مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/باب العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/باب العلم

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 2 - 1912



علوم الاجتماع والأخلاق

1

الشخصية والأخلاق

للكاتب الأمريكي الأكبر رالف والدو امرسن

عربها عن الانكليزية المازني

قرأت في بعض الكتب أن الذين كانوا يستمعون إلى خطب اللورد شَتَام كانوا يجدون في الرجل ما هو أشد خلابة من منطقه. ولقد أخذ بعض النقاد على مؤلف تاريخ الثورة الفرنسية أن كل ما ذكره عن ميرابو لا يكفي للحكم على فحولته وعندي أن أبطال بلوتارك (فلوطرخس) لا تتكافأ شهرتهم ومآثرهم ولم يأت السير فيليب سيدني والإِرل ساسكس والسير ولتر رالى عظيماً ولكنهم مع ذلك من ذوي النباهة والصيت ولو شاء أحد أن يستطلع السر في عظمة واشنجتون من تاريخ أعماله لخاب مسعاه. أضف إلى ذلك أن اسم شيلر أكبر من مؤلفاته. فما معنى ذلك التفاوت بين العمل والشهرة. وهل يكفي في التماس العلة لذلك أن يقال صدى الرعد أطول من الرعد كلا. بل أن في نفس العظيم قوة تبعث طول الأمل فيه وحسن الثقة به. وجل هذه القوة كامن كمون النار في العود وهذا هو ما نسميه الشخصية - فهي قوة في النفس لا تحتاج إلى واسطة وسر من أخفى الأسرار وأغمضها أو هي شيطان ينزع المرء عن قوسه ويأتم بهديه يأتنس به في وحدته ويسكن إليه في خلوته فلا تكاد ترى ذا الشخصية إلا منفرداً بنفسه خالياً بشيطانه يؤثر العزلة ويستأنس بالوحشة. وترى صاحب الأدب البارع آنا يعلو وآونة يسفل ولكن عظمة الشخصية لا تتضاءل ولا تصغر وذو الشخصية يبلغ بفضلها حيث لا تبلغ الهمم والمواهب والبلاغة. يسبق الناس قاعداً ويفوتهم متمهلاً ويستولي على الأمد باهلاً ويحرز النصر لا باشتجار الأسنة ولكن بإظهار سبقه وعظمته ويفوز لأن وجوده يقلب وجه الأمور ويغير مجرى الحوادث. سئل أيولى يوماً كيف عرفت أن هيركيوليز إله؟ فقال: نظرت إليه فكانت تلك النظرة حسبي فلما أبصرت (ثسيير) وددت أن أراه في مواقف القتال وقد تنازل الفرسان وتصادم الأبطال ولكن هيركيوليز كان يبهر الناس قائماً وقاعداً ويظفر برغائبه على الرغم من أنف الزمان. يرى القارئ مما تقدم أن الإنسان - وهو في العادة رهن الحوادث لا تكاد تجمعه بالعالم الذي يعيش فيه ماسكة جامعة أو شابكة صلة - في مثل هذه الظروف يساهم الأشياء حياتها ويقاسم الطبيعة روحها ويكون مثالا لتلك النواميس التي تعنو لها الشمس ويذعن لها البحر وتخضع الأعداد والكميات.

ومالنا لا نضرب الأمثلة بما هو أقرب منالاً. أعني الانتخابات السياسية التي لا تخلو منها أمة ضربت في المدينة بسهم. فإن الناس ليعلمون أنهم متفرقون إلى رجال جمعوا إلى الذكاء قوة تجعل الناس يطمئنون إلى ذكائهم ويركنون إلى مواهبهم وليس بنافعهم أن يرسلوا إلى مؤتمرهم خطيباً وأرى الزند بعيد الأمد بسيط اللسان مشرق ديباجة البيان إذا كان الله سبحانه لم يختره لتأييد حقيقة ما قبل أن يختاره الناس لينوب عنهم - حقيقة هي في تقديره اليقين الصابح الذي لا مراء فيه ولا ريب. فإذا وجدوا ضالتهم أرسلوه لينوب عنهم ويمثلهم ولا حاجة به إلى سؤال منتخبيه عما يرون لأنه هو الأمة التي ينوب عنها وهي التي تصير إلى ما يرتأى لها وتصدر عن مورد رأيه ومشرع فكره.

وتظهر هذه القوة أيضاً في التجارة فإن فيها نوابغ وفحولاً كما في الحرب والسياسة والأدب. وليس من سبب لفوز هذا أو ذاك بنجح أمانيه وفلج مساعيه سوى ما وهبه الله من قوة النفس وعظم الشخصية وهذا كل ما نعرف وغاية ما وصل إليه علمنا. وحسب الناظر أن يسرّح في وجهه طرفه ليقف على سر نجاحه وعلة رفعته وهل سمعت أن أحداً تأمل وجه نابليون فلم يبصر فيه شاهداً من خبره وأني ليخيل لي إذ تأخذ عيني تاجراً بالطبع أن الطبيعة قد كفته الاهتمام بشأنه والعناية بأمره وأنه ليس تاجراً يبيع ويشرى وإنما عامل لها استوزرته على التجارة - وأذكر (التاجر بالطبع) فأراه بعين الظن جالساً في غرفته وعلى وجهه دلائل الكد وآثار الجهد وهو يحاول أن يبسط ما انزوى من بين عينيه وأرى كذلك أي عظيمة أقدم عليها في يومه وصعبة راضها بقوة ثباته ومضاء عزمه وكم قال لا غير هيّاب ولا وجل على حين دفع غيره نحس الطالع ونكد الجد فقالوا نعم وكأني به يعرف أنه لا واحد له وإن المرء إذا لم يخلق تاجراً فلن يلقنه التجارة أحد.

ولقوي النفس شديد الشخصية سلطان على من كان ضعيفاً كسلطان النوم إذا دب في الأجفان ثنى الرؤوس وأمال الأعناق ولعلّ هذا هو قانون الطبيعة العام فإن العالي إذا استصعب عليه أن يذرى من السافل وينعشه هوّده وفتره كما يروض أحدنا الدابة حتى تُصحب وللإنسان على أخيه سلطان خفىّ ولكم جاء تأثير الرجل القوي فيمن حوله مصدقاً لأساطير السحر! سئلت مرة امرأة كونسيني كيف استقادت لك ماري دي مديسي وماذا بذلت في سبيل ذلك فكان جوابها لم أبذل شيئاً غير ما للعقل القوي على الضعيف من التأثير.

ولو كان قيصر أسيراً أفكان يعييه أن يكسر القيود ويفك الأغلال ويجعلها في يد السجّان؟ وهل فك قيد مطلب محال ومرام لا يكون. ولنفرض أن نخاساً اختطف من أواسط أفريقية جماعة من العبيد والحبشان وانهم جميعاً كانوا من أشباه واشنجتون. أفكانوا في تخمينك يبلغون كيوبا وفي أنوفهم بُرَة الأسر والنخاس عليهم أمير؟ أليست ثمت شيء غير الإسار؟ شيء كالحب والإجلال؟

وهذه القوة طَبعيّة كالضوء والحرارة والسبب الذي من أجله نشعر ببعض الناس ولا نحس ببعض بسيط كالجاذبية. فإن الحق غاية الوجود وأعلى مراتبه والعدل تطبيقه. وطبائع الناس في ميزان. فمن طاب عنصره وخلص جوهره رجح ومن خبث شال وإرادة الأول تجري إلى غيره جري الماء من إناء عال إلى آخر سافل. وليس في وسع أحد أن يحبسها أو يقطع عليها متوجهها. فإنك لتستطيع أن تقذف بالحجر في الهواء ولكنك لا تقدر أن تمنعه من السقوط ومهما يكن من أمور الناس فلا مناص للعدل من أن يسود في الأرض. والنفس الصحيحة في نظام واحد مع العدل والحق كالمغناطيس والقطب. وصاحبها في رأي العين واقف بين الناس وبين الشمس يشف عنها ولا يحجبها فمن أم وجهتها فقد أمه قبلها. فهو أبداً منظور ممن لا يدانونه مرموق ممن لا يشاكلونه ولو أنا قلنا أن ذوي الشخصية من الناس هم ضمائر أمتهم ما كنا مبالغين.

ومقياس هذه القوة مقاومة الحوادث ومكافحة الظروف فإن صغير النفس ينظر إلى الحياة باديةً في مرآة الحوادث والأفكار والناس ولا يتفطن للأمر حتى يكون وأني لمن لم يهبه الله صفاء النفس ولطافة الحس وحدة الفؤاد أن يستشف جرثومة الأمر من بين مثاني الحوادث ويتبين صفته من خير أو شر ولمّا تلده الليالي بعد. هذا ولكل شيء في الطبيعة قطبان موجب وسالب - ذكر وأنثى - روح وحقيقة - شمال وجنوب فالروح هي الموجب والحادثة هي السالب والإرادة هي القطب الشمالي والعمل هو القطب الجنوبي والشخصية منزلها الشمال فهي تشاطر الشمال تياراته الجاذبة فأما النفوس الضئيلة فمدفوعة إلى الجنوب ومسوقة إلى القطب السالب. وهي (أي النفوس الصغيرة) تنظر إلى العمل من خلال النفع والضرر فلا تفطن إلى مبدءٍ ما حتى تبصره مجسّماً في رجل. تحاول أن تؤتي محابّ القلوب لا أن تتسربل بالحسن وترتدي بالملاحة. وذوو الشخصية لا يكرهون أن تعد معايبهم وتحصى معايرهم والفريق الأول لا يهتز لذكر العيوب ولا يهتش لنعى المثالب يقدس الحوادث ويجتزئ بما يطفُّ له من الحقائق والعلائق والظروف وأين هذا من البطل الفحل الذي يرى أن الحوادث ما كانت إلا لتتبعه وما خلقت إلا ليردفها وراءه. وتقلب الظروف وانتقال الأحوال لا يصلحان فساد النفس ووهن الشخصية. ولطالما تباهى أهل هذه العصور بأنهم قد نقضوا مرة الخرافات وقهروا عزتها وهذا من فاسد الأوهام وبعيد المزاعم - وأي جدوى على في أني لا أذبح للآلهة الذبائح ولا أتوسل إليهم بالقرابين إذا كانت قوائمي ترجف من الرأي العام - كما ندعوه - وجناني ما يستقر من فزعي من اللصوص وجيران السوء وأراجيف الغواة وإشاعات الفتن والثورات. الحقيقة أن عيوبنا تتشكل في صور شتى وأشكال عديدة فإذا كنت هيوباً فلا بد أن يأخذك الرعب ويستفزك الفرق لأن المرء يسير في الحياة تحيط به نفسه وليس في وسعه أن يخلص منها. وأنه لمن العار أن يلجأ المرء إلى الحوادث لتثبت له صدقه وقدره فإن المالي لا يعمد في كل ساعة إلى السمسار بل يكتفي بأن يرى في الصحف أن أسهمه ارتفعت كذلك المسرة التي يدخلها على النفس وقوع خير الحوادث على خير وجه أحلى منها شعر المرء أن منزلته صاعدة في معارج الرفعة وأنه أصبح بفضلها وفي يده قياد الحوادث وزمام الأمور.

وآية الشخصية الاكتفاء بالنفس وأنا أجل الرجل الغني الوجه أعني الذي أراه فاذكر الأريحية والسماحة والبذل ولا أذكر الوحشة والفاقة والنفي والشقاء والشخصية قطب تدور حولها رحى الأمور وتجول وهي ما لا يمكن قلبه. وصاحبها يرينا معنى الكتلة فإن المجتمع طياش رقيع يقطع الأيام خِرَقاً والحديث شجوناً تذهب ببعضها الرسميّات وبالبعض الآخر الاعتذارات ولست أقنع من الرجل الأروع بما يبوئنا من كرمه ويجود علينا به من خلقه ولطفه فإني لأوثر على ذلك أن أحس قوته واستشعر مُنته واعلم أني قد لقيت امرأ ذا صفة جديدة. وجبة فإن ذلك أمتع لي وله وحسبه أن لا يحفل بتقاليد الناس وآرائهم - وليس من شيء نافع أو صحيح إلا وهو صالح لأن يكون موضعاً للاقتتال. فإن دورنا لتدوي بأصوات الضاحكين وأحاديث السمار والمتفكهين ولكن ذلك كله لا خير فيه ولا فائدة ولا ترجى منه منفعة أو عائدة ولكن الرجل الصعب الخشن القليل الغناء الذي هو في نفسه عقدة تتهدد المجتمع والذي لا يستطيع الناس أن لا يلتفتوا إليه فهم بين أمرين أما أن يعبدوه ويعنوا له وأما أن يبغضوا وينبوا عنه والذي تحس كل الجماعات والزعماء والسقاط أن بينهم وبينه نسباً وصلة - هذا هو الرجل النفاع الذي يخطئ أمريكا وأوروبا ويبهر الإلحاد القائل إنما الإنسان لعبة فدعنا نلعب ونلهو فذلك خير ما نصنع بنور الهداية والإرشاد فإن مواطأة الملأ ومتابعة الرأي العام والإلتجاء في كل أمر من دلائل ضعف الأيمان وخمود شعلة الذكاء فإن ذا البصيرة المظلمة ليعييك أن تصور له البيت أو يراه قائماً ولكن اللوذعى لا يشغل باله لا بالكثرة ولا بالقلة ولا بمن يلتف حوله أو ينفض عنه لأنه قوي في ذاته قانع بنفسه.

