صفحة:الأمثال العامية- مشروحة ومرتبة على الحرف الأول من المثل (الطبعة الثانية).pdf/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم التّحقّق من هذه الصفحة.
(س)

وكانت الفنون والحرف في تلك الحقبة الغابرة تتفاوت درجاتها في تقدير الناس، منها الرفيع ومنها الخسيس، وربما كان في الصحافة وفن التمثيل أو حرفتهما أبخس الفنون والحرف نصيبًا من حظوة العامَّة والخاصة على السواء، ولعل الجمهور يومئذٍ كان يتخذ من ألقاب السوء والأصغار لقب «الجرنالجي» و«المشخصاتي»… فإن تولَّع بالصحافة أو التمثيل كريم على أهله، تمصَّصوا شفاههم رحمةً لهُ وإشفاقًا عليه!

وحسبي في تجلية ما كان من صنيع أبينا في تربيته لنا، وإشرافه علينا، في تلك الحقبة التي أسلفت وصفها، أن أذكر أننا في منزلنا الذي كنا نأوي إليه، ونحن من أبينا على مقربة ومرتبة، أنشأنا لأنفسنا صحيفة خاصَّة، نصدرها في المرة بعد المرة، وأقمنا مسرحاً للتمثيل، تخرج فيه الروايات واحدةً بعد واحدة. وكنا نحن ومن أخذ أخذنا من الصحب، نتولى في الصحيفة مهمة التحرير والطبع والنشر، كما نضطلع في المسرح بِشئون الإخراج والتمثيل والتفرج والانتقاد!

وامتلك قيادنا على مرِّ الأيام هوى الصحافة والتمثيل، فتعلقنا بهما كل التعلق، وتعمَّقنا فيهما كل التعمق، حتى أن أوسط الإخوة «محمدا» زاول التمثيل في المسارح العامة على أعين الناس، وحتى أننا معاً أصدرنا صحيفة «السفور» خالصة للأدب، منشورة على الجمهور، وبذلك أصبحنا نعد من مُحترفي الصحافة أو أشباه المُحترفين!

وكنا نرى أبانا يمتعض من ذلك شيئاً، ولكن في ترفق واتئاد، وينهانا عن التمادي والسرف، ولكن في غير جزمٍ ولا مصادرة. ويتحيل لتوجيهنا إلى الدرس والاستذكار، دون أن نحس منه وطأة التوجيه ومرارة الإلزام. ولم يكن يقف في طريقنا إلى ما يعده الآباء من لهو الصبا وعبث الشباب، وإنما كان يجنح إلى محاسنة وملاينة، فيناقشنا مناقشة الأنداد للأنداد، ويشير علينا بما يحب ويرضى، تاركا لنا أن نسلك السبيل الذي نختار.

عاش بين التلال من كتبه، فلم يأخذ أحدنا نحن أبناءه بأن يكون معه، يقرأ له، أو يملي عليه، أو يستملي منه، أو يطالع بجانبه، بل يدع ذلك لأنفسنا خاصة، شئناه أو أبيناه، فلم يفرض على أينا أن يحذو حذوه فيما يستن من سنة، وما يرتضي من سلوك…