الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب النكاح/فصل حكم نكاح المتعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل حكم نكاح المتعة


ونكاح المتعة قال في الحجة رخص فيها () أياماً ثم نهى عنها . أما الترخيص أولاً فلملكان حاجة تدعو إليه كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجاراً على مجرد البضع بل كان ذلك مغموراً في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل ، كيف والإستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الباطن السليم . وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات وأيضاً ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأييد في غاية العسر ، فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع فإن أكثر الراغبين في النكاح غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج . وأيضاً فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس انتهى .

في شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة وهو كالإجمال بين المسلمين .

منسوخ فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتاً في الشريعة كما صرح بذلك القرآن فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ولما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال كنا نغرو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل وفي الباب أحاديث . وثبت النسخ من حديث جماعة فأخرج مسلم وغيره من حديث سبرة الجهني أنه غزا مع النبي () فتح مكة فأذن لهم رسول الله () في النساء قال فلم يخرج حتى حرمها رسول الله () وفي لفظ من حديثه وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة وأخرج الترمذي عن ابن عباس إنما كانت المتعة في أول الإسلام حتى نزلت هذه الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وفي الصحيحين من حديث علي أن النبي () نهى عن متعة النساء يوم خيبر والأحاديث في هذا الباب كثيرة والخلاف طويل وقد استوفاه الماتن في نيل الأوطار . ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن سافر فيها رسول الله () وتعقبه موته بعد أربعة أشهر فوجب المصير إليه ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة أنهم ثبتوا على المتعة في حياته () وبعد موته إلى آخر أيام عمر كما زعمه صاحب ضوء النهار . فإن من النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم واستمرار من استمر عليها إنما كان لعدم علمه بالناسخ . وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين من أن تحليل المتعة قطعي وحديث تحريمها على التأبيد ظني والظني لا ينسخ القطعي ، حتى قال المقبلي أن الجمهور لم يجدوا جواباً على هذا فيقال : إن كان كون التحليل قطعياً لكونه منصوصاً عليه في الكتاب العزيز فذلك وإن كان قطعي المتن فليس بقطعي الدلالة لأمرين أحدهما : أنه يمكن حمله على الإستمتاع بالنكاح الصحيح . الثاني : أنه عموم وهو ظني الدلالة على أنه قد روى الترمذي عن ابن عباس أنه قال إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم قال ابن عباس فكل فرج سواهما حرام وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخاً لما هو قطعي المتن ، وإن كان التحليل قطعياً لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر فيقال وقد وقع الإجماع أيضاً عل التحريم في الجملة عند الجميع وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا وكون هذا التأبيد ظنياً لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به . فالحاصل أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني وهو التأبيد . فالناسخ والمنسوخ قطعيان هذا على التسليم ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعياً كما قرره جمهور أهل الأصول ، وأن كنت لا أوافقهم على ذلك .

والتحليل حرام لحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه قال : لعن رسول الله () المحلل والمحلل له وصححه أيضاً ابن القطان وابن دقيق العيد وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق وطريق ثالثه أخرجها اسحق في مسنده . وأخرج أحمد وأبو داود وأبن ماجه والترمذي وصححه ابن السكن من حديث علي مثله . وخرج أبن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله () ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له وفي إسناده يحيى بن عثمان وهو ضعيف ، وقد أعل بالإرسال وأخرج أحمد والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم والترمذي في العلل من حديث أبي هريرة نحوه وحسنه البخاري وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث عمر انهم كانوا يعدون التحليل سفاحاً في عهد رسول الله () . قال في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين رواه أبن ماجه بإسناد رجاله موثقون وصح عن عمر أنه قال : لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما . رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما وابن المنذر في الأوسط وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال كلاهما زان . والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الكلام عليه وأفرده مصنفاً سماه بيان الدليل على إبطال التحليل انتهى .

أقول حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن واللغن لا يكون إلا على أمر جائز في الشريعة المطهرة بل على ذنب هو من أشد الذنوب . فالتحليل غير جائز في الشرع ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به وإذا كان الفاعل يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط ، وإذا كان هذا الفعل حراماً غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله في قوله حتى تنكح زوجاً غيره كما أنه لوقال لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله وأحل الله البيع والأمر ظاهر . قال ابن القيم ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به واحد منهم . ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان ، وكان بعلها منفرداً بوطئها فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان ، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء بين مرامين العشراء والحرماء ، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها ، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها ، وعناق القنا دون عناقها ، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ، وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجا في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصليها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيرت منه اسمه وضمخ ، التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل ، وزعم أنه قد طيبها للتحليل ، فيالله العجب ، أي طيب أعارها هذا التيس الملعون ، وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون ، إلى غير ذلك انتهى . وقد أطال رحمه الله تعالى في تخريج أحاديث التحليل في إعلام الموقعين إطالة حسنة فليراجع .

وكذلك الشغار لثبوت النهي عنه كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله () نهى عن الشغار وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال نهى رسول الله () عن الشغار ، والشغار أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي ، أو زوجني أختك وأزوجك أختي وأخرج مسلم أيضاً من حديث ابن عمر أن النبي () قال لا شغار في الإسلام وفي الباب أحاديث . قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز ولكن اختلفوا في صحته والجمهور على البطلان . قال الشافعي هذا النكاح باطل كنكاح المتعة . وقال أبو حنيفة جائز ولكل واحد منهما مهر مثلها انتهى .

أقول النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة . وعلى كل حال فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول ، لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه أو تحريمه أو فساده على اختلاف الأقوال ، وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها ، فهو بمنزلة فساد التسمية ، وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح ، والمهر ليس بشرط للعقد ، فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب ، لما تقرر في الأصول ، ولا موافق لقواعد الفروع ، ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار لم يكن ذلك مقتضياً لفساد العقد لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه بل لأمر خارج عنه . وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد .

ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة لحديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ()  : أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج وهو في الصحيحين وغيرهما . قلت : هو قول أكثر أهل العلم . وقالوا قوله () إن أحق الشروط الخ خاص في شرط المهر إذا سمى لها مالاً في الذمة أو عيناً عليه أن يوفيها ما ضمن لها ، وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد وأما ما سوى ذلك مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لايخرجها من دارها ولا ينقلها من بلدها أو لا ينكح عليها أو نحو ذلك فلا يلزمه الوفاء به وله إخراجها ونقلها وأن ينكح عليها إلا أن يكون في ذلك يمين فليزمه اليمين كذا في المسوى .

أقول : الوفاء بمطلق الشروط مشروع قال تعالى أوفوا بالعقود وقال () المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً وهو حديث حسن . ولكن هذا المخصص المتصل أعني قوله إلا شرطاً الخ يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة لا يجب الوفاء به ، وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية . ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله فهو باطل ولا يعارض هذا حديث أحق الشروط الخ وهو متفق عليه ووجه عدم المعارضة أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لا يجب الوفاء بها سواء كانت في نكاح أو غيره لا كما قاله الجلال في ضوء النهار .

إلا أن يحل حراماً أو يحرم حلالاً فلا يحل الوفاء به كما ورد بذلك الدليل . وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي () نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أويبيع على بيعة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله () قال : لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى .

ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة لقوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله () في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فقرأ عليه () والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث ابن عمر أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته قال فجئت النبي () فقلت يا رسول الله ، انكح عناقاً قال فسكت عني فنزلت الآية والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها . وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله قال ابن القيم أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها الإمام أحمد ومن وافقه ، وهي من محاسن مذهبه ، فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجاً تحبه ، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر انتهى . وأخرج أبن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي الله تعالى عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : استوصوا في النساء خيراً فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي () فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال : غربها قال : أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع بها قال المنذري ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين . قال ابن القيم عورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج البغايا واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه فقالت طائفة المراد باللامس ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة . وقالت طائفة بل هذا في الدوام غير مؤثر ، وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام . وقالت طائفة بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما . فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً فأمره حينئذ بإمساكها إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح . وقالت طائفة بل الحديث ضعيف لا يثبت . وقالت طائفة ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك فهي تعطي الليان لذلك ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة فأمره بفراقها تركاً لما يريبه إلى ما لا يريبه ، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك والله تعالى أعلم انتهى .

في المسوى أقول : الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا ، اختلافهم في مرجع ذلك في قوله حرم ذلك فقال أحمد مرجعه نكاح الزانية والمشركة . وقال غيره مرجعه الزنا والشرك . والمراد على هذا ، أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك ، والزنا والشرك حرام على المؤمنين ، فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين . ولا يقولون إن الحديث ناسخ ، بل يقولون أنه مبين لتأويل الآية ، ومع ذلك فلا يخلو عن بعد . في الكافي مذهب أحمد الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة . وأما غير أحمد فقولهم جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك لحديث لا ترد يد لامس . قال الواحدي : عن أبي عبيد مذهب مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم . ومذهب سعد أن التحريم كان عاماً ثم نسخته الرخصة . وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلآف الكتاب والسنة المشهورة لأن الله تعالى إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة ثم أنزل في القاذف آية اللعان ، وسن رسول الله () التفريق بينهما فلا يجتمعان أبداً ، فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها . والحديث مرسل فإن ثبت فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق وهذا أشبه بالنبي () وأحرى بحديثه .

أقول في الاستدلال بحديث لا ترد يد لامس نظر من وجهين : أحدهما : أن هذا ليس رمياً لها بالزنا البتة بل رمي بقلة الإحتياط في أمر الملامسة فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة . وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفاً من الفضيحة ، فلما لم يصرح بالزنا لم يوجب النبي () عليه الفراق وثانيهما : أن حالة الإبتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل . كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه ولا يضره البقاء ، فإذا جوز النبي () إمساكها في حالة بقاء النكاح ، من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح انتهى .

والعكس وإنما قال بالعكس لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة كما تفيد ذلك الآية الكريمة الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .

أقول : هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله () أنه يريد أن ينكح عناقاً وكانت مشركة مدفوعة بأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة ونكاح المشركة على حدة وأما حديث إن امرأتي لا ترد يد لامس فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية ، لا كما قال المقبلي أن المراد أنها ليست نفوراً من الريبة لا أنها زانية ثم استبعد أن يقول له () استمتع بها وقد عرف أنها زانية وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة . وأقول : هذا التأويل خلاف الظاهر . والإستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها بمجرده ، فالأولى التعويل على شئ آخر ، هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله ، بل قال النسائي أنه ليس بثابت ، وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة . فإن الرجل لم يقل أنه يتهم أنها لا ترد يد لامس أو يشك أو يظن بل قال ذلك جزماً .

ومن صرح القرآن بتحريمه وهو ظاهر لقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم .

قال في المسوى : اتفقت الأمة على أنه يحرم الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده . فالأصول هي الأمهات والجدات وإن علون . والفصول هي : البنات وبنات الأولاد وإن سفلن . وفصول أول الأصول هي : الأخوات وبنات الأخوة والأخوات وإن سفلن . وأول فصل من كل أصل بعده هي : العمات والخالات وإن علت درجتهن انتهى .

والرضاع كالنسب لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي () قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم وفي لفظ من النسب وفيهما أيضاً من حديث عائشة مرفوعاً يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة . وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث علي قال : قال رسول الله () إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب

قال أهل العلم والمحرمات من الرضاع سبع : الأم والأخت - بنص القرآن - والبنت والعمة والخالة وبنت االأخ وبنت الأخت لإن هؤلاء يحرمن من النسب فيحرمن من الرضاع . وقد وقع الخلاف هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في الهدي .

قال في المسوى : اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا وعلى أبنائه وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعاً وإن سفلو تحريماً مؤبداً بمجرد العقد . ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها من الرضاع والنسب جميعاً تحريماً مؤبداً بمجرد العقد . فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها وبنات أولادها من النسب والرضاع جميعاً . وإن فارقها قبل أن يدخل بها جاز له نكاح بناتها . واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح . فإذا أرضعت المرأة رضيعاً يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم على ولدها من النسب . ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك ويتصور هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك . وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك . ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك . ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك . وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء وهو قول أكثر أهل العلم انتهى .

والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : نهى النبي () أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها وفي لفظ لهما نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وفي الباب أحاديث . وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم وقال : لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك . وقال ابن المنذر : لست أعلم في منع ذلك اختلاف اليوم . وقد حكى الإجماع أيضاً الشافعي والقرطبي وابن عبد البر . قلت اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين وبين الأمة وبنت أخيها وبنت الخالة وبنت أختها من النسب والرضاع جميعاً . وجملته أن كل امرأتين من أهل النسب لو قدرت أحداهما ذكراً حرمت الأخرى عليه فالجمع بينهما حرام . ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها لأنه نسب بينهما كذا في المسوى .

و يحرم ما زاد على العدد المباح للحر والعبد لحديث قيس بن الحرث قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي () فذكرت ذلك له فقال : اختر منهن أربعاً أخرجه أبو داود وأبن ماجه وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . وقال ابن عبد البر ليس له إلا حديث واحد ولم يأت من وجه صحيح ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع .

وأما الاستدلال بقوله تعالى مثنى وثلاث ورباع ففيه ما أوضحه الماتن في شرح المنتقى وفي حاشية الشفاء . وقد قيل أنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع وفيه نظر كما أوضحه هنالك .

أقول : قال الماتن رحمه الله تعالى في كتابه السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار . أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل مثنى وثلاث ورباع فغير صحيح كما أوضحته في شرحي للمنتقي ولكن الإستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحرث وحديث غبلان الثقفي وحديث نوفل ابن معاوية وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الإعتماد عليه وإن كان في كل أحد منها مقال لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه . وقد حكى الاجماع صاحب فتح الباري والمهدي في البحر . والنقل عن الظاهرية لم يصح فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبمهم . وأيضاً قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير تصحيح بعض هذه الأحاديث وأطلت المقال في ذلك فليرجع إليه انتهى .

وقال في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار حديث قيس بن الحرث . وفي رواية الحرث بن قيس في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . قال أبو القاسم البغوي ولا أعلم للحارث بن قيس حديثاً غير هذا . وقال أبوعمر النمري ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح . وفي معنى هذا الحديث حديث غيلان الثقفي وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي () أن يختار منهن أربعاً رواه أحمد وأبن ماجه والترمذي وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح . وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة . قال فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة . وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه . قال الحافظ ولا يفيد ذلك شيئاً. فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة ، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها . اتفق على ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري وابن أبي حاتم ويعقوب ابن شيبة وغيرهم . وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده . وقال ابن عبد البر طرقه كلها معلولة . وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه . ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلاً ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك . وقد وافق معمراً على وصله بحر بن كميز السقاء عن الزهري ولكنه ضعيف . وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ويحيى ضعيف . وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند الشافعي أنه أسلم وتحته خمس نسوة فقال له النبي () أمسك أربعاً وفارق الأخرى وفي إسناده رجل مجهول ، لأن الشافعي قال حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية قال أسلمت فذكره . وفي الباب أيضاً عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقي . وقوله اختر منهن أربعاً استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع . وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعاً ولعل وجهه قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل تسع ، وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة . وحكي أيضاً عن القاسم بن إبراهيم . وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه . وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية وقوم مجاهيل . وأجابوا عن حديث قيس بن الحرث المذكور بما فيه من المقال المتقدم . وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال . وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول . قالوا ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله () قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة . وقد قال تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ولم يقم عليه دليل . وأما قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فالوا وفيه للجمع لا للتخيير . وأيضاً لفظ مثنى معدول له عن اثنين اثنين وهو يدل على تناول ما كان متصفاً من الأعداد بصفة الاثنينية وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين وهكذا ثلاث ورباع ، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد . فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها ، فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفاً أن يقول الرجل لألف رجل عنده جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم . فكأن الله سجانه قال لكل فرد من الناس : انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها . وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره فتنتهض بمجموعها للاحتجاج وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال . ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة كما صرح به الخطابي فلا يجوز الإقدام على شئ منها إلا بدليل . وأيضاً هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع ، كما صرح بذلك في البحر ، وقال في الفتح : اتفق العلماء على أن من خصائصه () الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن . وقد ذكر الحافظ في الفتح والتلخيص الحكمة في تكثير نسائه () فليراجع ذلك انتهى . وقال في تفسيره فتح القدير وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه أما لو كان مطلقاً كما يقال اقتسموا الدراهم ويراد بها ما كسبوه فليس المعنى هكذا . والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول . على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي . ومعلموم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى اقتلوا المشركين أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوها ومعنى قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً هذا ما تقتضي لغة العرب ، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه . ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرأن . وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل بالمعنى العربي . ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من النظم القرآني . وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وأبن ماجه والدارقطني عن ابن عمر إن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي () اختر منهن وفي لفظ أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق . وعن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله () أمسك أربعاً وفارق الآخرى أخرجه الشافعي في مسنده . وأخرج أبن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحرث الأسدي قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي () فأخبرته فقال اختر منهن أربعاً وخل سائرهن ففعلت وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي .

وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله () على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين انتهى كلامه . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين رواه الدارقطني . قال الماتن رحمه الله في نيل الأوطار قد تمسك بهذا من قال أنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين ، وهو مروي عن علي وزيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية . ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلاً عند القائلين بحجية الأجماع ، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم أنه يجوز له أن ينكح أربعاً كالحر حكى ذلك عنهم صاحب البحر . فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة ، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما أنتهى .

ويوضح ذلك ما حرره الماتن رحمه الله تعالى في وبل الغمام حاشية شفاء الأوام وعبارته هكذا : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم أن العدل في الإعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثراً يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد ، فإن كان مجيء القوم مثلاً اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة وكانوا الوفا مؤلفة فقلت جاءني القوم مثنى أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين حتى تكاملوا ، فإن قلت مثنى وثلاث ورباع أفاد ذلك أن القوم جاءك تارة اثنين اثنين وتارة ثلاثة ثلاثة وتارة أربعة أربعة فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم فإنه يستفاد منها أصلاً ، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثراً تشق الإحاطة به ومثل هذا إذا قلت نكحت النساء مثنى فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين وليس فيه دليل على أن كل دفعه من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى كما أنه لا دليل في قولك جاءني القوم مثنى أنه لم يصل الإثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الإثنان الأولان . إذا تقرر هذا فقوله تعالى مثنى وثلاث ورباع يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين كما قدمنا في مجيء القوم وليس فيه أيضاً دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا فهذا . مقام الاستفادة منه فليتفضل بها علينا . وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة . وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة . وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ والعمراني والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول وجماعة من الشيعة وثلة من محققي المتأخرين وخالفه أيضاً القرآن الكريم كما بيناه ، وخالفه أيضاً فعل رسول الله () كما صح ذلك تواتراً من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات وما آتاكم الرسول فخذوه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير وأما حديث أمره () لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة بأن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن كما أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق فقد قال ابن عبد البر كلها معلولة وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفوي الذي مات () عليه والبراءة الأصلية ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة أو جاءنا بدليل في معناه فجزاه الله خيراً فليس بين أحد وبين الحق عداوة وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير كما نفعله في كثير من الأبحاث وإذا حاك في صدره شئ فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب . فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ الله ملكتك لقيل وقال ، ولا سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود . وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ومن ورد البحر استقل السواقيا انتهى واندفع بهذا ما في المسوى من قوله قلت : اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع . قال الشافعي انتهى الله تعالى بالحرائر إلى أربع تحريماً لأن يجمع أحد غير النبي () بين أكثر من أربع . وأما العبد فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله أو ما ملكت أيمانكم وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار انتهى وأما العدد الذي يحل للعبد فقد حكى البيهقي وابن أبي شيبة أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين ، وكذلك حكى اجماع الصحابة الشافعي وروى الدارقطني عن عمر أنه قال : ينكح العبد امرأتين ويطلق يطليقتين . وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة في باب العدة فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم ، ومن لم يقل بحجية إجماعهم أجاز للعبد ما يجوز للحر من العدد . وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول حاشية الشفاء .

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب النكاح
تعريف النكاح | فصل حكم نكاح المتعة | فصل مسائل متعددة في النكاح | فصل المهر واجب وتكره المغالاة | فصل الولد للفراش ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه