الإعلام بما في دين النصارى/الباب الأول/الفصل الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة


الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة[عدل]

في حكاية كلامه أيضا[عدل]

قال: فإن قلت لم لا تقولون بسم العالم القادر المريد إذا قلتم باسم الأب والابن والروح القدس فيتبين آب وابن وروح القدس ثالثا، اعلم أن المسيح لما بعث الحواريين إلى جميع الأجناس قال لهم من آمن منهم فعمدوه على اسم الأب والابن والروح القدس وإنما خاطبنا بمثل تعاقلنا فجعل هذه الأسماء كاختلاف قضايا تلك الأفعال ثم واسط ثم أخر

فأول القضايا خلق الله الجميع بيد سماها أبا وأضافها إلى القدرة وأضاف قضية وعظ المسيح للناس إلى العلم وسماه ابنا لأن العلم لا يوقع عليه حتى يتولد كلاما وأضاف قضية فناء جميع الدنيا ومكافأة أهلها بأعمالهم إلى الإرادة وسماها روح القدس الذي هو قادر عالم مريد اسما للواحد الذي لا يتكثر

والجواب عن قوله[عدل]

اعلم يا هذا إنك لم تحسن السؤال ولا حصلت منه على صواب مقال بل حصل منه في عنقك غل وفي رجليك عقال قلبت السؤال ولم تشعر وجهلت من حيث ظننت أنك تستبصر اردت أن تقول في الاعتراض الذي وجهته على نفسك لم لا تكتفون باسم القادر العالم المريد ولا تقولون باسم الأب والابن وروح القدس فقدمت وأخرت وباللفظ والمعنى أخللت ثم أنتجت النتيجة قبل ذكر المقدمات فصار لذلك كلامك من أرك الترهات فقلت فيها فيتبين آب وابن وروح القدس ثالثا وهذا كلام مختل ناقص مشوب بالفساد غير خالص وإنما كان صوابه أن يقول فيتبين أنه آب وابن ثم قلت ثالثا بالنصب بخطك ضبطه مشعرا بأنك أعربته بل بالإتفاق كتبته ولم تشعر بأنك قلبته وأما قولك إن المسيح لما بعث الحواريين إلى جميع الأجناس فكلاما نقلته مدعيا أنك رويته ونحن يجب علينا أن نتوقف في أخباركم ولا نقطع بتصديقكم ولا بأكذابكم بل نقول ما أمرنا به الرسول وبلغنا على ألسنة النقلة العدول آمنا بالله ورسله فإن صدقتم لم نكذبكم وإن كذبتم لم نصدقكم ومع تسليم ذك جدلا فلا بد أن نباحثكم فيما نقلتم ونتفقه فيما حكيتم

فنقول ظاهر قولك هذا يفهم منه أن رسالة عيسى كانت عامة لجميع الأجناس وليس الأمر على ما زعمتم وسيأتي الكلام على هذا في باب النبوات وكذا الكلام على المعمودية وما يلزم عليها يأتى في باب الكلام على أحكامهم إن شاء الله تعالى

وأما استدلالاته على اعتقاد وجوب الأب والابن والروح القدس وإطلاق القول بذلك بما قاله عيسى للحواريين فلا حجة لك فيه إذ ليس بنص قاطع بل هو مما تقولون أنتم فيه متشابه فإنه يحتمل أن يكون مراده به عمدوهم على تركهم هذا القول كما يقول القائل كل على اسم الله وامش على اسم الله أي على بركة اسم الله ولم يعين الأب والابن من هما ولا ما المعنى المراد بهما فلعله أراد بالأب هنا الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به وأراد بالابن نفسه إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره

ثم لا يبعد أيضا في التأويل إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب أن يكون مراده به أنه ذو حفظ له وذو رحمة وحنان عليه وعلى عباده الصالحين فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى لأنه معلمه وهاديه ومرشده كما يقال المعلم أبو المتعلم ومن هذا قوله تعالى في كتابنا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل على أحد تأويلاته

ومن هذين التأويلين يصح حل ما وقع في أناجيلهم من هذا اللفظ بل هذان التأويلان ظاهران وسائعان فهيا ويشهد لهذين التأويلين قول عيسى للحواريين على ما جاء في سورة الوصية حيث قال لهم إذا صليتم فقولوا يا أبانا السماوي تقدس إسمك وقرب ملكك ثم قال بعد كلام ووصايا فإذا كنتم أنتم على شرتكم تعرفون إعطاء الخيرات أولادكم فكيف أبوكم السماوي

وكذلك وقع في إنجيل يوحنا يحيى أن عيسى قال لليهود أنا عالم أن من نسل إبراهيم ولكن تريدون قتلى لأنكم لا تعلق بكم وصيتي فأعلمكم بما رأيت عند الأب وأنتم إنما تعملون ما رأيتم من أبيكم فأجابوه وقالوا إنما أبونا إبراهيم فقال لهم إن كنتم بنى إبراهيم فاقفوا أثره ولا تريدوا قتلى على أنى رجل وذنبي إليكم الحق الذي سمعت عن الله ولم يفعل إبراهيم غير هذا إنكم تقفون آثار أبيكم فقالوا به لسنا أولاد زنا وإنما نحن بنو الله فقال لهم لو كان الله أباكم لحفظتموني لأنني منه

ثم نقول لأنه عليه السلام وإن كان يطلق هذه الأسماء فإنما كان يطلقها متمثلا بها وهكذا أكثر كلامه الذي يحكون في إنجيلهم

ثم قد نهى عن إطلاقها في الإنجيل الحواريين قال في إنجيل لوقا للحواريين ما تقولون أنتم فأجابه سمعون بيطر وقال له أنت المسيح ابن الله فنهاهم وكذلك كان يقول إذا كان يخرج الجنون عن المجانين فكانت تخرج وهي تقول أنت ابن الله فكان ينتهرهم ويمنعهم من هذا القول

فهذا يدل دلالة بينة على أن المسيح كان يطلق لفظ الأب على الله تعالى بالمعنى الذي يطلق على إبراهيم عليه السلام أنه أب وذلك بمعنى المعلم الشفيق وكذلك جاء اللفظ في كتابنا ملة أبيكم إبراهيم وبذلك المعنى تقول اليهود والنصارى في إبراهيم وليس على حقيقة الأبوة ومع ذلك ف ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين

وكذلك في الإنجيل في غير ما موضع قال لكم أبوكم وقلت لأبي ويلزم على مساق هذا ألا يخص المسيح باسم الابن ولا الله تعالى باسم الأب

وما بالنا نطول الأنفاس مع هؤلاء الجهال فإنه إذا احتمل هذه التأويلات كان من المتشابهات ولا ينبغي أن يصير إليه في الاحتجاجات وخصوصا في الاعتقادات ثم نقول لا يخلو المستدل بذلك أو ما يقاربه على المعنى المتقدم أما أن يريد به حقيقة الأب والابن أو لا يريد ذلك فإن أراد الحقيقة كان محالا وباطلا فإن حقيقة الأب عند العقلاء حيوان ولد من نطفة حيوان هو من نوعه وبهذه النسبة والصفة تفهم حقيقة الابن وهذان الوصفان محالان على القدرة والعلم فإن العلم ليس بحيوان مولود من نطفة حيوان ولا القدرة حيوان يخرج منها نطفة يتولد منها حيوان وهذا معلوم البطلان بالضرورة

وإن أراد بذلك المجاز فلا يصح له حمله على المجاز حتى يجتمع المجاز والحقيقة في أمر ما فإنك إذا قلت زيد أسد إنما تجوزت بلفظ الأسد وأطلقته على زيد لأجل الشجاعة الجامعة بين الأسد وزيد ولولا ذلك لما صح المجاز فإذن لا بد لهذا المتجوز من جامع بين الحقيقة والمجاز فما الجامع الذي لأجله تجوز هذا المحتج فإن قال الأمر الجامع أن القدرة أصل العلم وقد قال ذلك في داخل كتابه منعنا ذلك ولم نسأله وقلنا المفهوم من القدرة والمعقول منها عند العقلاء صفة بها يوجد ما لم يكن موجودا والمعقول من العلم أنه صفة كاشفة نفسها ومعلومها يصدر عنها الأحكام والإتقان وهما في حق الله تعالى أزليان عندنا وعندهم وإذا كانا كذلك فلا يتقدم أحدهما على الآخر في الوجود وإذا لم يصح ذلك فلا يكون أحدهما أصلا للآخر فإن أراد هذا القائل التقدم في الذهن فالعلم هو المتقدم في الذهن لأنه لا يصح فعل اختياري من غير عالم فإن العلم شرط الإيجاد والشرط متقدم في الذهن على فعلم ويتحقق هذا المعنى على القطع عند من عرف الفرق بين العلم المشروط بالضرورة وكذلك نقول علم زيد فقدر ولا نقول قدر الفعلى والإنفعالي ولو عكستم ما ذكرتم فسميتم العلم أبا والقدرة ابنا لكان أحق بذلك وأولى

ثم نقول لأي شيء صرتم إلى الجامع بين الحقيقة والمجاز هو الذي ذكرتم وبم تنكرون على من يزعم أن هنالك وجها آخر لم تطلعوا عليه ثم تحكمتم بتعيين هذا الوجه الذي ذكرتم

ثم نقول أنتم قاطعون بتعيين هذا الوجه الذي أبديتم أو غير قاطعين فإن زعموا أنهم قاطعون فما مستند قطعهم فلا بد من إبدائه ولا شك في أنهم يجدون في هذا المعنى نصا قاطعا فإن زعموا أنهم ليسوا بقاطعين فقد اعترفوا بأنهم شاكون في اعتقادهم وقد كفونا مؤنة الكلام معهم فإنهم أسندوا اعتقاداتهم إلى الشك وكفى بذلك زورا وإفكا ثم يلزمهم على تسليم ما ذكروه من الجامع الذي أبدعون أن يكون الباري تعالى وتنزه وتقدس أبا لكل المخلوقات إذ هو أصل كل المحدثات أي موجدها ومخترعها

وأما قولك فجعل هذه الأسماء ثلاثا فيفهم منه أن هذه الثلاثة لأقانيم الذي تقدم ذكرها مجعولة وأن الله تعالى هو الذي جعلها

وإن كانت بجعل الله فهي بخلقه وما كان بخلقه فهو محدث فيلزمك على ظاهر قولك أن هذه الأقانيم محدثة باختراعه تعالى وأنتم تقولون أنها أزليات قديمة

وأما قولك التي هي أسماء أفعاله فقد أبطلناه فيما تقدم حيث بينا حقيقة أسماء الأفعال ومن وقف على ذلك تبين بطلانه هنالك وأما قولك مختلفة الأسماء كاختلاف قضايا تلك الأفعال ثم واسط ثم أخر فكلام لا يروقك منظره ولا يعيد فائدة مخبره يشهد على قائله بالجنون ويضحك من عدم فائدته وارتباطه العاقلون أراد هذا الجاهل أن يتكلم فخرس وكذلك يفعل الله بكل مبطل إذا نكس وإنما أراد هذا المبطل ولم تطاوعه العبارة لما لم يحصل أن هذه الأقانيم الثلاثة إنما سميت أبا وإبنا وروح القدس باعتبار قضايا ثلاث وذلك أن القدرة إنما سميت أبا باعتبار أنها أصل الموجودات إذ بها وجدت وإنما سمى العلم ابنا باعتبار أنه اتحد بالابن الذي هو المسيح وصدر عنه وإنما سميت الإرادة روح القدس باعتبار مكافأة الخلق في الدار الآخرة بالنعيم

فإن زعمت أنك لم ترد هذا فكلامك غير معقول وقولك ليس بمقبول وهذا الذي أبديته في هذا الكلام لم يقل به أحد فيما علمت من عقلاء نصارى الأنام وكفى بقولك عارا مبين مخالفته لأسقفكم أغشتين فها هو يقول في مصحف العالم الكائن إنما سمى العلم ابنا بإضافته إلى القدرة إذ القدرة أصله وكما صار التعارف الأعجمي أن تسمى القدرة التي هي الأصل والدا كذلك صار التعارف في ذلك اللسان أن يسمى العلم المنسوب إليها ابنا فقوله هذا مخالف لقولك ورأيه غير موافق لرأيك على أنه غلط في قوله أن القدرة أصل العلم ويتبين غلطه عند من وقف على ما قدمته قبل لكنه وإن كان قد غلط فالأمر عليه أقرب والخلاف معه أهون لأنه رجع الخلاف معه إلى إطلاق لفظ وليس وراء ذلك كثير حظ

وأما قولك لأن العلم لا يوقع عليه حتى يتولد كلاما فكلام حطيط ينبئ عن جهل وتخليط فإن العلم لا يتولد كلاما إذ لو جاز ذلك لانقلبت حقيقة العلم ولو جاز انقلاب حقيقة واحدة لجاز انقلاب كل حقيقة فيقلب القديم حادثا والحادث قديما والجسم عرضا والسواد بياضا إلى غير ذلك من أنواع إنقلاب الحقائق ثم قولك فاسد وباطل بالضرورة فإنا نعلم أمورا من غير كلام موصل إلى ذلك فقولنا بوجود أنفسنا وبإلهنا ولذاتنا ومحسوساتنا بديهيات

ثم قد صرحت بلفظ التولد وهو باطل من أصله فإن المتولدات ممكنات وكل ممكن مقدور بقدرة الله تعالى فكل المولدات مقدورة بقدرة الله تعالى وإنما ثبت أنها حدثت بقدرة الله تعالى فلا يقال أنها متولدات

أقول هذا والكلام شجون والعلم فنون على أني أعرف أنك لا تفهم ما أقول وإنما أخاطب أهل الفهم والعقول

وأما قولك الذي هو قادر عالم مريد اسما للواحد الذي لا يتكثر فقول يدل على تخبطك وسوء تناولك نقضت به ما تقدم من قولك حيث جعلت الأقانيم أسماء أفعال بزعمك ثم قد صرحت ها هنا بأنها أسماء للواحد الذي لا يتكثر ولو حكى مثل هذا الكلام عن المستغرقين النوام لقيل هذا أضغاث أحلام

وبعد هذا فلتعلم أني تجاوزت عنك في هذا الفصل ولم أؤاخذك بكل ما فيه من خطل القول خشية طول الكلام وتبدد المطلب وبعد المرام وأول ذلك أنك لحنت وصحفت في ثمانية مواضع تتبين للناشئين بل المراضع

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام