صفحة:آثار البلاد وأخبار العباد.pdf/3

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
(٢)

بفوايدها وكذلك الإنسان حيوان متساوي الآحاد بالحدّ والحقيقة لكن بواسطة الالطاف الإلهيّة تختلف آثارهم فصار أحدهم عالمًا محقّقًا والآخر عابدًا ورعًا والآخر صانعًا حاذقًا. فالعالم ينفع الناس بعلمه والعابد ببركته والصانع بصنعته ؛ فذكرت في هذا الكتاب ما كان من البلاد مخصوصًا بعجيب صنع الله تعالى ومن كان من العباد مخصوصًا بمزيد لطفه وعنايته فإنّه جليس أنيس يحدثك بعجيب صنع الله تعالى ويعرّفك أحوال الأمم الماضية وما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومآثر الآداب ويفصح بأحوال البلاد كأنّك تشاهدها ويعرب عن أخبار الكرام كأنّك تجالسهم:

جليسٌ أنيسٌ يأمن الناس شرّه
ويذكر أنواع المكارم والنّهى
ويأمر بالإحسان والبرّ والتّقى
وينهى عن الطّغيان والشرّ والأذى

ومن انتفع بكتابي هذا وذكرني بالخير جعله الله من الأبرار ورفع درجاته في عقبى الدار. وأسأل الله تعالى العفو عمّا طغى به القلم أو همّ أوسها بذلك أو لمّ إنّه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. ولنقدّم على المقصود مقدّمات لابدّ منها لحصول تمام الغرض والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.


المقدمة الأولى


في الحاجة الداعية إلى احداث المدن والقرى، اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كسائر الحيوانات بل يضطرّ إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعيّة التي يتوقف عليها المطعم والملبس فإنّهما موقوفان على مقدّمات كثيرة لا يمكن لكلّ واحد القيام بجميعها وحده. فإن الشخص الواحد كيف يتولّى الحراثة فإنّها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجّار، والنجّار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس، وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهيّة الهيئة الاجتماعيّة وألهم كلّ واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدّمات حتى ينتفع بعضهم ببعض فترى الخبّاز يخبز الخبز، والعجّان يعجنه، والطحّان يطحنه، والحرّاث يحرثه، والنجّار يصلح آلات الحرّاث، والحدّاد يصلح آلات النجّار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض.

وعند حصول