مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/اعترافات سكير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/اعترافات سكير

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1913



ليس في مناحي الأدب وأبوابه منحى أشد تأثيراً وأعظم وقعاً في نفوس القراء من ذلك المنحى المعروف بالاعترافات، ولقد صدق الشاعر بوب حيث قال: أن أصدق بحث في شؤون الإنسانية هو البحث في شؤون الإنسان: أو ليس معنى الاعترافات أن الكاتب يستقبلك بين ثنايا ضميره. ويرحب بك في أعماق سريرته. ويقبل عليك بأسراره ويفتح لك صدره لتطلع إلى خباياه وأخباره. إن كاتب الاعترافات لا يكتب للساعة التي هو فيها وإنما يكتب للعصور والأجيال. ولا يخاطب رجلاً واحداً وإنما يخاطب الجميع.

وكتابة الاعترافات على نوعين، فالنوع الأول بدأ به روسو فالتزم فيه الحق، ولم يستعن فيه بأبواب الأدب. فكان مطلع اعترافاته.

إذا نفخ في الصور. وقام يوم الحساب. سأذهب وكتابي هذا في يدي. فأمثل في خضرة الملك الأعلى. فأقول عالي الصوت. أي ربي هذا ما صنعت. وهذا ما فكرت وهذا ما كنت. لقد كنت في قول الخير صريحاً كما كنت في قول الشر. لم أقتل من الشرور شراً. ولم أضف على الخيرات خيراً

والنوع الثاني نحاه جوت. فلم تكن له شدة روسو. ولك تكن له صراحته بل جنح فيه إلى شاعريته. واستعان فيه بمخيلته.

ونحن نقدم لقرائنا هذه الاعترافات التي كتبها الكاتب الفكه شارلز لام. فلم يلتزم فيها النوع الثاني كل الالتزام. ولئن بدا في اعترافاته شيء من الأدب والفكاهة. فلا يكون ذلك إلا راجعاً إلى شخصية الكاتب وروحه.

وأن في هذه الاعترافات لعبرة وتذكرة لشاربي الخمر. المكثرين منها والمقلين.

لا حديث للمقلين من الشراب. الصادفين عن الخمر. الراغبين عن الراح إلا النصح للمكثرين باجتنابها. وحث المدمنين على احتوائها. وحضهم على كرهها. ولقد صادفت أحاديثهم وعظاتهم اعجاباً كثيراً. واستحساناً كبيراً. لدى معاقري الماء القراح.

أما المريض الذي له ينصحون. والعليل الذي يطلبون له الشفاء من برحاء العلة، فما بلغت ضوضاؤهم مسمعيه. ولا طرقت أصواتهم أذنيه. أما وقد عرف الداء. فقد ذل الدواء. وهو فليمتنع المكثرون!

وليس ثمت قوة تكره المرء على رفع الكأس إلى شفتيه. وليس من سلطان في الأرض يجعل المرء يدني القدح من فمه دون إرادته. وامتناع الناس عن الشراب أمر هين سهل. كالامتناع عن قول الكذب. واجتناب السرقة والانتهاب.

ليس من طبيعة اليد أن تسرق. ولا من شأن اللسان أن يحمل أفكاً. أو يشهد زوراً. أو يقول بهتاناً. وأن زجرة واحدة من الإرادة المهذبة. تكفي لرد اليد عن متاع الناس. وكف اللسان عن الرتع في لحومهم. وتقول الزور والبهتان.

هين على لسان الكاذب أن يخف للحق خفته للباطل. ويبتهج بقول الصدق ابتهاجه بقول الكذب. الذي اعتاد أن ينثر بذوره. وينثر أخاديعه وأحابيله.

ولكن إذا راح الإنسان مدمناً، وغدا في الحياة سكيراً. . . فعلى رسلك. أيها الأخلاقي، الشديد الأسر، المجتمع الخلق القوي الأعصاب، المنيع الرأس، السليم الكبد، ولا تعجل، ولا ترفع عقيرتك لما كتبت، قبل أن تعلم دخيلة الأمر، (وتستطلع) طلع الداء، فإنك ستمزج، إن علمت، بكراهيتك للرجل الرحمة له، وتخلط باشمئزازك من حاله الحدب عليه، وتعارض أنفتك منه بالرأفة به، وهوناً ولا تمش على أطلال المسكين، ولا تطأ بقدميك بقايا الرجل. ولا تكرهه - وهو في مثل عذابه وآلامه_على إحيائه من حالة موت. أشبه بالحال التي لم ينشر منها لعازر إلا بمعجزة.

لو كنت بدأت بتطبيبه. قبل إدمانه. لأفلج الله سهمك. ولكن ليس لك بعلاجه يدان، وكان بدء شرابه كخوض في مستعر النيران. وماذا يجدي القول. وأجهزة الجسم لا بد من أن تتغير تغيراً شديداً يشبه التغير الذي نشهده في أجسام بعض الهوام والحشرات، وماذا ينفع الوعظ. وبدن المريض يسام عذاباً. لا يقل عن عذاب الذي يسامه الحي الذي يغري أهابه. ويسلخ جلده. وأين الاستسلام لهذه العذابات من الإقبال على تلك الشرور التي لم تؤثر في جسم المقبل عليها تأثيراً يصبح من ضرورياته. ولم تغيره تغيراً يعود من لوازمه. ولم تستول على جسم رهينها وروحه؟

لقد عرفت سكيراً في هذه الحال. حاول أن يكف عن الشراب ليلة واحدة. بعد ما فقدت الصهباء لديه تلك النشوة التي كانت تأتي بها. وخلت الشمول من تلك البهجة التي كانت تحدثها، بعد ما وثق من أن الخمر لن تذهب بشجوه بل تثيره. ولن تضع عنه همه بل تزيده، أجل. لقد عرفته في شدة صراعه. ومحاولته التخلص من ميله إلى معاودة الكأس.

ومراجعة الشراب. يصيح من ألم. ويصرخ من عذاب.

ومالي لا أقول أن ذلك السكير الذي عنه أحدثكم هو أنا، ولا عذر أتقدم به إلى الناس ولا شفيع، بل أنا الذي جررت على طبيعتي هذه النكبة النكباء.

أني اعتقد أن هناك أجساماً قوية. ورؤوساً منيعة، ومعداً حديدية، لا يضيرها إدمان على شراب، ولا يؤذيها اعتياد اصطباح واغتباق، ولا أثر لمعتق الراح، ومصفق النبيذ، وأن جرع أصحابها منها كؤوساً، واشتفوا منها أقداحاً، إلا أن ترنق مشاعرهم، وتكدر مداركهم. ولعلها لم تكن يوماً في صفاء.

لا أريد هؤلاء بحديثي. فالحديث لديهم هباء مضيع. بل أنهم ليضحكون من أخ لهم ضعيف، رام أن يوازن قوته بقوتهم، ويقارن شدته بشدتهم، فرجع من معمعة الكؤوس مذموماً مدحوراً؟ بل عبثاً أريد أن أنصح لهم. وباطلاً أطلب أن أحذرهم خطر الإدمان. وعقبي الإكثار.

بل أسوق الحديث إلى فئة غير فئتهم. وشرب ليسوا من حزبهم. إلى الضعفاء والعصبيين. إلى أولئك الذين يحسون بأنهم بحاجة إلى مقو خارجي يرفع أرواحهم في المجتمع إلى مستوى أرواح الناس، ويكسبهم البهجة التي يرونها بادية على وجوه الجماعة.

ذلكم هو سر جنوحنا نحن الضعفاء إلى الخمر. وتلكم حكمة ميلنا إلى الشراب.

منذ اثنتي عشر سنة. كنت قد أتممت الربيع السادس والعشرين. ولقد عشت منذ تركي المدرسة إلى تلك السن في معزل عن الناس. لا صحب لي إلا كتبي. وإلا رفيق أو رفيقان من عشاق الكتب ورواد العزلة. وكنت أبكر في صحوي وفي نومي. ويخال إليّ أن المواهب التي أتمها الرحمن عليَّ لم تترك فيَّ لتصدأ.

وحوال ذلك الحين وقعت في غمار أصحاب ليسوا على شاكلتي، وليسوا من طبيعتي، رجال ذوو أرواح متقدة مضطربة. ونفوس مهتاجة مستعرة. سهر ليال، وحلفاء أسمار. يقيمون الليل في نزاع وجدل. ويقطعونه في نشوة وثمل. على أن فيهم مخائل نبل. ودلائل كرم. وديباجة شرف.

كنا ننتدي بعد هدأة من الليل سامرين. ونجتمع ضاحكين ماجنين. وكان نصيبي من سعة المخيلة أربي على أنصبة نداماي. وأجزل من أقسام أصحابي. فكنت أرمي بالنكتة فيصفقون لها. وألقي بالمزحة فيعجبون بهاز فلم ألبث أن رحت بينهم مزاحاً صناعاً وغدوت فيهم منكتاً بارعاًز والحال أني أقل الناس استعداداً للمجون، وأبعدهم عن المزاح. لعي يصيبني إذا أردت كلاماً. وحصر يلازمني إذا رمت حديثاً، وعارض عصبي يبدو على إذا تكلمت.

أيها القارئ إن كنت عصبياً مثل. فنشدتك الله كن كيف شئت. ولكن حذار أن تصير مزَّاحاً. فإذا جنحت بك شهوة للنكت. ونزعت بك نزعة إلى المزاح. ورأيت الخواطر تهجم عليك، وشهدت طريق الأفكار تتنازعك، وإزاءك كؤوس وقوارير. فاجنب نفسك شرها، واحذر ويلها، حذرك أفجع النكبات. وأخش ضرها، خشيتك أفدح المثلات. فإن لم تستطع أن تستحق سلطان مخيلتك، فانزع بها منزعاً قصداً، وارسلها في غير هذا المنحى، أكتب مقالاً، أو أنشئ فصلاً، أو دبج وصفاً، ولكن حذار أن تطاوعها، فتكتب كما أكتب الآن، والدموع تنحدر على خديك، وشؤونك تفيض فوق وجنتيك.

وأن تكون موضوع رحمة الصديق، ورهين سخرية العدو، وأن يلحظك الغرباء، بالعين النكراء، وأن تروح مطمح أنظار السخفاء، وملقى أبصار الأغفال السفهاء، وأن تظن غبياً، في حين لا تستطيع أن تكون ذكياً، وأن يصفق لذكائكن ويهتف لظرفك، على حين وثقت من غباوتك، وتبينت في نفسك برود نكتتك. وأن تدعي للمزاح، وما بك من مزاح، ويطلب إليك المجون وما بك من مجون. ويغرر بك. ليسخر منك، وأن تنطلق تطلب للناس الفرح، فتجر عليك أشد البغضاء، وتنبعث تبحث عن اللهو فتعود بأعظم الشحناء، وأن تمشي إلى الناس بالسرور. فيؤجروك شراً ويهمزوك حقداًز وأن ترهن أصباح آلام من أجل إمساء جنون، وتضيع فسحت زمانك، وخلوات أيامك، لتؤجر عليها نزراً من تصفيق. وقليلاً من أعجاب - تلك هي الأجور التي تنالها على مزاحك. والجعول التي تعطاها على موتك.

ولكن الدهر. له ضربة صدق تنقض كل رابطة لا يمسكها إلا سبب مثل الخمر واه، كان أحنى عليّ من نفسي، وأعطف علي من حزمي، فرفع عني غطائي، فابصرت بأخلاق صحبي. وشاهدت خلالهم، فمضيت عنهم. وانصرفت عن ندواتهم. واحتجبت عن سمرهم. ولم يبق لهم عندي إثارة ود. ولا أثر عهد. إلا شروراً أخذتها عنهم. وإلا عادات تلقنتها منهم. ما برحوا على تلك الشرور متوفرين. وما زالوا بتلك العادات قائمين.

ولم ألبث أن كان لي أصحاب غيرهم. أناس أهل فضل مضمر ومشهود. وقدر باطن ومعدود. ولئن بدا لي أن تعرفي لهم قد كان شراً على وويلا. فلا أدري أن يقضي الله أن تعود حياتي سيرتها الأولى. هل استطيع أن أفر من أذى ودهم. متنازلاً عن مغانمه. مضيعاً مرابحه.

لقد جئتهم يعلوني لهب أبخرة الصحبة الأولى. فكاد أقل وقود يدفعون به إلي كافياً لإشعال ناري. لأرود بها حالة أخرى.

ولم يكونوا حلفاء مدام. ولا جلساء ندمان. بل كان فيهم إثنان بالتبغ مولعان. الأول من عادة لزمته. والآخر من عادة ورثها عن أبيه. وكأنما تخير الشيطان للموجع من ذنبه. التائب من إثمه. أحسن الأحاييل لأيقاعه. وأخدع الأشراك لاصطياده. وكأني كنت بانتقالي من تجرع كؤوس تلك النار السائلة. واشتفافي أقداحاً لها وعساسا. إلى نفخ ذوائب من دخان التبغ. أخدع الشيطان وأتغفله. وأكيد له وأماكره.

ولكن الشيطان يظلم لنا إذا أردنا خلوصاً من شديد العقاب إلى خفيفه. ومن مبرح الألم إلى طفيفه. وأنه ليسعفنا إذا أردنا من آلامنا بديلاً. وإننا لنطلب الإنصراف عن منقصة لنا قديمة، إلى معجزة، فيكيل لنا الكيل كيلين. ويلزمنا منها ضعفين. وكذلك أقبل على شيطان التبغ. يسعى وراءه سبعة شياطين. كلهم ألعن منه. وكلهم أعظم شراً.

ولولا أني أشفق من سأم القارئ. لتنقلت معه بين الحالات التي اعتدت. والعادات التي التزمت. من ولع بالتبغ والجعة. إلى تدرج في معاقرة خفيف الشراب. ومن أقبال على المشعشعة بالماء. الشديدة السورة. إلى شرب خمور ممزوجة تحتوي مقداراً كبراً من خمرة (العرق) أو من سم شبهها. وكنت أقل من مزاجها حتى صرت أجرعها صرفاً.

بل أني لأعنت القراء. وأخشى أن أكون عندهم غير مصدق. لو قصصت عليهم فعل التبغ وتأثيره. وأنبأتهم باستسلامي لسلطانه. وذلتي لمفعوله. كيف أني وكنت أشعر بعد اعتزامي الخلاص منه. وإجماعي على الخروج عليه. أن في ذلك جحوداً لنعمته. وكفراناً بصداقته. وخيانة لعهده. وكيف كان يقبل علي يسألني حقاً ضيعته. ويمشي إلي يطلب وداً صرفته. وكيف كنت أنكب على إصرار الأسابيع على مقاومته. إذا التقيت بذكره اتفاقاً في رواية، أو قرأت له عرضاً وصفاً في كتاب، وكيف كان يتمثل لي بعد منتصف الليل خياله، ويتراءى لي شبحه، ويلزمني حلمه، حتى ألجأ إلى تحقيقه، وأعمد إلى إرضائه، وكيف كان متصاعد دخانه، ولطف رائحته ولذات شربه، تنزع عني ألم غيابه. وتزيل عني برحاء عتابه، وكيف أشعر الآن وأنا أعترف بالقصة كلها، وأقر بحقائقها المروعة. أن بيني وبينه رابطة شديدة، وعلاقة ليس في وسع القلم وصفها.

سيعرض على قولين كأنه صورة مبالغ فها، جماعة لم يعتادوا البحث في دواعي أفعالهم، ولم يشهدوا سلاسل العادة وأغلالها، ولم يرسفوا يوماً في أسار عادة غلابة، لا عاصم اليوم منها. وملا مهرب من أسرها. كتلك التي في أغلالها سلكت. وأنا اليوم من ويلاتها اعترفت. ولكن أين المفر. من أسر لم تجد فيه عظات الخلصاء. ولا عولات الزوج. ولم يغن عنه شقاء الحياة. ولا نكد الدنيا. بل كم من بائس. لم يكن نزاعاً بطبيعته إلى الشر. ولم يكن رغاباً بسجيته عن الخير. دفع به العادة إلى الكأس والغليون.

شهدت صورة لكوريجيو. رسم فيها ثلاث نسوة وقفن أزاء رجل مقيد في جذع شجرة. أولاهن (اللذة) تعزبه وتبهجه. وثانيتهن (العادة) تسلكه في غصن الشجرة وتربطه. وثالثتهن (التوبة) تضع حية بجانبه. ويبدو على وجه الرجل بصيص من بهجة. ويظهر عليه انصراف إلى ذكرى الماضي عن الشعور بلذائذ الحاضر ومناعمه وابتهاج بالشر. واستخفاف بالخير. وتخنث أشبه بتخنث أهل صباريس. ورضى بالأسر. واختلال في الإرادة كاختلال أداة الساعة. وجمع بين اللذة والألم. وندامة بعد اقتراف. وتوبة ولا انصراف.

فلما رأيت كل ذلك عجبت بمهارة المصور وحذاقته. ولكني رجعت فبكيت نفسي. وعدت فرثيت لحالي.

لا أمل لي في تحول أمري. ولا رجاء عندي في انصراف بليتي.

وقد اصبحت غريقاً في لج نكبتي. وأني لأصيح. لو يسمع الغريقُ النداء. بأولئك الذين وضعوا رجلهم في سيلها العرم. وألقوا بأنفهم في لجها المتقاذفز ولو شهد حالي ذلكم الشاب الذي لذته أول كأس علها. وارتاح لطعم أول خمرة ذاقها. فرأي كأن مناظر الحياة تجلت لعينيه، ومثلت أمام ناظريه، وأحس كأنه قد دخل جنة اكتشفها، وخطر في دروب روضة لقيها، ولو استطاع أن يفهم ألم السكير وعذابه، إذ يشعر بأنه مرتطم في هاوية سحيقةن بعينين مبصرتين، وإرادة متخاذلة، ويرى الويل دافعاً إليه، ولا قوة له على رده على حين يعلم أنه محدثهن ويشهد روحه خلاء من الخير ونفسه قد ذهب عنا التقى، وهو لا يستطيع أن يتناسى زماناً كان قلبه بالخير فياضاً، وروحه بالتقوى مترعة.

ولو رأى ذلكم الشاب عيناً لي محمومة، من أثر شراب الليلة الماضية، وشهد شوقاً بي إلى رجعها، وولعاً بعودها. وميلاً إلى تكرارها. ولو رأى جسمي المهزول. وسمع صحاتي وعولاتي. لما وسعه إلا أن يقذف بالكأس إلى الأرض. عزة وأباء.

ورب قوم يعترضونني سائلين. إذا كنت هكذا تمتدح الرغب عن الخمر. وتريدنا على أن نفهم فهمك. ونرى رأيك. ونشعر بشعورك. وإذا كانت لذات العقل في سكونه. ومبهجة الرأس في هدوئه. خيراً من الاحتدام الذي تصف. والحرارة التي منها تتأوه. فما يمنعك أن ترجع إلى كراهيتك الخمر. وما ضرك أن تعود إلى رغبتك عنها. وإذا كانت النعمة تستحق الحرص عليها والاحتفاظ بها. فماذا يمسكك عن استردادها وماذا يؤخرك عن العود إلى احرازها؟

لى والله لو أنني بأمنيتي أعود إلى أيام الصبا. وزمان الشباب. أيام كانت نهلة من العين الصافية الصادرة. تكفي لشفاء غلتي. وإرواء ظمئي. هناك حيث شمس الصيف وملاعب الحداثة توقد الأجسامز وتحدث الغليل.

أي ماء تلك العين. أي منهل الأطفال والزهاد. ما أشوقني إلى الرجوع إليك. وما أبهجني بالعل من نميرك. والنهل من سلسالك. أني لأتمثلك في أحلامي. وأتخيلك في علالات آمالي. وعذب ماءك يبرد لساني المحترقز وقلبي الصديانز وجوفي الملتهب. ولمعدتي المتيقظة في الأحلام تمجه. وفمي المتقد يعافه.

ولكن أليس لك من سبيل قصد وطريق وسط بين جد الامتناع وهذا الإكثار القاتل؟

إليك أيها القارئ. حتى لا تبلغ يوماً إلى مثل حالتي. وحتى لا تخبر من هذه النكبة خبرتي. وتجرب من هذه البلية تجربتي. أسوق الحقيقة الهائلة. وهي أني لم أجد يوماً بين الحالتين طريقاً وسطاً!

إن الإقلال من الشراب عن ذلك القدر الكافي لتهميد جسم السكير وإرسال النوم إلى عينيه. ذلكم النوم الذي يحكي الخمود في سكونه. لا يُغني عنه شيئاً. وأني أوثر أن يصدقني القارئ على أن يدع معرفة ذلك إلى تجاربه. بل وف يعلم الحق إذا بلغ يوماً إلى تلك الحال التي يرى فيها أن التفكير لا يعوده إلا وهو منزوف نشوانز ولا تأتي إليه الخواطر سراعاً إلا وهو ثمل سكران.

والحق المروع المخيف. هو أن الإدامن على الشراب ينقل المواهب العقليةز من دائرتها الطبيعيةز ويسلبها نشاطها. ويحرمها عملها. حتى لا تعمل إلا بمعاودته. ولا تسترد نشاطها إلا بمراجعته. وأن السكير ليفقد نفسه في ساع صحوهز ويتجرد عن روحه في أوقات أفاقه. وأن في الأذى لخيراً له.

فأنظر في الآن أيها القارئ وأنا في غلواء الشباب. وروق العمر. قد عدت أبله ممروراً. ورحت ضارعاً مهزولاً. وأسمعني أعد الأرباح التي جنيتها من كؤوس الليل. والفوائد التي اكتسبتها من أقداح السحر.

