مجلة الرسالة/العدد 155/الدكتور محمد إقبال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 155/الدكتور محمد إقبال

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1936



فلسفته

معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب

للسيد أبو النصر أحمد الحسنى الهندي

إن من نابذ الأديان العداء في العصر الحاضر هو الطبيب النمساوي الفيلسوف سيجموند فرويد صاحب المذهب الخاص في علم النفس التحليلي وقد توفي حديثاً، فهو قد رأى في حقيقة أعمال الإنسان، بل في جميع حركاته وسكناته رأياً غريباً، وهو أن أساسها العاطفة الجنسية، وأن الولد يولد وعنده تلك العاطفة، وأن جميع خواطر الإنسان وهواجسه من الطفولة إلى الشيخوخة ترجع إليها. وعلى هذا فالإنسان عند سيجموند فرويد مجسم الشهوانية وكتلة العاطفة الجنسية، ولا حقيقة عنده للأمور المعنوية الأخلاقية البحتة التي كثيراً ما طمحت إليها نفس الإنسان لتتسم فيها ذروة الشرف، ولا لنظم الروحانية المجردة عن تلك العاطفة مثل الأديان، ولا لأمثالها التي طالما تطلعت إليها روحه فلم يأل جهداً في حيازة كمالها. فهكذا جرد فرويد الإنسانية من أوصافها المميزة، وحطها من مراتبها الروحانية السنية، والدرجات الأخلاقية والمعنوية الرفيعة، إلى حضيض الحيوانية والهمجية.

قرر فرويد أن الدين عبارة عن وهم محض خُلق من المهيجات والدوافع المرفوضة في نفسية البشر، لتجد تلك المهيجات والدوافع في دائرة الدين حرية العمل غير المسدود؛ وأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري، ولجعلها شيئاً أقرب إلى رغبة القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة. ومبنى هذا القرار هو نظريته التي أتى بها في علم النفس التحليلي، وخلاصة تلك النظرية هي أننا حينما نقوّم بيئتنا ونرتب ما حولنا نتعرض للمهيجات والدوافع المختلفة الكثيرة فنرد عليها. وعملية هذا الرد إذا تكررت كثيراً تتحول إلى العادة فتصبح نظاماً للرد أكثر ثباتاً مما لم يتكرر؛ ثم هي تتقدم بالاستمرار في التعقيد، وذلك لأننا عند الرد نقبل بعض تلك المهيجات ونهضمها، ونرفض الأخرى التي لا توافق نظام ردن الثابت، فتتراجع إلى منطقة من العقل مسماة (بالمنطقة اللاشعورية)، أو (منطقة ما تحت الشعور)، وتبقى فيها حتى تجد فرصة سانحة للانتقام من الذات المركزية والهجوم عليها، وحينئذ تقدر أن تغير خططنا للعمل، وتفسد أفكارنا، وتشيد أحلامنا وأوهامنا، أو تجرنا إلى تصورات سيرتنا الأولى التي كنا تركناها طوع سنة الارتقاء على مسافة شاسعة، فالدين عند فرويد مخلوق هذه المهيجات والدوافع المرفوضة، وثمرة اقتحامها الذات المركزية.

يخالف الدكتور إقبال هذا الرأي السقيم أشد المخالفة؛ وقد وضح ذلك في محاضرة ألقاها بجامعة هندية، إذ قال: (إن من تجرد الشيطانية عن سلطة الألوهية أن قام فرويد وأنصاره بخدمة للدين تفوق التقدير؛ إنني لا أستطيع أن أمتنع عن القول بأن النظرية الأساسية في علم النفس الجديد هذا لا تظهر لي مؤيدة بدليل قطعي حاسم. فلو كانت مهيجاتنا ودوافعنا المتشردة تهاجمنا في الحلم أو في الأوقات الأخرى التي لسنا فيها في حالتنا الأصلية، فلا يتأتى من ذلك الهجوم أنها تبقى مسجونة في مكان يشبه مكان سقط المتاع وراء ذاتنا الطبيعية. إن هجوم هذه المهيجات والدوافع المكبوتة على منطقة ذاتنا الطبيعية يفضي أكثر إلى تبيين أن لنظام ردنا العادي تمزقا وقيتاً من أن يثبت وجودها الدائمي في زاوية مظلمة من العقل (أما القول بأن العقائد والمذاهب الدينية ليست إلا نظريات الطبيعة الابتدائية التي سعى بها الإنسان لإنقاذ الحقيقة من قبحها العنصري ولجعلها شيئاً أقرب إلى القلب من غير أن تسمح بذلك حقائق الحياة، فلا أنكر أن هناك أدياناً وأمثالا من الفن تحث الإنسان على الهروب من حقائق الحياة وتساعده عليه، ولكن الذي أريد أن أقول هو إنه لا يصدق على جميع الأديان. فلا نزاع في أن للمذاهب والعقائد مضامين تتعلق بما وراء الطبيعة، ولكنه أيضاً بين أنها ليست تفسير مدلولات الاختبار الذي هو موضوع بحث العلوم الطبيعية. إن الدين غير علم الطبيعة، وعلم الكيمياء اللذين يشرحان الطبيعة بقانون السبب والمسبب، إنما الدين يقصد التعبير عن منطقة الاختبار الإنساني الذي يختلف عن غيره تمام الاختلاف - الاختبار الديني - الذي لا يمكن أن تحول مدلولاته إلى مدلولات أي علم آخر. وفي الحق إنه يجب علينا أن نقول في إنصاف الدين إنه أصر على ضرورة الاختبار المعين في الحياة الدينية قبل أن يعرف ذلك العلم بكثير. فالخصام بين الدين والعلم ليس بقائم على أن لأحدهما وجوداً والثاني لا وجود له، بل على الاختبار المعين. فكلاهما يقصدان الاختبار المعين كنقطة الافتراق بينهما، وعلى هذا فالخصام المفروض بينهما ناشئ عن سوء الفهم وهو أن كلا منهما يعبر عن مدلولات الاختبار الواحد. إننا ننسى أن الدين يتوخى الوصول إلى المضمون الحقيقي لنوع خاص من الاختبار الإنساني).

(ولا يمكن أن نفسر مضمون الشعور الديني بنسبته إلى عملية العاطفة الجنسية. فأن الشعورين - الجنسي والديني - في الغالب متخاصمان أو على الأقل في أوصافهما المميزة، وفي غرضيهما وفي نوع السيرة التي ينتجها كل منهما يختلفان كل الاختلاف. والحق أننا في حالة العاطفة الدينية نعلم الحقيقة الواقعية بمفهوم أنها خارجة عن دائرة شخصيتنا الضيقة، وللشدة التي تهز بها تلك العاطفة الدينية أعماق وجودنا تلوح للعالم بعلم النفس أنها ثمرة (منطقة ما تحت الشعور). إن في كل علم يوجد عنصر العاطفة، ويزداد موضوع العلم وينقص في قيمة موضوعيته على حسب الزيادة والنقص في شدة تلك العاطفة. فان الشيء الذي يقدر أن يهز جميع شخصيتنا هزاً شديداً أكثر حقيقة لنا.

صنف في ألمانيا الدكتور آسوالد اشبنجلر أحد كبار الفلاسفة المعاصرين كتاباً اسمه (انحطاط الغرب) ونشره بعد الحرب العظمى مباشرة، فلقي مع اشتماله على أدق الأفكار الفلسفية إقبالا عظيما حيث بيع من الطبعة الأولى مائة ألف نسخة. في هذا الكتاب سعى اشبنجلر لدحض الفكرة السائدة من القرن الماضي إلى الآن وهي أن الحضارة الغربية الحاضرة ثمرة التقدم المسلسل، وأن مصيرها في المستقبل أيضاً التقدم المستمر كالخط اللامتناهي، وأتى بنظرية وهى أن المدنية الإنسانية ليست هي التقدم المسلسل ولا المستمر كالخط اللامتناهي بل هي عبارة عن سلسلة حلقات المدنيات المختلفة كل حلقة فيها مستقلة في روحها عن الأخرى تمثل دور الثقافة والحضارة ثم تموت. ولا اتصال بين تلك الحلقات بتاتاً. وعليه فلكل مدنية عند اشبنجلر طريق خاص للنظر إلى الأشياء والعالم وعر الملتمس لأبناء مدنية أخرى.

لإثبات هذه النظرية استقصى اشبنجلر في كتابه (انحطاط الغرب) مدنيات العالم بحذافيرها فخصص بابين كبيرين للمدنية العربية يرى إقبال أنهما يكونان جزءاً ذا أهمية عظمى لتاريخ آسيا الثقافي. غير أن ما جاء فيهما عن الإسلام هو، في رأي اقبال، مبني على سوء الإدراك لطبع الإسلام كالحركة الدينية، وللتحول الثقافي العظيم الذي أتى به الإسلام في العالم. قال في محاضرة ألقاها في جامعة هندية: (إن اشبنجلر في اجتهاده لإثبات نظريته يسوق جيشاً عرمرماً من الحوادث والتراجم كالشواهد ليبين أن روح المدنية الأوربية مضادة لروح المدنية اليونانية واللاتينية، وأن تضاد روح المدنية الأوربية هذا ناشئ عن طبع الذكاء الأوربي الخاص وليس عن أي الهام قد تكون استلهمته من الثقافة الإسلامية التي هي عنده (ماجية) في النوع والروح تماماً. إنني قد سعيت في محاضرتي السابقة لأثبت لكم أن تضاد روح العالم الحاضر هذا لروح المدنية اليونانية واللاتينية هو في الحقيقة ناجم عن ثورة الإسلام ضد الفكر اليوناني؛ وظاهر أن هذا الرأي لا يمكن أن يقبله اشبنجلر، فإنه لو قيل إن تضاد روح الثقافة الحاضرة للمدنية اليونانية واللاتينية ناتج عن استلهامها ذلك من الثقافة التي سبقتها مباشرة، لانهارت نظريته من أساسها، لأنه قد قرر فيها أن كل مدنية منفردة مستقلة لا اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. لذلك أخشى أن يكون جهد اشبنجلر لتأسيس نظريته هذه قد أفسد نظره في الإسلام كالحركة الثقافية إفسادا تاماً).

(يريد اشبنجار (بالثقافة الماجية) الثقافة العمة المشتركة بين ما يسميه اشبنجلر (مجموعة الأديان الماجية) وهي عنده الديانة اليهودية، والكلدانية القديمة، والمسيحية القديمة، والزرادشتية والإسلام. فلا أنكر أن الغشاء الماجي نبت على الإسلام ولكن مهمتي في هذه المحاضرة كما كانت في محاضراتي السابقة هي حماية صورة صحيحة لروح الإسلام الخالصة المجردة عن غشائها الماجي الذي في رأيي أضل اشبنجلر. إن جهل اشبنجلر للفكر الإسلامي في مسألة الزمان، وكذلك جهله للطريق الذي به ظهرت الأنانية في الاختبار الديني الإسلامي كالمركز الحر للتجربة، مدهش. فبدلا من أن يستفيد ويستنير من تاريخ الفكر الإسلامي وتجاربه هو يفضل أن يؤسس حكمه على عقائد العامة في بداية الزمان ونهايته. فكروا هنيهة! في رجل ذي علم غزير كالجبل الشامخ وهو يستمد لإثبات الجبر المزعوم في الإسلام من المقولات والأمثال العامة الشرقية مثل (قوس الوقت) أو (لكل شيء وقت). إنني على كل حال قد بينت لكم في محاضراتي السابقة أصل فكرة الزمن في الإسلام وتقدمها كما شرحت لكم الأنانية الإنسانية كالقوة المطلقة، وأعتقد أنه وافي بالغرض؛ وأما انتقاد آراء اشبنجلر في الإسلام وفي الثقافة التي نجمت عنه انتقاداً وافياً فظاهر أنه يحتاج إلى مجلد ضخم. غير أني زيادة على ما قلت أحب أن أقدم إليكم ملاحظة أخرى عامة)

يقول اشبنجلر (إن لب تعليم الأنبياء ماجي. فهناك إله واحد - سواء أيقال له يهوذا، أم اهورامزدا، أم مردوك بعل، وهو الأصل للخير. وأما الآلهة الأخرى فجميعها إما عَجَزة أو شريرة، وضُم إلى هذه العقيدة الأمل في ظهور المسيح الذي كان أكثر وضوحاً في النبي ايشائيا ولكن ذلك الأمل ظهر في القرون بعده في كل مكان تحت ضغط الضرورة الباطنية بالشدة. وهذا الفكر فكر أساسي في الدين الماجي لأنه يشمل من دون النزاع تصور حرب العالم التاريخية بين الخير والشر مع سيادة قوة الشر في الأوقات المتوسطة وفوز الخير في الآخر في يوم القيامة.) لو أريد تطبيق هذه الصورة لتعليم الأنبياء على الإسلام فهو يحرفه تحريفاً تاماً، فان الفرق الهام بينهما هو أن الرجل الماجي يقبل وجود الآلة الباطلة وان لم يعبدها، بينما الإسلام ينكر نفس وجودها إنكاراً تاماً. واشبنجلر يعجز في هذا الخصوص عن أن يقدر القيمة الثقافية لفكرة ختم النبوة في الإسلام حق قدرها. نعم مما لا شك فيه أن صفة واحدة مميزة في الثقافة الماجية هي موقف الأمل الأبدي، هي الانتظار المستمر لمجيء أولاد زرادشت غير المولودين، أو المسيح، أو بارقليط الإنجيل الرابع، ولكني قد بينت لكم في محاضراتي السابقة الطريق الذي يجب لطالب الإسلام أن يسلكه في البحث عن المعنى الثقافي لفكرة ختم النبوة في الإسلام. وزيادة عليه أقول إنه يمكن أن تعتبر هذه الفكرة علاجا نفسياً للموقف الماجي للأمل المستمر الذي يفضي إلى تقديم صورة كاذبة للتاريخ. لذلك لما رأى ابن خلدون أنه قد ظهرت في الإسلام تحت أثر الفكر الماجي فكرة - ظهور المهدى - التي تشبهها على الأقل في نتائجها النفسية، وأنها تخالف نظره في التاريخ محقها بالانتقاد محقاً تاماً)

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي