امرأة و شيطان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

امرأة و شيطان

​امرأة و شيطان​ المؤلف علي محمود طه


أقسمت لا يعص جبّار هواها
أبد الدّهر و إن كان إلها
لا و لا أفلت منها فاتن
قرّبته و احتوته قبضتاها
قيل عنها أنّها ساخرة
تتحدّى سطوة الجنّ سطاها
و عجوز بالصّبا موعودة
و بعمر الدّهر موعود صباها
حذقت علم الأوالي و وعت
قصص الحبّ و مأثور لغاها
قيل لا يذهب عنها كيدها
غير شيطان و لا يمحو رقاها
و رووا عنها أحاديث هوى
آثم يغرب فيها رواها
و أساطير ليال صبغت
بدماء سفكتهنّ يداها
يذكر الرّكبان عنها أنّها
سرقت من كلّ حسناء فتاها
و قتيل بين عيني زوجه
كلّ معشوق دعته فعصاها
كلما التذت وصالا من فتى
سحرته و هو في حضن هواها
و احتوته في أصيص زهرة
يسرق الأنفاس من طيب شذاها
زهرات مثّلت عشّاقها
بعيون غرقات في كراها
فإذا ما اللّيل أرخى ستره
أطلقت أشباحهم في منتداها
مهجا خفّاقة ملتاعة
و عيون ظامئات، و شفاها
نستعيد بالأمس في لذّاتها
و لياليها، و أشواق رؤاها
تتلوّى بينهم مشبوبة
شهوة يلتهم اللّيل لظاها
عبر الشّيطان يوما أفقها
فرأى ثمّ فنونا ما رآها
أيّ واد رائع أحجاره
تحذر الرّيح عليهنّ سراها
أيّ قصر باذخ في قمّة
تحسب الأنجم من بعض ذراها
و دروب حولها ملتفّة
كأفاع سمّرت في منحناها
و بروج لحمام زاجل
هو بالأقدار يهفو من كواها
ظنّها من عبقر ناحية
أخطأت عيناه بالأمس صواها
فهوى من حالق يرتادها
طرقات زخرف الفنّ حصاها
و رنا حيث رنا اهتاجه
منظر الزّهر الذي زان رباها
أصص من ذهب تحسبها
بعثرت فيها الدراريّ سناها
كلما مسّت يداه زهرة
عطفته لقطاف شفتاها
فجنى ما شاء حتّى لم يدع
في أصيص زهرة إلاّ جناها
و انتشى من عطرها فانتثرت
مثل حبّات من الماس يراها
عجبا ما لمست غير الثّرى!
أيّ نور شاع فيها فزهاها؟
نظرة أو خطرة و اختلجت
فعرته هزّة مما عراها
و استحالت بين عينيه دمى
حيّة تستبق الباب خطاها
فكّ عنها السّحر فارتدت إلى
عالم الحسّ و خفّت قدماها
و رنا الشّيطان في آثارها
سابحا في دهشة طال مداها
يا لها! كيف استقرّت ثم فرّت!
لحظة مرّت و لكن ما وعاها!
و دنا اللّيل، ورنت صدحة
نبّهته، حين لا يبغي انتباها
فإذا مائدة حافلة
بالأباريق ترامى أطرافها
ملؤها الخمرة نورا و شذا
نسمت و ائتلقت فخّارتاها
و صحاف كتهاويل الرؤى
تجد الأنفس فيها مشتهاها
و إذا مقصورة من حوله
خالها تنبض بالرّوح دماها
وقفت غانية في بابها
قد تعرّت غير فضل من حلاها
يا لها من فتنة قد صوّرت
في قوام امرأة راع صبرها
طلعت في هالة من خضرة
و عيون يترقرقن مياها
ثم نادت: يا أحبائي انهضوا
و اغنموا اللّيلة حتّى منتهاها
و تلاشى الصّوت لا رجع صدى
لا، و لا ثمّ مجيب لنداها
فعرتها رعدة، فالتفتت،
فرأته، فتلقّاها و جاها
أبصرت وجها كوجه المسخ لم
يتقنّع، شاه هذا الوجه شاها
و رأت كفّيه يندى منهما
أرج الزّهر فأجّت نظرتاها
عرفت ما اجترحته يده
أو لا يعرف من داس حماها؟
يا لهذا المسخ! دوّت و مشت
صيحة ينذر بالويل صداها
فانثنى الشّيطان عنها صارخا
أتراها تتحدّى؟ من تراها؟
فبدت في شفتيها آية
من مبين السّحر، أو ما فمحاها
فدنت ترمقه فاختلجت
عينه، حين أشارت بعصاها
بدّلت تلك العصا جمجمة
ريع لمّا شرعتها فاتّقاها
هي من ملكة جنّ من تصب
يخترمه بالمنايا محجراها
فتنحّى غاضيا مبتئسا
و تنحّت و الأسى يلجم فاها
و سجى بينهما الصّمت الذي
يتغشّى الأرض إن حان رداها
و التقت عيناهما فاستروحا
راحة من فبلها ما عرفاها
عرفت من هو فاستخذت له
ورأى من هي فاستحيا قواها
قال: أختاه، اغفري لي نظرة
إشتهت كلّ جمال و اشتهاها
و اغفري لي شرّة عارمة
في دمي، لو تأبّى ما أباها
يا لهذا الدّم! ما عنصره؟
كلّ ما في النّار من وقد لظاها
فأجابت: زهراتي ردّها
إن تقل حقا و لا تبغ أذاها
قال: لا أذكر إلا حلما
لحظة ضلّ بها غقلي و تاها
أهي جسم؟ أهي روح؟ إن تكن
لا يردّ الرّوح إلا من براها
فأحسّت هول نا يجهله
فاستحت منه و اغضى ناظراها
صاح: غفرانك لا تبتئسي
أطلبي ما شئت منّي ما خلاها
أ أنا من تتخطّى قدمي
مسبح الشّمس فيربدّ ضحاها
أ أنا من يطفئ النّجم فمي
و أردّ الأرض غرقى في دجاها
و تمسّ القمم الشّمّ يدي
فيرى منحدرا لي مرتقاها
و أجيء الأرض من محورها
فإذا بي يتدانى قطباها
و أصدّ الرّيح عن وجهتها
فتجوب الكون لا تدري اتجاها
أ أراني عاجزا عن درك ما
تتمنّى امرأة!؟ عزّت مناها!
آه ما أضعف سلطاني، و ما
كنت إلاّ بغروري أتباهى!!
قالت: الآن سلاما زائري
و رضى نفسي إن رمت رضاها
أيّها الشّيطان ما أعظم ما
قلته، و ما قلت لغوا أو سفاها
زهراتي تلك، ما كنت سوى
شهوات، جسمي الطاغي نماها
قهرتني، و استذلّتني بها
غيرة، ينهش قلبي عقرباها
و أنانية أنثى لم تطق
فاتنا تملكه أنثى سواها
قد صنعت الحقّ، قد عاقبتني
فارحم المرأة في ذلّ هواها
فدنا منها، فألفت وجهه
غر ما كان، لقد ألفت أخاها!
قرّبت بينهما روح الأسى
فاجتبته بعد حقد و اجتباها
و استهلّت دمعة من عينها
دمعة رفّت و شفّت قطرتاها
ضمّنت كلّ عذاب و ضنى
كلّ ما في النّفس من بثّ أساها
ورآها فتندّت عينه
رحمة، فاحتال يخفي من بكاها
و بكى الشّيطان! يا لامرأة
أبكت الشّيطان لما أن رآها!!