كنت منذ أثنتي عشر سنة صحيح العقل. سليم البدنز ولم أكن مرير القوى. بل أني لأظن أن جسمي كان في نجوة من الأمراض. ولم أكن أعرف الشراب ولا احتساءه. ولم أكن أعرف الخوان ولا أصحابه.

أما الآن فلا يفارقني الألم. إلا إذا فقدت نفسي في بحر من الشراب.

كنت في صيفي وشتائي أصحو من نومي. قبل أن تؤذن الساعة السادسة صبحاً. كنت أقوم ناعم البال. منتعش القوىز لا تكاد تغيب عني عذب الخواطر وبهيج الأفكار. ولا تكاد تفوتني نجوى لليوم الوليد. أو أنشودة للصبح المشرق. أو أغنية للضحى الساجي. واليوم أنفض عني ساعات الرقاد. وأنا ضائق الذرع باليوم المقبل. يسعى في أثره العناء. ويماشيه الجهد والشقاء. وأنا منتفخ السحر بمقدمه. أود لو أني أستطيع ملازمة الفراش. وأوثر أن يطول بي أمد الإغفاء.

وأن لحياتي في اليقظة ما في مخيف الأحلام من متعبة وتردد واضطراب. وكأني في غداة اليوم أتعثر بربى مظلمة وجبال.

أما في عملي. ولم يكن ملائماً طبيعتي جد الملاءمة. بل لحاجة ينبغي أن تنفذ. وضرورة يجب أن تنجز. بل يستعان على قضائها بالابتهاجز ويستنصر في إتمامها بالفرح. فقد اعتدت أن أبدأه في سآمة وتبرم. وأصبحت اليوم أجد فيه عناء. وألقي منه رهقاً. وأشهد منه عسفاً وتكلفاً. وأستعين عليه في مخيلتي بأنواع التثبيط. وأعتصم منه بضروب التخاذل.

بل أن أتفه مهمة يدفع بها إلىّ صديق. وأي واجب أريد أن أنجزه لنفسي. كتوصية تاجر بعمل يء، أو شبيه ذلك، ليتمثل لي عملاً شاقاً يستحيل عليّ إنجازه، وهكذا اختلت فيّ أداة العمل.

ولقد صحبني هذا الجبنن ولازمني هذا الخور، حتى في معاملتي الناس ومواعدتهم، وحتى في معاهدتهم وموالاتهم، فلا أجسر أن أفي بعهد مسؤول، أو أصون ذماماً يجب أن يصان، أو أرعى آخية ينبغي لها أن ترعي، وهكذا مات سلطان الفضيلة فيّ.

ولقد كانت لي في زمان التصابي منازع فتولت. وكانت لي في الأيام الماضية ميول فذهبت. وأصبحت لا يذل لي عمل. ولا يهون لدي شغل. بل أني لأجد في الأشتغال برهة من الوقت وصباً قاتلاً. ولقد كتبت هذا الاعتراف على مرات كثيرة. وفي فسحات طويلةز وعانيت في جميع شوارد خاطري عناء شديداً.

بل أن تلك الشذرات الرائعة التي كنت أقرؤها في كتب التاريخ أو الروايات الشعرية فأبتهج برشاقتها. وأنعم بحلاوتها. لا تصادف مني الآن عبرة مهراقة. ودمعة متحذرة. ترسلها رقة عاطفة. ويجريها ضعف وكأني بطبيعتي المختلة المهملة تنزوي أمام كل عظيم. وتضؤل إزاء كل جليل.

وأني لأنظر أبداً في بكاء ودموع لأي سبب أو لغير ما سبب. ولا أعلم ما تجمع هذه المنقصة من خجل. وما تدل عليه من تخاذل وضعف.

تلكم بعض عوارضي وحوادثي. وإن أردتم إلا الحق قلت أنها لم تكن كذلك على الدوام أتريدون أن أبعد في رفع الحجاب المضروب بين ضعفي وبينكم. معشر القراء. أم بحسبكم هذه الخاتمة؟ أناني بائس. ومغمور شقيز لا يريد بإعترافاته فخراً. ولا ينشد القارئ. أن كان له فيها نصيب. أو رأى له فيها مساساً.

لقد أنبأته بعقبى أمري. وخاتمة خمري. فليمتنع من ساعته. وليمسك ف حينه. ومن أنذر فقد أعذر.