انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 417/في الزواج

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 417/في الزواج

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1941


للأستاذ عباس محمود العقاد

بعد القصص الغرامي أو قصص الحوادث الأخاذة، لا أحسب أن الجمهرة الغالبة من القراء يهتمون بموضوع عام كاهتمامهم بالموضوعات الاجتماعية التي لها مساس بالرزق أو مساس بالعلاقات بين الجنسين، وعلى رأس هذه الموضوعات الحب والزواج؛ لأن الأمر في هذه الموضوعات وما إليها لا يقتصر على الأفكار المجردة أو البحوث الأفلاطونية التي يشتغل بها الدارسون وأصحاب النظر والتأمل دون غيرهم، ولكنه يشمل المسائل اليومية التي تعرض لكل إنسان في حياته الخاصة، وينتقل إلى المحسوسات التي لا محيد عنها لمفكر ولا غير مفكر، والتي يعيش المرء مائة سنة وهو خلو من التفكير في شأن من الشؤون المجردة، ولكنه لن يخلو من معاناتها والانغماس فيها بحال

لهذا عرضتني الكتابة في موضوع الزواج لكثير من الطرائف التي تصلح للفكاهة كما تصلح للدرس والعناية. ومنها أنني سئلت لماذا لم أتزوج؟ وسئلت هل من حرج على المصرية المسلمة أن ترضى الزواج بالأجنبي الذي يحبها ويدين بالإسلام لأجلها؟ وسئلت: ما هو الفرق بين المرأة التي يرتضيها الرجل حليلة والمرأة التي يرتضيها خليلة؟ وهل معنى هذا الفرق أن الحليلات مفضلات على الخليلات، أو أن الخليلات مفضلات على الحليلات؟ وأيهما أصعب وأندر: شروط الحليلة أو شروط الخليلة؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة التي خيل إلي وأنا أتلقاها بالتليفون أو بالبريد، أنني أثرت خلية من النحل على غير عمد، وأنني أنا الجاني على نفسي بما أثرت!

أما من سألني لماذا لم أتزوج فكان جوابي له أن الزواج قيد، وأنني عشت حياتي كلها في مخاطرة لا غنى لصاحبها عن الطلاقة والحرية، وأنني بعد هذا وذاك أقول ما قاله الخليل بن أحمد حين سئل في قرض الشعر، فأجاب: إن الذي يرضاه من الشعر لا يجيئه، وأن الذي يجيئه منه لا يرضاه!

وأما المصرية المسلمة التي يبني بها الأجنبي المسلم فلا حرج عليها فيما أعلم. ولست أنا من المتشددين في منع السلالات الإنسانية أن تمتزج على السنة المرضية. بل قد مضى لي زمان كنت أصف فيه لقاح الجنس المصري والأجناس القوية علاجاً من داء الركود والضوىَ

وأما الفرق بين شروط الحليلة وشروط الخليلة فالتمثيل هنا أجدى من الإفاضة في التحليل: الفرق بينهما كالفرق بين شروط البيت وشروط الفندق، أو كالفرق بين مطالب الإقامة ومطالب السياحة، أو كالفرق بين دوافع الطبيعة وروابط الهيئة الاجتماعية، أو كالفرق بين الواجب والهوى وبين الدرس والقصيدة. . . ومن لم يفهم الفرق بينهما من هذا التمثيل، فما هو بفاهمه من الإفاضة في التحليل

على أنني تلقيت من الأسئلة في موضوع الزواج ما هو أقرب إلى الجديات والشؤون الجوهرية، ومنها السؤال عما يزعمه الزاعمون قسوة من الشريعة أو العرف على المرأة الخائنة، وإجحافاً منها في التمييز بين حقوق الرجال وحقوق النساء

ورأيي أنا أن المرأة أسعد حظاً في مسألة الخيانة من الرجل بحكم الطبيعة التي لا حيلة لأحد فيها. فمن الإنصاف أن يكون الرجل أسعد حظاً في مسألة الخيانة بحكم العرف والشريعة

فالرجل يخون المرأة التي يحبها، ولكنه لا ينسب إليها ولداً من غيرها، ولا يستطيع أن يخدعها في صدق أمومتها لأبنائها، وهذا ضمان عظيم لا يظفر الرجل بنصيب منه بالغاً ما بلغ حرصه واطمئنانه. ولكن المرأة تسلط على الرجل عذاباً لا عذاب مثله، أو غفلة لا غفلة مثلها، كلما خانته وجاءته بولد من غيره وهو منسوب إليه، وكل جور من العرف أو القانون في التمييز بين الجنسين، فإنه لرحمة الرحمات بالقياس إلى هذه المزية التي ضمنتها المرأة ضماناً لا يتطاول إليه عرف ولا قانون

كذلك يحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في التمييز بين حقوق الرجال والنساء، أو بين حقوق الذكور والإناث.

