انتقل إلى المحتوى

شرح العقيدة الطحاوية/قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان



وجميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق . والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى

شرح : اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان ، اختلافاً كثيراً : فذهب مالك و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و إسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين : إلى أنه تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان . وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله : أنه الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان . ومنهم من يقول : إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي ، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله ، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه . وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان ، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به ! وقولهم ظاهر الفساد . وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب ! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله ! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين ، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا بهما ، ولهذا قال موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر . وقال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين . وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم ، ولم يكونوا مؤمنين به ، بل كافرين به ، معادين له ، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً ، فإنه قال :

ولقد علمت بأن دين محمد.......من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة......لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان ! فإنه لم يجهل ربه ، بل هو عارف به ، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال : رب بما أغويتني . قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين . والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ، ولا أحد أجهل منه بربه ! فإنه جعله الوجود المطلق ، وسلب عنه جميع صفاته ، ولا جهل أكبر من هذا ، فيكون كافراً بشهادته على نفسه ! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر ، بتفاصيل وقيود ، أعرضت عن ذكرها اختصاراً ، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره .

وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان : إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله ، كما تقدم ، أو بالقلب واللسان دون الجوارح ، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفه وأصحابه رحمهم الله . أو باللسان وحده ، كما تقدم ذكره عن الكرامية . أو بالقلب وحده ، وهو إما المعرفة ، كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله . وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر .

والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة - اختلاف صوري . فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءاً من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه - : نزاع لفظي ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد . والقائلون بتكفير تارك الصلاة ، ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى . وإلا فقد نفى النبي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية ، اتفاقاً . ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل . لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازاً ؟ هذا محل النزاع .

وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ، وامتنع عن العمل بجوارحه - : أنه عاص لله ورسوله ، مستحق للوعيد ، لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما ! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام ! ! وهذا غلو منه . فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش والأعشى ، ومن يرى الخط الثخين ، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ، ومن يرى عن قرب زائد على العادة ، وآخر بضده .

ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله : وأهله في أصله سواء ، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله ، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى : فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، وآخر كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج المضيىء ، وآخر كالسراج الضعيف . ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار ، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته ، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه ، وهذه حال الصادق في توحيده ، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق . ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي  : إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ، وقوله : لا يدخل النار من قال . لا إله إلا الله ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأول بعضهم الدخول بالخلود ، ونحو ذلك . والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار ، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب . وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ، فتثقل البطاقة ، وتطيش السجلات ، فلا يعذب صاحبها . ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار . وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان ، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية ، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان ، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية ، فغفر لها . وهكذا العقل أيضاً ، فإنه يقبل التفاضل ، وأهله في أصله سواء ، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين ، وبعضهم أعقل من بعض . وكذلك الإيجاب والتحريم ، فيكون إيجاب دون إيجاب ، وتحريم دون تحريم . هذا هو الصحيح ، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب .

وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل - : فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، كما في حق النجاشي وأمثاله . وأما الزيادة بالعمل والتصديق ، المستلزم لعمل القلب والجوارح - : فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم . ولهذا قال النبي  : ليس المخبر كالمعاين وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح ، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله ، لكن المخبر، وإن جزم بصدق المخبر ، فقد لا يتصور المخبر به نفسه ، كما يتصوره إذا عاينه ، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه : رب أرني كيف تحيي الموتى قال : أولم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . وأيضاً : فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً ، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً ، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل . وكذلك الرجل أول ما يسلم ، إنما يجب عليه الإقرار المجمل ، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها ، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان . ولا شك أن من قال بقلبه التصديق الجازم ، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة - : لا تقع معه معصية ، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى ، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية ، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي . ولهذا - والله أعلم - قال  : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، الحديث . فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا ، وإن بقي أصل التصديق في قلبه ، ثم يعاوده . فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه . والشهوة والغضب مبدأ السيئات ، فإذا أبصر رجع . ثم قال تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ، أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون . قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم . فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى ، والشيطان يمده في غيه ، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب ، فذلك النور والإبصار ، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه . وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى ، وإن لم يكن أعمى ، فكذلك القلب ، بما يغشاه من رين الذنوب ، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر . وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي  : أنه قال : إذا زنا العبد نزع منه الإيمان ، فإذا تاب أعيد إليه .

إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً ، فلا محذور فيه ، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والإفتراق بسبب ذلك ، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم ، وإلى ظهور الفسق والمعاصي ، بأن يقول : أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله ! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي . وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ! وهذا باطل قطعاً . فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع . وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع ، فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط ، كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك .

فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمه الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف : وما أنت بمؤمن لنا ، أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك . ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقاً لله ، وهو أن يصدق الرسول فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا . هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادهما . وقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : آمنوا وعملوا الصالحات وغيرها ، في مواضع من القرآن .

وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقاً ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان . ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدق : صدقه ، ولا يقال ، آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : فآمن له لوط . فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف . وقال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر . ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل إسم فاعل ، أو مصدراً ، على ما عرف في موضعه . فالحاصل أنه لا يقال : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال . آمنت له ، كما يقال : أقررت له . فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت . فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت . وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس - : صدقناه ، ولا يقال : آمنا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، و الإئتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر . ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع . ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك - : لكان كفراً أعظم ، فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط ، ولا الكفر التكذيب فقط ، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب . فكذلك الإيمان ، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان . ولو سلم الترادف ، فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً . كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال : العينان تزنيان ، وزناهما النظر ، والأذن تزني ، وزناها السمع إلى أن قال : والفرج يصدق ذلك ويكذبه . وقال الحسن البصري رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال . ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبينه . فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام ، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص ، من غير تغير اللسان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق . ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم . ونقول : إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولئن الشارع زاد فيه أحكاماً ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق .

وقالوا : إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضاً للرسول ، معادياً له يقاتله - : أن هذا ليس بمؤمن . كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما . فقد قال  : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق . وقال أيضاً  : الحياء شعبة من الإيمان . وقال ايضاً  : أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً .

وقال أيضاً  : البذاذة من الايمان . فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة ، وكل شعبة منها تسمى : إيماناً ، فالصلاة من الإيمان ، وكذلك الزكاة والصوم والحج ، والأعمال الباطنة ، كالحياء والتوكل والخشية من اللة والإنابة إليه ، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق ، فإنه من شعب الايمان . وهذه الشعب ، منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً ، كشعبة الشهادتين ، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً ، كترك إماطة الأذى على الطريق ، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى . وكما أن شعب الإيمان إيمان ، فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله - مثلاً من شعب الإيمان ، والحكم بغير ما أنزل الله كفر . وقد قال  : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم . وفي لفظ : ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . وروى الترمذي عن رسول الله أنه قال : من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله - : فقد استكمل الإيمان . ومعناه - والله أعلم - أن الحب والبغض أصل حركة القلب ، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك ، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس ، والبدن متوسط بين القلب والمال ، فمن كان أول أمره وآخره كله لله ، كان الله إلهه في كل شيء ، فلم يكن فيه شيء من الشرك ، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه ، فيكون مستكملاً الإيمان . إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل .

وسيأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم : وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان . فسمى حب الصحابة إيماناً ، وبغضهم كفراً .

وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره ، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله الشك في ذلك ! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب .

فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب . فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه ! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه : بضع وستون من غير شك . وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه ؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب .

وقالوا أيضاً : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الإعتقاد ، وقون اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام . والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح . فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة ! !

ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذا لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة . قال  : إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب . فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً ، بخلاف العكس . وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله ، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ، فمسلم ، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء ، فيزول عنه الكمال فقط .


شرح العقيدة الطحاوية
المقدمة | قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له) | (انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل) | قوله: (ولاشيء مثله) | قوله: (ولا شيء يعجزه) | قوله: (ولا إله غيره) | قوله:(قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) | قوله: ( لايفنى ولايبيد ) | قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) | قوله: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ) | قوله: (ولا يشبهه الأنام) | قوله: (حي لا يموت قيوم لا ينام) | قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة) | قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة) | قوله: (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه) | قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري) | قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) | قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا) | قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير) | قوله: (خلق الخلق بعلمه) | قوله: ( وقدر لهم أقدارا ) | قوله: ( وضرب لهم آجالا ) | قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) | قوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) | قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته) | قوله: (يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي، فضلا. ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي، عدلا) | قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله ) | قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد ) | قوله: ( لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره) | قوله: ( آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده) | قوله:(وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى) | قوله: (وإنه خاتم الانبياء) | قوله: ( وإمام الاتقياء ) | قوله: ( وسيد المرسلين ) | قوله: (وحبيب رب العالمين) | قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى) | قوله:(وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء) | قوله: (وإن القرآن كلام الله ) | قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر) | قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية) | قوله:(ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام) | قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) | قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان) | قوله:(ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم) | قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه) | قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية) | قوله: ( وتعالى عن الحدود والغايات) | قوله: ( والمعراج حق) | قوله:( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق) | قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار) | قوله: ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ) | قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار) | قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم) | وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه) | قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى) | قوله: ( ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم ) | قوله: ( فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن) | قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه) | قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه) | قوله:(وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والإعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته) | قوله:(فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) | وقوله : ( والعرش والكرسي حق ) | قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه) | قوله:(ونقول: ان الله اتخذ إبراهيم خليلاً ،وكلم الله موسى تكليماً) | قوله:(ونؤمن بالملائكة والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين) | قوله:(ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) | قوله : ( ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله ) | قوله:(ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين) | قوله:(ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله) | قوله ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته | قوله والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة | قوله ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه | قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | تابع قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | تابع أيضا قوله والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان | قوله والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن | قوله وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن | قوله والايمان هو الايمان بالله | قوله ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله | قوله وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون | قوله ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم | قوله ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً | قوله ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق | قوله ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف | قوله ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا | قوله ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة | قوله ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة | قوله ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه | قوله ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الاثر | قوله والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين | قوله ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين | قوله ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين | قوله وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً | قوله ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة | وقوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان | قوله والاستطاعة التي يجب بها الفعل | قوله وأفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد | قوله ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ماكلفهم | قوله وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات | قوله والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات | قوله ويملك كل شيء ولا يملكه شيء | قوله والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى | وقوله ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم | قوله ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق | قوله ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه | قوله ثم لعثمان رضي الله عنه | قوله ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه | قوله وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون | قوله وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة | قوله ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس | قوله وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر | قوله ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام | قوله ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم | قوله ونؤمن بأشراط الساعة | قوله ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة | قوله ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً | قوله ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام | قوله فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً