انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 26/الشرائع الاجتماعية والسياسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 26/الشرائع الاجتماعية والسياسية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 4 - 1915



في الإسلام

يقول الدكتور جوستاف لوبون: إن الشرائع الاجتماعية والسياسية تختلف باختلاف الممالك والشعوب، وما يصلح منها ويستقيم في الأمة الواحدة قد لا يصلح ولا يستقيم في الأمة الأخرى، وما يقع موقع القبول منها في شعب قد ينزل منزلاً سيئاً مكروهاً في شعب آخر، وهذه الحقيقة تحتاج ولا ريب إلى عدة من الأمثلة والشروح لأنها لا تدخل سريعاً على العقل، ولا تنساب إلى الفهم، فقد يعترضها ما يبدو لأول وهلة حقيقة جلية مقررة، وهو أن الشرائع التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم خليقة ولا شك بأن تصير للإنسانية جمعاء مثالاً حسناً ونموذجاً طيباً مقرراً، ومن ثم فليس أحكم ولا أسد ولا أرشد من اختيارها لأمة أخرى، حتى وأن استوجب نشرها القوة والإكراه. . . وهذا هو الرأي الذي ظل زماناً طويلاً يجري في أذهان السياسيين والمؤرخين، ولا يزال يأخذ به حتى اليوم سوادهم.

ولكنا قد بدأنا نتبين ما وراء هذا الرأي وأشباهه من الأخطار والأضرار، ونحن لو تعمقنا قليلاً في دراسة حياة الأمم والشعوب، لوجدنا أن شرائعهم ليست إلا خلاصة عواطفهم وحاجياتهم الزمنية الموروثة التي خلقها ماض طويل بعيد وأن ليس من الهين أن نهذبها أو ندخل عليها من الإصلاح ما نشاء ونريد. . . وقد يقول لنا المؤرخون أن بعض المتشرعين أمثال موسي وليكروجوس وصولون ونوما وغيرهم قد سنوا لشعوبهم شرائع لم تخرج كل قطعة منها إلا أدمغتهم، ولم تكن إلا وليدة ابتكارهم ونتاج أذهانهم ولكنهم لو تبصروا لعلموا أن هذه الشرائع لم تكن في الحقيقة في شيء من ذلك، وأن ليس في الأرض كلها متشرع واحد يملك في يديه مثل هذه القوة العظيمة وأن أشد الفاتحين صولة وحولاً، وأن أعظم الانقلابات هدماً ونسخاً لم تستطع أن تعمل بهذه القوة إلا زمناً غير طويل، ونحن قد نستطيع ولا ريب أن نكره أمة على أن تأخذ زمناً ما بطائفة من الشرائع المختلفة جد الاختلاف عن شرائعها التي تعيش عليها كما نستطيع أن نريد حيواناً على أن يتخذ شكلاً من الحياة يخالف طبيعته وغريزته، ولكن سرعان ما يعود الماضي إلى نصابه، إذا رفعنا يوماً هذا الضغط، وأن الشرائع القديمة في الأمة لم تتجدد ولم تتحول ولم تتبدل وإنما جعلت تعود إلى الظهور وفي كل حين تحت أسماء جديدة، ولم يحدث ثمت أدنى تغير إلا ف الأسماء والمصطلحات والموصوفات.

وقد يبدو لأول وهلة أن هناك عدة من الحوادث التاريخية، تناقض كل ما قدمنا ولكنا لو تعمقنا في دراستها وبحثها لم يلبث هذا التناقض الظاهر أن يزول، فقد يظن أن العرب مثلاً قد نشروا شرائعهم التي اشترعوها في شعوب تختلف عنهم كل الاختلاف ولكنا لو درسنا الأمم الأسيوية والإفريقية التي بسط العرب فوقها عقيدتهم وملكهم لرأينا أن الشرائع الداخلية في أكثر هذه الأمم لم تكن تختلف بعضها عن بعض إلا قليلاً جداً، وأن القرآن في الأحوال التي كانت تختلف فيها شرائع العرب عن شرائع الأمة المغلوبة اختلافاً جوهرياً، كالشرائع التي كانت عند المغاربة مثلاً، ولم يستعمل إلا نفوذاً ضعيفاً، غير مكره ولا قاهر، ولقد كان العرب أعقل من ساسة هذا العصر وعلمائه فعرفوا أن شرائعهم لن تلائم جميع الممالك التي فتحوها فأخذوا دائماً على أنفسهم أن يبيحوا الأمم المهزومة البقاء على شرائعها والاستمساك بأنظمتها وآدابها وعاداتها ومعتقداتها.

ولما كانت الشرائع - كما قدمنا - هي المعبرة عن حاجيات الأمة وعواطفها فما كانت لتتغير إلا إذا تغيرت هذه الحاجيات وهذه العواطف نفسها، وقد أظهر التاريخ أن تطور الحاجات والعواطف لا يكون إلا بعد سلسلة متطاولة من الطوارئ الوراثية والإحساسات المتعاقبة المتلاحقة، وهذه لا تكون إلا بعد تراخ من الزمن طويل، فإن بين البرابرة الذين أغاروا على الدولة الرومانية وبين أخلافهم وأعقابهم في النهضة العلمية فرقاً عظيماً، ولكن هذا التطور العظيم لم يحدث إلا بعد أن انصرف ألف عام، ومن ثم يتقرر أن النواميس التي يجري عليها تطور جميع الكائنات الحية هي نفسها التي يجري عليها تطور الشرائع الاجتماعية فإن بعض الحيوانات الحية التي كانت تعيش في أعماق الماء، في العصور الجيولوجية الأولى قد انتهت على ممر الزمن بأن اكتسبت الحواس والأعضاء الضرورية التي استطاعت بها أن تعيش في الهواء.

إن العوامل الهامة في تكوين الشرائع هي طبيعة الشعب، ثم الوسط، ثم وجوه المعيشة وأساليب الحياة، وطائفة أخرى من العوامل، أهمها الضرورة، وآخرها رغبة الناس، وللزمن وحده القوى الكبرى على تحديد هذه جميعاً، فإذا رأينا أمة تعيش على شرائع ظلت عليها الدهر الأطول، فلنا أن نقرر أن هذه الشرائع هي أشد الشرائع ملاءمة لها واتساقاً مع عواطفها وحاجاتها، وإذا كانت الحرية تصلح لبعض الشعوب فإن الأنظمة الجافة الصلبة التي يسنها الفرد المطلق قد تكون أفضل منها وأجدى على شعوب أخرى، ونحن خلقاء بأن نقتنع بهذه النظرية، حتى لا نتصور أن الشرائع التي استطاعت مجهودات القرون الطوال وتطوراتها أن تلائم بينها وبين حاجات إحدى الأمم، يمكن أن تطبق على حاجات أمة أخرى، إذ ليس من السداد ولا من رجاحة العقل أن تكره السمكة على أن تتنفس في الهواء، بحجة أن التنفس الهوائي عام بين الحيوانات، فإن في الوسط الذي تجد فيه ذات الثدي الحياة، لا تجد فيه السمكة إلا الموت.

وإن التراخي الزمني الطويل الذي تتكون فيه شرائع الأمم وتتطور يجعلنا لا نشعر بهذه التطورات إلا عندما يتصدى لتقريرها مشرع عظيم، ونحن ننسب دائماً إلى المشرع العظيم إنشاء الشرائع وخلق القوانين، على حين أنها في الحقيقة لم تكن إلا نتيجة فعل داخلي طويل، وليس للمشرعين من عمل حقيقي إلا أنهم يقررون للأمة عادات وآداب قررها شعور الأمة من قلبهم بعض التقرير، وينسخون ما أصبح منها عقيماً أو سيئاً أو ضاراً ولكنا لا ننكر أن لهم تأثير في الأمم هاماً عظيماً، ولكن تأثيرهم هذا مقصور على تقرير التغيرات لا ابتكارها، وليس لابتكارهم في الشرائع إلا أثر طفيف ضعيف. فهم حريون أن يقولوا قول المشرع صولون إني لم أعط الأثينيين خير ما يكون من الشرائع، ولكني أعطيتهم خير ما يستطيعون احتماله منها على أن هذه الشرائع الصالحة التي جاءهم بها صولون لم يستمدها من ذهنيته، بل من العادات والشعائر والآداب التي كانت إحساسهم ومعتقداتهم ورغباتهم قد شرعت من قبله في تقريرها.

كذلك كان شأن محمد، فقد عرف كيف يختار من بين شرائع العرب القديمة، شرائع كانت خيراً منها وأجدى على الأمة، ثم عمد إلى شرائعه التي اختار فكفل لها من سلطانه الديني ضماناً قوياً، على أننا لا نستطيع أن نقول أن شرائعه هدمت جميع العادات والشعائر التي كانت للعرب قبله، إلا إذا قلنا أن قوانين الاثني عشر لوحة قضت على جميع القوانين القديمة التي كانت عند الرومان، وإذا كان قد عرض للنبي أن يقضي على شيء من العادات القديمة، كوأد البنات مثلاً، فقد جاء تحريمه إياها تعبيراً عن رغائب وعواطف كانت قد بدأت تنتشر بينهم وتسود، ولهذا لم يلبث تحريمه لها أن وقع منهم موقع الاحترام والقبول.

وعلى هذا نقول أن شرائع محمد، - من الوجوه التي لا تتعلق بالدين - ليست إلا مقتطعات من شعائر وعادات كانت قديمة بين العرب، وهذا الشرائع المحمدية - ككل الشرائع الأخرى - تظهر لنا الحالة الاجتماعية التي كانت تعيش عليها أمة العرب، وإذا كانت كتب التاريخ لا تتعرض غالباً لدراسة شرائع الشعوب، فإن من الهين أن نخرج من معرفة الحاجات التي دعت إلى اشتراع هذه الشرائع، والأمور التي حرمتها، وتلك التي أباحتها، برأي صحيح عن الحالة الاجتماعية التي ولدتها.