فالمرأة إذا حملت لم تحمل مرة أخرى في بطن واحد، ولكن الرجل ينسل مئات المرات وهي ولا تنسل إلا هذه المرة الواحدة. فليس من الطبيعي إذن أن يطالب الرجل بالوفاء الجسدي الذي تطالب به المرأة، وليس هذا من مقتضيات حفظ النوع ولا من مقتضيات تركيب البنية الجسدية

ويحق للمرأة أن تلوم الطبيعة قبل أن تلوم الشريعة في ناحية أخرى من نواحي التفرقة بين الجنسين، وهي شيخوختها وفقدانها المزية الجنسية قبل أن يفقدها الرجل بعشرات السنين، لأن الولادة تجهدها وتضنيها وتجور على محاسنها وقواها

على أن الطبيعة قد عوضتها عن هذا أنها تستغرق في الجنس وتستغرق في الحب وتستغرق في الأمومة، فهي تأخذ في أربعين سنة من نصيب الشواغل الجنسية وشواغل النسل ما ليس يأخذ رجل في ثمانين، لانصرافه إلى ما عدا ذلك من فروض الحياة.

وبحث آخر قد حركته الأسئلة التي أثارتها كتابتي عن موضوع الزواج، وهو تشجيع الزواج بالقوانين أو بفرض الضرائب على العزاب

وعندي أنه رأى خاطئ من شتى الوجوه، لأنه يستبقي عيوب الزواج التي ينبغي أن تزول، ولعلها لا تزول إلا بالإعراض عن الزواج في بعض الأحوال

مثال ذلك عيب المغالاة بالمهور، فلو أن القوانين أكرهت الناس على الزواج لبقى هذا العيب ولم يشعر أحد بضرورة العدول عنه كما شعر الأكثرون في مصر من جراء الإعراض عن مرهقات الزواج وفي مقدمتها المهور. ولقد بلغ من شعورهم به أن بعض الموسرين جعلوا من أنفسهم قدوة للفقراء بالإقلال من قيمة المهر حتى نزلوا به إلى دراهم لا تتم الدينار

ومثال ذلك عيب الإغراق في الحجاب والتهاون في تزويد الشابات بمحاسن التعليم والتجميل التي ترّغب فيهن الشبان. فلولا الإعراض عن الزواج حيناً لما التفت أحد إلى هذا العيب، ولوجب على الشاب أن يتزوج بحكم القانون لا بحكم التفضيل والاستحسان. وهل يجيء التفضيل والاستحسان إلا من التنافس في الفضائل والحسنات؟ وهل يجيء التنافس في الفضائل والحسنات إذا أكره الناس على الزواج وكان الباعث لهم إليه أنهم يفرون من وطأة الضرائب وفرائض الإلزام؟

ومثال العيوب التي يبقيها التشجيع على الزواج بالدوافع المصطنعة والزواجر القانونية عيب العرف الذي تتبعه الفتيات في تفضيل شاب على شاب وصناعة على صناعة

فالقانون يفرض الضريبة على الشاب الذي لم يتزوج ولا يفرض مثلها على الفتاة التي ترفض هذا الفتى لأنه تاجر وليس بموظف، أو ترفض فتى غيره لأنه موظف وليس بضابط، أو ترفض فتى آخر لأنه سيقيم في الأقاليم ولا ينوي الإقامة في العواصم، وليس هذا من العدل في التشريع، ولا هو من مصلحة الفتيات أو مصلحة الزواج.

والأولى بالشرائع أن تعني بأمرين هما خير من العناية بالإكراه على الزواج، إذا كان الغرض من الإكراه على الزواج زيادة النسل وقلة الفساد:

الأولى بالشرائع أن تعني (أولاً) بتصحيح أجسام المولودين وتصحيح أجسام الآباء والأمهات قبل الزواج

فلو أن ألفاً من المرضى والعجزة والفاشلين تزوجوا ورزقوا البنين والبنات لما كان هذا مانعاً أن يموت معظم المولودين في سن الطفولة، وأن يعيش من يعيش بعد ذلك أفشل مما عاش الآباء والأمهات

وخير من هذا أن تُتَحرى الصحة في طلاب الزواج، وأن تتحرى التربية التي تصون حياة الأطفال من عبث الجهل والإهمال والأولى بالشرائع أن تعنى (ثانياً) بتبغيض الناس في الفساد لا بمجرد الحجر عليهم وهم يشتهونه ويقبلون عليه

ٍوإنما يصبح الفساد بغيضاً إذا كانت الاستقامة أطيب منه وأمتع وأدنى إلى الأنفس والأيدي، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت الأخلاق المفروضة على الناس أخلاقاً غير معقولة ولا مستندة إلى سند غير التقليد والاستمرار، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كانت بطالة الأغنياء وعوز الفقراء دافعين ملحين إلى الترف وبيع الأعراض، ولن يكون الأمر على هذه الصفة إذا كان فساد الأزواج كفساد العزاب، ولم يكن الزواج وحده عصمة لذويه على اختيار أو على اضطرار

وبعد فقد كتبنا عن الزواج مقالاً بعد مقال؛ فهل نستطيع أن نكتب في هذه المسألة الاجتماعية الإنسانية على الأسلوب الذي كتب به برتراند رسل الإنجليزي، وليون بلوم الفرنسي، وغيرهما من كتاب أوربا الوسطى؟

أما أنا فأستطيع!

وأما الشك كل الشك فهو في استطاعة كثير من القراء الشرقيين أن يستمعوا لآراء كتلك الآراء، ولو ليخالفوها أو يتبينوا ما فيها من الأخطاء!

عباس محمود العقاد