المدينة المسحورة (1946)/الليلة الثانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فلما كانت الليلة الثانية قالت :

... ونرجع يا مولاي بالحديث إلى الفارس الجميل . فنجده قد دار دورة أو اثنتين في دروب الغابة ومنعرجاتها ، مندفعاً كأن قوة سحرية تدفعه إلى وجه غير معلوم ؛ حتى إذا انتهت الدفعة ، المجهولة، ووقف الركب من خلفه، وقف ساهما لا يدرى أين يذهب ولا كيف يروح أو يجيء . ثم إذا به يلوى عنان فرسه ، ويكر راجعاً إلى مكانه . ورجال حاشيته من الخلف لا يفكرون أول الأمر ، ولكنهم ينتبهون بعد فترة إلى اضطراب حركات الملك وإلى أنه يذهب ويجيء في غير قصد مرسوم .

وحينها يبلغ الركب مكان الفتاة والأغنام يتلفت الملك هنا وهناك فلا يجد أمامه شيئاً ، و ينخطف قلبه ويدق دقات سريعة أن يسأل أحداً من رجال الحاشية عن الفتاة التي كانت هنا منذ لحظة ؛ ولكنه يحس بقسوة المراسم وضغط التقاليد.

و يتحول شعوره المكتوم هذا إلى حركة جامحة يدفع إليها فرسه فتشق الطريق في عنف وقوة ، وكأنما هو يخرج بهذا الانطلاق الجامح من ربقة القيود والتقاليد !

و بعد جولات طائشة في دروب الغابة ومنحنياتها، يعود الملك فيلوي عنان فرسه نحو القصر خارجاً من الغابة في صمت مخيف . لم يبق شك في نفوس رجال الحرس أن هناك شيئا ، وأن الملك قد وقع في نفسه شيء ؛ ثم لم يجرؤ منهم أحد على السؤال فسار الجميع خلف الملك الصامت صامتين . ولما ترجل ليدخل قال لرجاله : ليله سعيدة . سأخلو بنفسي ، فانصرفوا أنتم جميعاً . وكان هذا التصرف كافياً ليثبت في نفوسهم ما خالجهم من قبل ، فراحوا يتخبطون في الظنون .

وأمر الملك ألا يدخل عليه أحد في جناحه الخاص إلا حين يستدعيه ، ورأى رجال القصر وحراسه وخدمه ما يعلو وجه الملك من جد صارم ، فأجفلوا في نفوسهم ، وراحوا يتوجسون . وعند ما حان موعد العشاء لم يكن الملك قد استدعى أحداً ولم يكن أحد يجرؤ على الدخول . ومضى الموعد وتوغل الليل وكل من في القصر ساهر ، وكلهم في عجب شديد .

وأحس الملك بالتعب وهو جالس بملابس الصيد منذ أن عاد ویده تحت ذقنه، وهو شارد الفكر ساهم النظرة ينظر بعينيه، ولكن خياله يمتد إلى بعيد، فقام في تثاقل واسترخي على مقعد طويل، وأطلق لخياله العنان يذهب حينا يريد.

وأطل القمر متلصصاً من النافذة في أول الأمر، ثم أعلن وجوده وأحس الملك كأنما هذا القمر يلاطفه ويؤانسه و يستدرجه للحديث، فسرى إلى نفسه الأنس به والارتياح له، وتحركت شفتاه كأنما يهم أن يفصح للقمر عما يريد.

وأحس بشوق غامر إلى أن يخرج إلى الشرفة حيث القمر هنالك يهمس بصوته المسحور، وتختلج خطواته في دبيب لطيف وما إن تجاوز باب الحجرة حتى اشتمله النور، فأحس كأنما يعانقه، فمد إليه ذراعيه في شوق شديد.

كانت الشرفة تشرف على فضاء رحيب يقوم على نهايته طرف الغابة الفسيحة، وسرعان ما امتد نظره إلى الغابة السابحة في ضوء القمر الهاديء اللين، فخيل إليه أن الفتاة الآن هناك في هدأة القمر الحالم، فأغمض عينيه وراح يدب في جوارها : يده في يدها وذراعه تطوقها، وهي تميل برأسها الصغير على كتفه فيتوقفان برهة عن السير، ثم يفتح عينه فيستيقظ و يفيق : إنه هنا في الشرفة وليس هنالك في الغاب المسحور !

وفى الهزيع الأخير أحس أنه منهوك، فألقى بكرة معدنية في طست من النحاس، فانتبه الخادم الحارس مذعوراً، وهرول يلبى دعوة الملك، وحينما واجهه بهت وسمر في مكانه... لقد كان الملك لا يزال في ملابس الصيد منذ الصباح.

قال الملك : في الصباح الباكر أصحو، حيث تكون فرسى مهيأة. ولا يتبعني إلا « حور ».

فأما ساسو فكانت قد أوت إلى فراشها الخشن على القش الذي كان مهيأ لمرقدها في الكوخ، على حين ظل الشيخان ساهر بن يقلبان وجوه الرأي فيما يعتزمانه منذ الغد : فراراً بساسو هذا الخطر المحيق !

استلقت الفتاة على هذا القش لتنام، وإنها لتنام كل ليلة نوما لا حركة فيه، ولاسيما بعد أن عهد إليها برعي الشويهات في الغابة، فالتعب والحركة والهواء النقى والدم الفائر، كل أولئك كان يهتف بها إلى النوم بمجرد أن يصل جنبها إلى المخدع على هذا القش الوثير !

أما الليلة فإن هناك في نفسها أمراً يشغلها عن النوم اللذيذ... إنها لفي شغل باستعراض حوادث الصباح ورؤاه العجيبة... ها هي ذي تجلس على متكأ من العشب الجاف وشويهاتها أمامها ترعى في منفرج من الغابة. وها هو ذا الهواء الدافىء يداعب أغصان الأشجار الباسقة فتتمايل كالنشوان الثمل… ثم ها هي ذي تسمع صهيل الخيل وترى الغبرة الثائرة. وها هي ذي شويهاتها تجفل فترتد إليها كأنما تلوذ بها من هذا الضجيج. وهنا تقف متطلعة ، ثم تتبختر في بضع خطوات… ثم… ثم ها هو ذا الفارس الجميل… إنها لتحس الآن بوقع نظراته الساخنة تخلل جسدها كقشعريرة ، تحس بذلك الخدر اللذيذ المرتعش تحت نظراته و إنها لتتحسس في جسمها الفائر. واضع هذه النظرات فتتمطى، ثم تفتح فاها بتنهدة لذيذة ، ثم يرتد خيالها إلى الغابة فتستعرض المنظر كله من جديد.

وأطل القمر من كوة الكوخ الصغيرة ، فانتفضت من أحلامها الجميلة ، كان هذا القمر يتلصص عليها في خلوتها ، وضمت ساقيها المنفرجتين وذراعيها المتراخيتين… ولكنها ما لبثت أن أنست بهذا القمر الذي يوصوص لها من كوة الكوخ ، وودت لو تخرج من مخدعها إلى الفضاء الرحب ، إلى هذا الانفساح الحالم الفارق في ضوء القمر الشفيف… ودت لو تخرج لتنطلق في هذا الفضاء غير الحدود ، ولتجري وتركض ، بل لتحلق وتطير كهذه الفراشات البيضاء السابحة في ضوء القمر… ولكنها تسمع وسوسة الشيخين كأنما لا ينامان أبداً… وكاد صدرها يضيق بهما و بيقظتهما لك في هذا الأوان… ولكنها كانت في شغل عن الشيخين ؛ ولم تكن أحاسيسها لتستقر لحظة على فكرة معينة؛ فعادت تحلم حلم اليقظان من جديد ، وتستعرض نظرات الفارس من جديد، وتنتظر الصبح في شوق جارف، فالصبح هو الذي يطلقها من حدود هذا الكوخ ! ولم تدر كيف تسلل الناس إلى مخدعها برفق ، فأغمض بأنامله الرفيقة جفونها الساهرة ، ثم تسلل مرة أخرى وتركها للأحلام اللذيذة ، وعلى شفتيها ابتسامة وضيئة ، تشيع في محياها الجميل. وفى الصباح كان أمر الملك قد أعلن في القصر ، وكان حور يتبع مولاه منفرداً كالكلاب الأمين… يتبعه في صمت مطبق ، فالملك لا يعلن وجهته ولا ينطق بكلمة واحدة تهدى إلى اتجاهه. ولكن ها هو ذا يلوى عنان الفرس إلى الغابة ، فيحدس الحارس عما يريد ، ويتذكر حوادث الأمس ، ويستعرضها واحدة واحدة ، ويطيل الوقوف عند منظر الملك الشاب بحادث الفتاة الراعية… ولكن ماذا ؟ إن المعدات لتتخذ لزفاف الملك الشاب على الأميرة المرتقبة…أتراه لا يذكر الموعد والاستعدادات على قدم وساق ؟ !

ودار الملك دورة بالغابة، ثم انطلق يجوس خلالها، ويتفقد منفرجاتها وحناياها، وقد أخذ الرعاة يفدون. والملك يتطلع إلى كل قطيع وافد، و يلاحق ببصره الرعاة في المنعطفات وشيئاً فشيئاً يبدو على الملك الضيق والانفعال، وتتوالى على وجهه شتى الانفعالات، فيركض فرسه هنيهة والحارس وراءه، ثم يقف فجأة، و يلوى بعنان الفرس في اتجاه آخر، كالذي يبحث عن صيد شارد في الفلاة.

وتنقضي على هذا الكر والفر ساعتان، ينهك فيهما الفرسان والفارسان، و يبلغ القلق بالحارس أن يهم بسؤال الملك عما يريد، فلا يجسر على السؤال والملك على هذه الحال… وبينما هو يفكر على هذا النحو إذا بالملك يمرق بالفرس، فيخرج من الغابة كلها و ينطلق إلى تلك الأكواخ المتناثرة على حفافي الغابة، فيخرج منها نسوة مع أطفال في أسمالهم البالية وهيئاتهم الرثة، يتطلعون إلى الفارسين هنيهة في وجوم وذعر، ثم تعلو وجوههم أمارات الرضا والاطمئنان. فالفارسان ليسا من الأعراب الفتاك.

و يجول الملك بعينيه في هذه الوجوه يستعرضها جميعاً… ولكنه لا يجد بينها الوجه الوحيد الذي يبحث عنه في طرقات الغابة ومنعرجاتها، ولوكان يعرف اسم صاحبته لسأل، ولكن ما جدوى السؤال، وقد عاقته أثقال الملك وتقاليده عن السؤال في حينه المناسب، فأفلتت منه الفرصة… ربما إلى آخر الزمان ؟ وأحس الملك أن الدنيا تزم على صدره وتضغطه، حتى ليكاد صدره أن يتمزق، فخبط. جبينه بكفه، وندت من فيه الكلمات بغير حساب !

– لقد ضاعت… ضاعت إلى الأبد. وضاعت معها الحياة ! هنا وجد حور من الجرأة ما يسأل به الملك :

– من هي التي ضاعت يا مولاي ؟

قال الملك :

– الفتاة..

وأدرك حور كل شيء، وأعوزه أن يجد ما يقول ؛ فلقد كان بود لو يذكر الملك بالعرس المرتقب في نهاية الأسبوع، و بالأميرة المنتظرة، وبالقصة كلها… ولكن وجه الملك لم يكن يشجع على شيء من هذا كله. فقال حور على غير قصد منه :

– ربما وجدناها في الغابة يا مولاي !

وأحس الملك أن كوة من الرجاء تنفتح في قلبه ، وتمسك بهذه الكلمات كأنها اليقين الذي لاشك فيه، فقال ـ وهو يلوى عنان فرسه إلى الغابة – :

– لئن كانت هناك يا حور، لتكونن من الغد كبير الحراس !!! وانطلقا.

وأدرك شهر زاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح

***


Public domain هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأن مدة حماية حقوق المؤلف قد انقضت بموجب أحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
مصر
مصر