وينبغي أن تقوم أعمالنا حسابياً على مادتنا. فإن ميزان الطبيعة ميزان صدق لا يغل شعيرة وجاذبية الرطل من الماء في البحر العاصف أو في البركة الراكدة سواء وكل شيء يعمل حسب صفته وقيمته. وليس يحاول ما لا يستطيع غير الإنسان فإنه واسع فسحة الأمل طويل عنان الرجاء كثير الزعم في غير مزعم والكدم في غير مكدم لا يستحي أن يحاول ما لا تصل إليه مقدرته أو يبلغ إليه مرتقى همته. وكل عمل فاشل إذا هو لم يقم على أساس من الحقيقة لا الخيال: وليس ثمت عمل خيراً من العامل فإذا كان في الرجل قوة كامنة لا تنفك تحفزه وتحثه فهو خليق أن يبلغ ما في نفسه. وليس يكفي أن يعرف العقل العلة وطبابها فإن ذلك لا يبلغ بالمرء حيث تبلغه تلك القوة.

ولست أجد لذة في إحسان لا يقاس إلا بآثاره فإن الحب لا نهاية له وهو وإن فرغت بيادره لا يزال ينفس الكرب ويزيل البث وحامله يطهر بأنفاسه الهواء ومنزله يزين الأرض ويعين الحق. والناس لا يغيب عنهم هذا الفرق فإنا لنعرف الكريم من وجهه لا بمقدار ما اكتتب به لجمعيات البر والرفق وى المرء وضاعة أن تعد محاسنه. وأنت خليق أن تخاف إذا قدر أخوانك أن يحصوا مآثرك تحت عينك فأما إذا لقوك بعيون يغض منها الإجلال والكره ورأيتهم قد أحجموا عن الحكم عليك فأنت خليق أن تشيم مخايل الرجاء. ويخيل لي أن من يعيشون للمستقبل أنانيون في نظر من يعيش للحاضر. لذلك كان من السخافة أن يعدد ريمر حسنات جويتي فيقول أعط كذا ديناراً لفلان وكذا درهماً لفلان وفلان ومكن الأستاذ فلاناً من وظيفة غزيرة الفائدة وأدخل فلاناً في حاشية الدوق - الخ الخ فإن عدد هذه المبرات قليل وإن كثر وإذا كنت تزن المرء بما تحصي من نوافله فما أحراه أن يشيل في الميزان لأنها جميعها شواذ فأما كرم جويتي فقد عرفناه من رسالة مسهبة بعث بها إلى الدكتور أكرمان يشرح فيها كيف صرف ماله وقد قال فيها لقد كلفتني كل كلمة طيبة قلتها كيساً من الذهب ولقد فيّحت نصف مليون من مالي الخاص الذي ورثته وبددت وظيفتي وكل ما كسبته من الكتابة والأدب - أضعت كل ذلك لأعرف ما أنا اليوم به عليم - ولقد رأيت عدا ذلك الخ الخ.

والشخصية هي الطبيعة في أشرف صورها وأسماها والذي يحاول أن يحكيها أو يكافحها يحاول أمراً بعيداً ويروم مراماً معضلاً لأن في هذه القوة قدرة على المقاومة والثبات ترمي المنافس بالفشل وتسِمُه بالعجز -

ويوجد صنف من الناس يظهرون من حين لحين وبينهم فترات يشقى بها صبر الأمم. فلا يسع الناس إلا الأيمان بهم وبرسالتهم لما يرون فيهم من الفضيلة وبعد الغور وصدق المنزعة وهؤلاء الرجال يولدون ذوي شخصية أوهم كما قال نابليون خلقوا للنصر يتلقّاهم الناس بادئ الأمر على حرف لأنهم جدد ولأنهم يعرون سابقيهم مما علق بشخصياتهم ويجردونهم مما ليس لهم. والطبيعة أعزك الله لا تلتزم في عظمائها ما نلتزم في الشعر من القافية فلا تشق اثنين من نبعة واحدة ولا تقد رجلين من أديم ولا تجيء بعظيمين على غرار فأيما رجل رأى في عظيم مشابه من آخر فلا يحسب أن الليلة لذلك شبيهة بالبارحة فإن شخصية المرء مسألة لا يحلها إلا صاحبها على طريقة لم يسبقه إليها أحد.

والحفر في رأيي نوع من التاريخ فإن ابولو وجوف ليسا مستحيلين يكسوهما اللحم ويجري في عروقهما الدم والصانع إنما نظر فرأي فرسم ولعل في العالم ما هو أبدع من تمثاله وأروع من دميته ولقد رأينا نظائر ذلك ولكنا خلقنا وفي نفوسنا بذرة الأيمان بالعظماء وما أهون أن يقرأ أحدنا في الأسفار القديمة أيام الرجال قليل عن أضأل الأعمال وأحقرها.

نحب أن يكون الرجل ضخماً عملاقاً مالئاً ل ليكون حقيقاً أن يكتب له في صحيفة الخلود مثل ما يأتي جمع ذيله وحسر عن ساقه ويده وقام قاصداً المكان الفلاني وأحق الأعمال بالتصديق أعمال رجال تطامنت لهم المفارق لأول ما ظهروا واقتنعت بصدقهم المشاعر كما وقع للحكيم الشرقي الذي بعث ليسبر غور (زوريستر) ويبلو ما عنده فقد زعم الفرس أن الحكيم اليوناني لما وصل (بلخ) أمر جوشتاسب بالحكماء والعلماء أن يجتمعوا لديه في يوم معلوم ونصب لمجلس اليوناني كرسياً من الذهب فلما جاء اليوم المعلوم واحتشد الحكماء ومشي زوريستر وسط جموعهم ورآه الحكيم اليوناني قال تاالله لا تكذب هذه الطلعة ولا تلك المشية وما كان الكذب ليجد إلى لسان هذا الرجل سبيلا وقال أفلاطون محال أن لا نصدق أبناء الآلهة وإن كانت حججهم لا محتملة ولا ضرورية غير أنه لا حاجة بنا إلى إثارة دفائن القرون الماضية فإن أعمى الناس من لم تهده تجاريبه إلى قوة السحر وهل يستطيع أجمد الناس وأشدهم مراء أن يسير من غير أن يصادف في طريقه مؤثرات مستعجمة العلل متنكرة الأسباب هذا يرشقه بنظرة فتنشر الذكري ما مات وفات وذلك يحدجه ببصره فتنضب قريحته ويمتنع عليه القول ويحس كأن مفاصله تفككت. ويدخل عليه صديق له فيتحدر تحدر السيل ويتدفق تدفق اليعبوب وتجري الفصاحة بين شفتيه ولهاته والبلاغة بين لسانه وفؤاده هذا إلى أنه لا يستطيع إلا أن يذكر أناساً بعينهم قد أوروا في صدره حياة أخرى!

ونحن إذا كان من وراء طاقتنا أن نبلغ رتبة العظماء ومنزلة ذوي الشخصية فما أحرانا أن نعرف لهم قدرهم ونخفض لهم جناح الضعة فإني لا أعرف لمن لا يفطن لصاحب الشخصية عذراً ولا أصفح عمن يتجاهله أو يعرفه فينكره ويلقاه فيتجهمه فإن ذلك ذنب لا تسعه مغفرة وجرم تقفل من دونه فاعله أبواب السماء.

2

الواجب

للفيلسوف جول سيمون

تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه تمهيد

1

الوسط الأدبي والعلمي

الذي نشأ فيه جول سيمون

حياة جول سيمون تشغل القرن التاسع عشر بأجمعه فقد ولد في أوله وتوفي في آخريات سنيه وكان قدره في الفلسفة والسياسة كقدر أشباهه وأقرانه الذين ولدوا في فجر هذا القرن وغربت شموس حياتهم قبيل غروب شمسه أمثال فيكتور هيجو وجيزوه وتيير ومن عداهم وكلهم من فحول الأدب والعلم ومن أبطال السياسة. ويصدق على جول سيمون قول من قال أن الرجال ثمرات عصورهم وصور مصغرة لحوادث الجيل الذين يعيشون فيه فقد كان القرن التاسع عشر قرن نهوض سياسي في أكثر أنحاء العالم لاح فجره بتغيير النظام الحكومي في فرنسة وبدئ بانقلاب مماثل له في بلجيقة وبلاد اليونان وايطالية وقامت دول جديدة كدولة محمد علي على ضفاف النيل ودولة المهدي في أحشاء أفريقية. وقام في بلاد الانكليز رجال عاصروا جول سيمون أمثال غلادستون فغيروا الشؤون في بلادهم وكان العالم عدا ذلك كله يخطو خطوات واسعة في ميدان العلم فنشأ من العلماء الطبيعيين أمثال هيكيل في جرمانية وداروين وهوكسلى في انكلترة واستعادت الفلسفة صباها على أيدي أوجست كونت الفرنسي وهربرت سبنسر الانكليزي أما فرنسة ذاتها فقد كانت في القرن التاسع عشر مهد حركة فلسفية أدبية لم ير العالم مثلها فنشأ فيها من فطاحل الكتاب شاتوبريان واضع كتاب اتالا ومالك ناصية النثر ولامارتين الشاعر الجليل الذي كان وهو في فقره المدقع يصل إلى السماكين بخياله السامي وشعره الصقيل: وفيكتور هيجو كاتب المئات من الكتب وناظم مثلها من الدواوين مرعب الامبراطرة ولسان الحق ونصير البائسين والفرد دي موسيه شاعر الليالي وواضع اعتراف فتى العصر وهو الذي تصل معاني شعره إلى النفس قبل وصول صوت الألفاظ إلى الأذن صريع الغواني وقتيل بنت الكروم. وبالزاك القصصي الساحر مؤلف مضحكات الحياة في أربعين كتاباً وعارض أشكال البشر في ألف ألف صحيفة والدايوجين جرانديه طريد الفاقة وحليف الأسى وشيخ كتاب القصص. وميشليه صاحب كتاب تاريخ فرنسة في ثلاثين جزءاً كأنها لعذوبتها السحر الحلال وكتاب الوطن والبحر والمرأة ابن عامل في مطبعة وصل بجده إلى منصة التدريس في النورمال والسوربون.

وظهر في فرنسة قبيل هذا العهد بقليل. لجراناج ومونج ولابلاس وهم نفر من الرياضيين والفلكيين بلغوا المجد قبل بلوغ العشرين فكانوا أساتذة الشيوخ وهم في شرخ الشباب فأسسوا مدرسة الهندسة ومدرسة المعلمين العليا نورمال بباريس وأشهرهم بالإجماع ثالثهم الذي اشتهر في أنحاء الأرض بمذهبه المعروف في أصل الأرض وانشقاقها عن الشمس مصداقاً لما جاء في القرآن الشريف وكانتا رتقاً ففتقناهما واشتهر من الكيماويين وعلماء الفيزيقي أمبير وراجو وجاي لوساك فبرز الأول في البحث في المغنطيس الكهربائي والثاني في تمدد الغازات والثالث في الكيميا العضوية.

ونبغ من الطبيعيين جيفروسانت هملير وكوفييه فدونا الكتب في تاريخ العلوم ودرسا علم الحيوان وعلم وظائف الأعضاء.

ونبغ من العلماء البحاثين شامبوليون الذي حلَّ الغاز اللغة الهيروغليفية واشتغل غيره بالسنسكريتية وغيرها من اللغات القديمة ومحض العلماء تاريخ الشعوب الهندية الأوربية الشاملة للهنود والفرس والأرمن والإغريق والسلاف والجرمان والقلت واللاتين والشعوب السامية الشاملة للأشوريين والكلدانيين والفينيقيين والعبرانيين والعرب.

2

الوسط السياسي

الذي نشأ فيه جول سيمون

أما حياة فرنسة السياسية وهي العنصر الثاني الذي تكون منه الوسط الذي نشأ وتهذب فيه جول سيمون فقد كانت في القرن التاسع عشر في أقصى درجات الاضطراب وكأن فرنسة كانت تعبر ذلك القرن تحت نجم شيء الطالع أخذ من كل حظ نصيباً فكانت الحرية التي شريت بالدماء والجهاد المستمر تباع بأرخص الأثمان وتتلوها سلطة الملوك المطلقة وكان الشعب لا يوشك أن يستريح من شن غارات نابليون الأول حتى دعوه للذود عن حياض الوطن ولا تكاد الأمة تفرح بانتهاء عهد الانقلاب حتى توقظها نواقيس انقلاب جديد. فقد تحكم في فرنسة من 1815 إلى 1848 ثلاثة ملوك أولهم لويس الثاني عشر من 1815 إلى 1824 فرد إلى فرنسة حقوقها وقد تعددت لعهده الأحزاب السياسية ومنها الحزب الملكي المتطرف وهم أنصار العرش وأعداء رجال 1789 وحزب المستقلين وهو حزب الحكومة والحزب الملكي الدستوري.

أما لويز الثامن عشر نفسه فقد كان ملكاً إِمعة ذا عاهات نفسية وبدنية ضعيف الحول والإرادة وكانت ثلاث وعشرون عاماً قضاها منفياً قد كسرت من شوكته وأطفأت من جذوة قوته وجبروته فلما رأى تألب الأحزاب وبطش المجالس تنحى عن الملك وخلفه على العرش أخوه كونت دارتوا الذي سمي بعد ذلك شارل العاشر وهو الذي قال يظهر بغضه للدستور الفرنسي أنني أفضل عيشة الحطاب على عيشة ملك انكلترة لما هو فيه من القيود الدستورية وقد حكم من 1824 إلى 1830 فسخر الدولة لإشراف العهد القديم وندب إلى الوزارة رجالاً لا ميزة لهم إلا جهلهم وغشومتهم وقنن القوانين القاسية فلما تأفف الشعب وبلغه ذلك وهو في قصر سانكلو بظاهر باريس قال أنه لم يضع لويس السادس عشر سوى تساهله وأصدر في يوم واحد أربعة قرارات.

الأول بالقضاء على حرية الصحافة الثاني بحل مجلس النواب الثالث بتحوير قانون الانتخاب الرابع بضرب موعد للانتخاب التالي.

وكان ذلك في 25 يوليو عام 1830 فحدث في باريس الهياج المشهور فتنازل شارل عن الملك هو وابنه ونصب حفيده ملكاً وعين دوق أورليان وصياً على الملك الصبي ولكن الشعب كان قد انتخب هذا الدوق وأطلق عليه اسم لويز فيليب الأول فحكم من 1830 - 1848 وكان في السابعة والخمسين لما بلغ العرش واشتهر بحبه للفقراء ومسايرة الزمان والاعتماد على المصادقات وكانت الأحزاب السياسية لعهده كثيرة منها اثنان في المعارضة وهما حزب الشرعيين أي الذين قالوا بأحقية الملك الصبي حفيد شارل العاشر للملك وسموا لويز فيليب بالمغتصب والحزب الجمهوري القائل بمبادئ 1789 وكان كذلك للحكومة حزبان حزب التقدم وحزب المقاومة وانقسم حزب المقاومة إلى حزبين حزب اليمين وحزب الشمال وقد انتهى الأمر بالحزبين الأولين المعارضين إلى الاشتهار بمحاربة الأسرة المالكة على رؤوس الأشهاد. وقد حدث في عهد لويز فيليب هذا انقلابات شتى أحدها في 1831 والثاني في 1834 وانتهت بانقلاب 1848 الذي تأسست بعده الحكومة الجمهورية الثانية وتولى منصب الوزارة في عهده رجلان من أكبر رجال فرنسة في القرن التاسع عشر هما جيزو وتيير واشتهر هذا الملك بمناصرته لمحمد علي وهو الذي كتب إليه كتاباً مشهوراً جاءَ فيه أن صداقة مصر أصبحت ضرورية لفرنسة. وفي عهده ظهرت المبادئ الاشتراكية بظهور رجالها أمثال لويس لبلانك (1812 - 1882) ولاكورديير (1802 - 1861) ثم قامت حركة 1848 الشهيرة فسقط لويز فيليب وسقطت حكومة الملكية وقامت على أنقاضها حكومة الجمهورية الثانية 1848 وهي الحكومة التي أسستها الحكومة المؤقتة التي تألفت من لامارتين ولدرورولان ولويز لبلانك واثنان صحافيان غيره.

ولما تكونت حكومة الجمهورية الثانية وانتخب نابليون الثالث رئيساً للجمهورية انتظر سنين قليلة ريثما يتمكن من التسلط على الأمة ويجتذب عامة الشعب ثم هيأ الانقلاب المشهور الذي عكس الآية وصارت الجمهورية إمبراطورية وأصبح نابليون الثالث إمبراطوراً وقد دون فيكتور هوجو هذه الحوادث في كتاب شهير اسمه تاريخ جريمة. وقد حارب أرباب القلم والبيان من كبار كتاب فرنسة أمثال هوجو وروشفور حتى حاربه القضاء عام 1870 فانكسر وانكسرت فرنسة ولم يُقلها من وهدتها سوى رجال من الأمة أبرار بها أمثال غمبتا وتيير وجول سيمون.

هذا هو الوسط الأدبي السياسي الذي نشأ فيه جول سيمون أتينا على وصفه بغاية الإيجاز وسنذكر الآن أهم حوادث حياته ونأتي على نبذة في أخلاقه قبل الشروع في تفسير أعظم كتبه.

جول سيمون واسمه بأجمعه فرنسوا جول سويس سيمون ويطلق عليه جول سيمون اختصاراً فيلسوف وسياسي فرنسي ولد بلوريان في 27 ديسمبر 1814 وتوفي بباريس في 8 يونيو 1896.

وكان أبوه يشتغل بتجارة الأقمشة وقد نَبُه ذكر الأسرة بفضله - تخرج سيمون من مدرستي لوريان وفان الثانويتين ثم عين معيداً ومعيناً للأساتذة بمدرسة رين الثانوية وبدأ منذ فجر شبابه بالتحرير في مجلة بريتاني الأدبية.

وفي 1833 التحق بمدرسة المعلمين العليا نورمال وعين أستاذاً للفلسفة بمدرسة كايان سنة 1836. ثم عين في الوظيفة نفسها بمدرسة فرسايل بعد ذلك بسنة.

وقد شهد فيه فيكتور كوزان أستاذ الفلسفة بمدرسة السوربون شغفه باللغة اليونانية وآدابها وقيامه بنقل مؤلفات أفلاطون إلى الفرنسية فقربه إليه ثم خلف كوزان في منصبه فشغل مركزه وقام بتدريس الفلسفة وألقى دروساً عن فلاسفة اليونان لا سيما أفلاطون وأرسطو وكانت هذه الدروس منهل الواردين من محبي العلم من سائر الطبقات.

ثم بدأ بالتحرير في مجلة العالمين. وكان ممن أسسوا مجلة حرية الفكر عام 1847.

ثم بدأ يشتغل بالسياسة فرشح نفسه للانتخاب في مقاطعة لانيون وبذل مجهوداً كبيراً ولكنه فشل بمساعي حزبي اليمين والشمال المتطرفين (1847) ولكنه عاد فانتصر انتصاراً باهراً بعد ذلك بعام حيث انتخبته مقاطعة الشواطئ الشمالية في 23 ابريل 1848 عضواً للمجلس الواضع للدستور فكان مركزه بين المعتدلين واشتغل شغلاً وافراً في اللجان الكبرى ثم حارب فكرة الكوميونيزم وتفرغ للبحث التي كانت شغله الشاغل ثم استقال في 16 ابريل 1849 ليدخل مجلس الحكومة ولكنه فقد فجأة كل مناصب الحكومة فلم يعد انتخابه في مجلس الحكومة عند ما تجدد انتخاب ثلث أعضائه ولم يعد انتخابه في المجلس الواضع للدستور ووشك أن يفقد منصبه في دور العلم ولكنه بعد الانقلاب السياسي الذي حدث في 2 ديسمبر 1851 الذي تمكن به نابليون الثالث من إسقاط الجمهورية وإعلان حكومة الإمبراطورية ذهب جول سيمون إلى درسه في مدرسة السوربون وألقى الخطبة الآتية التي ذاع منذ ذلك الحين صيتها وتناقلتها الألسن قال:

أيها السادة:

أنني أقوم هنا بإلقاء درس في الآداب وإنني اليوم مدين لكم بنموذج فعلى لا بدرس ألقيه عليكم. إن الأمة الفرنسية مدعوة لتجتمع غداً في مجالسها لتقرأ أو لتنكر الحوادث التي حدثت قريباً. فلو أن الأمة ستنكر هذه الفعال فقد جئت أقول لكم على رؤوس الأشهاد أنني أنا من المنكرين

فكانت نتيجة هذه الخطبة أنه أقيل من منصبه وحرم من منصب التدريس في مدرسة المعلمين العليا.

فاعتزل الأعمال وقصد مدينة نانت فشغل فراغه بالأبحاث التاريخية ثم نشر كتاب الواجب (1854) مقاوماً به نظام الإمبراطورية فكان لهذا الكتاب دوي عظيم.

ثم نشر بعد ذلك الكتب الآتية الدين الطبيعي (1856) والحرية (1857) وتلا تلك الكتب سلسلة محاضرات بليغة حماسية في المسائل الاشتراكية والفلسفية. ثم كان في الوقت نفسه يجاهد جهاداً سياسياً. فإنه بعد أن فشل في انتخابات عام 1857 في الخط الثامن من مقاطعة السين انتخب عضواً في مجلس التقنين في أوائل يونيو 1863.

وكان لبلاغته وشدة عارضته تأثير شديد وسلطة كبرى في المجلس رغم مخالفته للجماعة.

وكانت خطبته التي ألقاها في مصالح المرأة في طبقة العمال وفي حرية العبادات وفي مسألة رومة أحسن وسيلة لانتشار ذكره في أنحاء فرنسة وفي 1863 انتخب في مجمع العلوم الأدبية والسياسية وفي سنة 1869 انتخب في مقاطعة السين والجيرون ففضل المقاطعة الأخيرة وقاوم فكرة الحزب وفي 4 سبتمبر انتخب عضواً في الحكومة المؤقتة التي كونت للدفاع عن الوطن وكان في اختصاصه ثلاث وزارات المعارف العامة والأديان والفنون الجميلة وحدث له بعد حصار باريس خلاف شديد بين الحكومة وبين وفد بوردوه فان غمبتا كان يريد أن يقصي عن انتخابات الجمعية الوطنية كل رجال العهد الإمبراطوري وقد وكل إلى جول سيمون أن يلغي أوامر غمبتا بحجة كونها مقيدة لمبادئ الحرية العامة في الانتخاب فحدث شقاق شديد بين وفدبوردو وبين غمبتا أدى إلى استقالة هذا الأخير وانتخب جول سيمون بعد ذلك عضواً في الجمعية الوطنية عن مقاطعة المارن ولما شكلت وزارة تيير اختاره وزيراً للمعارف (1871) (متلو)