر وغيرهما مجموعات كبيرة مما وجده الأثريون من بقايا النقوش والزخارف والتماثيل، وعدد هائل من اللوحات التي قيل إنها تكون مكتبة آسور بانيبال. والفضل في ذلك راجع إلى شخصيات بارزة أمثال أميل بوتا وهنري ليارد وهرمز رسام وجورج سميث وغيرهم، استغل كل منهم في منطقة معينة لا يتسع المجال لإيضاحها وإيضاح نتائجها

ولعلنا بالنظر إلى المصورات التي تشملها هذه المقالة، نأخذ فكرة عامة عن الفن البابلي الآشوري كما أنه يمكننا بالمقارنة أن نعرف إلى أي مدى وصل هذا الفن نسبياً إلى الفن المصري

أنظر إلى الصورة الأخيرة (ش 6) تر أروع ما يستطيع فنان إخراجه، فهي مليئة بالحياة وصدق المحاكاة، إلى جانب دقة التناسب وعظمة الإخراج فعندما أصيبت اللبؤة بسهمين في نصفها الخلقي انهزمت بهذا النصف، ونلاحظ أن النصف الأمامي لا يزال حياً برغم اختراق السهم الثالث للقلب أو لما يجاوره. أنظر إلى بروز المخلبين الأماميين والى اختفاء نظيريهما من الخلف، ولاحظ ما ظهر على ملامح الوجه من علائم الألم التي تمثلت في التجاعيد الواضحة على الأنف. أما الفم فهو يمثل الاستغاثة بكل معانيها

فهذه إلى جانب غيرها من الأمثلة الصادقة لفن إن لم يكن في مقدمة الفنون القديمة، دليل على أنه من الفنون التي لا يمكن للراغب في فهم الجمال الفني الاستغناء عن معرفتها.

(أحمد موسى)