انتقل إلى المحتوى

الكامل في اللغة/الجزء السابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول: نزلنا في نبي سعد بـن زيد وفي عك وعامر عوبثـان وفي لخم وفي أدد بن عمرو وفي بكر وحي بني العدان ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده ، فانتمى له من الأزد. وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.

رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله: يا ضربة من تقي ما أراد بـهـا إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حيناً فـأحـسـبـه أوفى البرية عند اللـه مـيزانـا فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه. فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها: يا روح كم من أخي مثوى نزلت بـه قد ظن ظنك نم لـخـم وغـسـان حتى إذا جفته فـارقـت مـنـزلـه من بعد ما قيل عمران بن حـطـان قد كنت جارك حولاً ما تـروعـنـي فيه روائع من إنـس ومـن جـان حتى أردت بي العظمى فأدركـنـي ما أدرك الناس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنـبـاع فـإن لـه في النائبات خطـوبـاً ذات ألـوان يومـاً يمـان إذا لاقـيت ذا يمــن وإن لقيت مـعـدياً فـعـدنـانـي وكنت مستغفـراً يومـاً لـطـاغـية كنت المقدم في سـري وإعـلانـي لكـن أبـت لـي آيات مـطـهـرة عند الولاية فـي طـه وعـمـران ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أزدياً مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك ، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها: إن التي أصبحت يعيا بها زفـر أعيت عياء على روح بن زنباع قال أبو العباس: أنشدن الرياشي: أعيا عياها على روح بن زنباع وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور: ما زال يسألنـي حـولاً لأخـبـره والناس من بين مخـدوع وخـداع حتى إذا انقعطت عنـي وسـائلـه كف السؤال ولم يولع بإهـلاعـي فاكفف كما كف عني إننـي رجـل إما صميم وإما فـقـعة الـقـاع واكفف لسانك عن لومي ومسألتـي ماذا تـريد إلـى شــيخ لأوزاع! أما الصلاة فإني لست تـاركـهـا كل امرئ للذي يعنـي بـه سـاع أكرم بروح بن زنبـاع وأسـرتـه قوم دعا أولـيهـم لـلـعـلا داع جاوزتهم سـنة فـيمـا أسـر بـه عرضي صحيح ونومي غير تهجاع فاعمل فإنك مـنـعـي بـواحـدة حسب اللبيب بهذا الشيب من نـاع ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول: نزلنا بحمد الله في خـير مـنـزل نسر بما فيه من الإنس والخـفـر نزلنا بقوم يجمع للـه شـمـلـهـم وليس لهم عود سوى المجد يعتصر من الأزد إن الأزد أكـرم أسـرة يمانية قربوا إذا نسب الـبـشـر فأصبحت فيهم آمناً لا كمـعـشـر أتوني فقالوا من ربيعة أو مضـر أم الحي قحطان? فتلكم سـفـاهة كما قال روح لي وصاحبه زفـر

وما منهما إلا يسر بنـسـبة تقربني منه وإن كان ذا نفر فنحن بنو الإسلام والله واحـد وأولى عباد الله بالله من شكر قوله: يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة ، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: " أكرمي مثواه " " يوسف: 21 "، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ: طال الثواء على رسم بيمؤود أودى وكل جديد مرة مودي وقوله: فيه روائع من إنس ومن جان الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع " " هود: 74 ". ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: " يكاد سنا برقه يذهب الأبصار " " النور: 43 "، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب. وقوله: يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدنانـي يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً: أفي السلم أعياراً جـفـاء وغـلـظة وفي الحرب أمصال النساء العوارك ! العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله: أفي الولائم أولاداً لـواحـدة وفي المحافل أولاداً لعلات! قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ. وقوله: لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله : " تقتلك الفئة الباغية ". وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: " ما لكم من ولايتهم من شيء " " الأنفال: 72 ". والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية. وقوله: حتى إذا ما انقضت مني وسائله وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج: والناس إن فصلتهم فصائلا كل إلينا يبتغي الوسـائلا وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل : " إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا " " المعارج: 19 - 21 ". وقل الشاعر: ولي قلب سقيم ليس يصحو ونفس ما تفيق من الهلاع وقوله: إما صميم وإما فقعة القاع الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك: وتنزل من أمية حيث تلـقـى شؤون الرأس مجتمع الصميم

وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر: قوم إذا نسبوا يكون أبـوهـم عند المناسب فقعة في قرقر وقال بعض القرشيين: إذا ما كنت متخذاً خـلـيلاً فلا تجعل خليلك من تمـيم بلوت صميمهم والعبد منهـم فما أدنى العبيد من الصميم! وقوله: نسر بما فيه من الإنس والخفر فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسـوة خـفـرات وقوله: من الأزد إن الأزد أكرم أسرة يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره. وينشد: يمانية قربوا إذا نسب البشر يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل : فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله وقال آخر: عجبت لمولود وليس له أب وذي ولد لم يلـده أبـوان ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة. وقوله: أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر? يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثـمـان يريد: أبسبع? وقال التميمي: لعمرك ما أدري وإن كنـت دارياً شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر! الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أ ذا أم ذا? والأملح في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?. ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً فقالت صفية: كيف رأيت زبرا أأقطاً أو تمـرا أم قرشياً صقرا لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان محالاً على هذا الوجه. وقوله: وما منهما إلا يسر بنسبة معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " " النساء: 159 "، أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر : وما الدهر إلا تارتان فمنـهـمـا أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح يريج فمنهما تارة. وقوله: فنحن بنو الإسلام والله واحـد وأولى عباد الله بالله من شكر يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: " إنما المؤمنون إخوة " " الحجرات: 10 "، وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " " هود: 46 " وقال نهار بن توسعة اليشكري: دعي القوم ينصر مدعـيه ليلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تمـيم أول من حكم من الخوارج ويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي. أول سيف سل من سيوفهم

فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل? ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل. وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب? فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه? فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره? فقال: أأطنب أم أختصر? فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط. مناظرة علي بن أبي طالب لهم وكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم ، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته ، فقال تبارك وتعالى: " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " " النساء: 35 "، وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم ، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " " المائدة: 95 "? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك أنم تقول في كتابك: " هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين " محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: " هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو " فقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك ، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: " محمد بن عبد الله "، فقال لي: " يا علي امح رسول الله "، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: " فقفني عليه " فمحاه بيده ، ثم قال: " اكتب محمد بن عبد الله "، ثم تبسم إلي فقال: " يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي ". فرجع معه منهم ألفان من حروراء ، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء. والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري. للصلتان العبدي وقال الصلتان العبدي في كلمة له: أرى أمة شهـرت سـيفـهـا وقد زيد في سوطها الأصبحي بنـجـــدية وحـــرورية وأزرق يدعو إلـى أزرقـي فملتنا أننـا الـمـسـلـمـون على دين صديقنا والـنـبـي وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير مر الغداة وكر العـشـي أذا ليلة عرمـت يومـهـا أتى بعد ذلـك يوم فـتـي نروح ونغدو لحاجـاتـنـا وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجـاتـه وتبقى له حاجة ما بـقـي قوله: وقد زيد في سوطها الأصبحي

فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه. والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم. للراعي في عبد الملك بن مروان قال الراعي يخاطب عبد الملك: إني حلفت على يمـين بـرة لا أكذب اليوم الخلـيفة قـيلا ما إن أتيت أبا خبـيب وافـداً يوماً أريد ببيعتـي تـبـديلا ولا أتيت نجيدة بن عـويمـر أبغي الهدى فيزيدني تضلـيلا من نعمة الرحمن لا من حيلتي إني أعد له علـي فـضـولا وفي هذه القصيدة: أخذوا العريف فقطعوا حيزومه بالأصبحية قائماً مـغـلـولا قوله: وأزرق يدعو إلى أزرقي يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله. وقوله: على دين صديقنا والنبي فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره ، قال الله عز اسمه: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " " التغابن: 2 "، وقال: " يا معشر الجن والإنس " " الرحمن: 33 "، وقال: " واسجدي واركعي مع الراكعين " " آل عمران: 43 ". وقال حسان بن ثابت: بهاليل منهم جعفر وابن أمه علي ومنهم أحمد المتخير يعني بني هاشم ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد . وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة ، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم. قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه: سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر وماذا الذي يبقى على عقب الدهر ! ولو كنـت فـيه إذ أبـيح حـريمـه لمت كريماً أو صدرت على عـذر أبيح فلم أملـك لـه غـير عـبـرة تهيب بها أن حاردت لوعة الصـدر ونحن رددنا أهلـهـا إذ تـرحـلـوا وقد نظمت خيل الأزرق بالجـسـر ومن يخش أطراف المنـايا فـإنـنـا لسنا لهن السابغات من الـصـبـر فإن كريه المـوت عـذب مـذاقـه إذا ما مزجناه بطيب مـن الـذكـر وما رزق الإنسـان مـثـل مـنـية أراحت من الدنيا ولم تخز في القبـر وفي هذا الشعر: ليشكو بنو العباس نعمى تـجـددت فقد وعد الله المزيد على الشكـر لقد جنبتكم أسـرة حـسـدتـكـم فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر وقد نغصتهم جولة بـعـد جـولة يبيتون فيها المسلمين على ذعـر وقال عبد الله بن قيس الرقيات: ألا طرقت من أهل بثنة طارقـه على أنها معشوقة الدل عاشقـه تبيت وأرض السوس بيني وبينهـا وسولاف رستاق حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنـا عـصـابة حرورية أضحت من الدين مارقه من أخبارهم يوم النهروان وكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول: أقتلهم ولا أرى علـيا ولو بدا أوجره الخطيا

فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية. وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ. وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان: ما كان أغنى اليشكري عن التي تصلى بها جمراً من النار حاميا غداة ينادي والرماح تـنـوشـه خلعت علياً بـادياً ومـعـاويا وجاء في الحديث، أن علياً رضي الله عنه تلي بحضرته: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " " الكهف: 13 - 14 "، فقال علي: أهل حروراء منهم. وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته. من شعر علي بن أبي طالب ومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله والرفقة في الدين أرجع كافراً!: يا شاهد الله علي فـاشـهـد أني على دين النبي أحـمـد من شك في الله فإني مهتدي ويروى: أني توليت ولي أحمد في تقسيم غنائم خيبر ويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صلى الله عليه وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: لا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ. وفي حديث آخر أن رسول الله قال له: " ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل "? ثم قال لأبي بكر : " اقتله " فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله: " لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله ".

قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله حتى تورد خداه، ثم قل: " أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? "! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال : " إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق " . قوله : " من ضئضئ هذا " أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق ، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة: أقبلن من ثهـلان أو وادي حـيم على قلاص مثل خيطان السلـم إذا قطعن عـلـمـاً بـدا عـلـم حتى أنخناها إلى باب الـحـكـم خليفة الحجاج غير الـمـتـهـم في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي: وقد أختلس الضرب ة لا يدمى لها نصلي فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع. من أخبار واصل بن عطاء وذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي: برئت من الخوارج لست منهم من الـــــــغـــــــزال مـــــــنـــــــهـــــــم وابـــــــن بـــــــــــاب ومـــــــن قـــــــوم إذا ذكـــــــــــروا عـــــــــــــــلـــــــــــــــيا يردون الـــــــســـــــلام عـــــــلـــــــى الـــــــســـــــحــــــــــاب ولـــكــــنـــــــي أحـــــــب بـــــــكـــــــل قـــــــلـــــــبـــــــي وأعـــــــلـــــــم أن ذاك مـــــــــن الـــــــــــــــصـــــــــــــــواب رســـــــول الـــــــلـــــــه والـــــــصـــــــديق حـــــــبــــــــــــاً به أرجـــــــو غـــــــداً حـــــــســـــــن الــــــــــثـــــــــــــــواب فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!. وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء: ماذا منيت بغزال له عـنـق كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكـم تكفرون رجالاً أكفروا رجلا! ويروى: لا بل ، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له: الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار فهذا ما يرويه المتكلمون. وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي، فذكرت قرابتهم من رسول الله فأمسكت عنهم ، إلا أني قلت: دينار آل سليمان ودرهمـهـم كبابليين حفاً بالـعـفـاريت لا يرجيان ولا يرجى نوالهمـا كما سمعت بهاروت وماروت وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه: عليم بإبدال الحروف وقامـع لكل خطيب يغلب الحق باطله وقال آخر: ويجعل البر قمحاً في تصرفـه وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يطق مطراً والقول يعجله فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر ومما حكي عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لو لا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً. فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم. واجتناب الحروف شديد. وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست قال: والله لو لا الخطبة والنساء ما حفلت بها. قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين الحروف وحسن مخارج الكلام. فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك: صحت مخارجها وتم حروفها فله بذاك مزية ولا تنـكـر المزية: الفضيلة. وأما قوله: ابن باب فهو عمرو بن عبيد بن باب، وهو مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما. فقال: ومن قوم إذا ذكروا عـلـياً أشاروا بالسلام على السحاب ويروى: يردون السلام على السحاب مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نرجع إلى ذكر الخوارج. قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها ، وفي ذلك يقول : ثلاثة آلاف وعـبـد وقـــينة وضرب علي بالحسام المصمـم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة. فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له ! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن.

ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه ، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد. ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه. ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه: أريد حباءه ويريد قـتـلـي عذيرك من خليلك من مراد فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي. فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له،وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي ، وإن أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم. ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين مضاضين ، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله. ويروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه: اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكـا ولا تجزع من الموت إذا حـل بـواديكـا والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول: حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد. قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً: لسعد بن الضبـاب إذا غـدا أحب إلينا منك فا فرس حمر وإنما الشعر:

لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته ، وكان معاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين. ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم الناس. وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج خارجة ، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة . لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب وقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: إن الكرام على ما كان من خلق رهط امرئ خاره للدين مختار طب بصير بأضغان الرجال ولم يعدل بخبر رسول الله أخـبـار وقطرة قطرت إذ حان موعدها وكل شي له وقـت ومـقـدار حتى تنصلها في مسجد طـهـر على إمام هدى إن معشر جاروا حمت ليدخل جنات أبو حـسـن وأوجبت بعده للقاتـل الـنـار قوله خاره يعني : اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه. وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: " فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم " " محمد: 37 ". والخبر: العالم. ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك . وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها. وقوله: حمت، معناه قدرت. للكميت في رثائه قال الكميت: والوصي الذي أمال التجوب ي به عرش أمة لانهـدام قتلوا يوم ذاك إذ قـتـلـوه حكماً لا كغابر الحـكـام الإمام الزكي والفارس المع لم تحت العجاج غير الكهام راعياً كان مسجحاً ففقدنـا ه وفقد المسيم هلك السوام قوله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات: نحن منا النبي أحمد الصدي ق منا التقي والحكـمـاء وعلي وجعفر ذو الجناحي ن هناك الوصي والشهداء وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم: تخبـر مـن لاقـيت أنـك عـائذ بل العائذ المحبوس في سجن عارم وصي النبي المصطفى وابن عمه وفكاك أعناق وقاضي مـغـارم أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر: صبحن من كاظمة الخص الخرب يحملن عباس بن عبد المطـلـب يريد ابن عباس رضي الله عنه. وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك: ورثتم ثياب المجد فهي لبوسـكـم عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم يريد ابني عبد مناف. لأبي الأسود الدؤلي في آل البيت وقال أبو الأسود: أحـب مـحـمـداً حـــبـــاً شـــديداً وعـبـاسـاً وحـمــزة والـــوصـــيا أحبهم لحب الله حتى أجيء إذا بعثت على هويا هوى أعطيته منذ استدارت رحـى الإسـلام لــم يعـــدل ســـويا يقـول الأرذلـون بـنــو قـــشـــير: طوال الـدهـر مـا تـنـسـى عـلـــيا! بنـو عـم الـنــبـــي وأقـــربـــوه أحـب الـنـاس كـلـــهـــم إلـــيا فإن يك حـبـهـم رشــدا أصـــبـــه ولـيس بـمـخـطـئ إن كــان غـــيا وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له : ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني. قال: وكان نقش خاتمه:

يا غالبي حسبك من غالب إرحم علي بن أبي طالب وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله: راعياً كان مسجداً فقـدنـا ه وفقد المسيم هلك السوام فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم. قال ابن قيس الرقيات: أيها المشتهي فنـاء قـريش بيد الله عمرها والـفـنـاء إن تودع من البـلاد قـريش لا يكن بعدهم لحي بـقـاء لو تقفى ويترك الناس كانـوا غنم الذئب غاب عنها الرعاء وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه: كان المسيم ولم يكن إلا لمن لزم الطريقة واستقام مسيما ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة. ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة فهذا غلط، لأن وقفه هذين الموضعين لسنتين من خلافته. وقف عين أبي نيزر حدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة ، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقاً . فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم فالثالث كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما. قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء. كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم وتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك كتابي هذا فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق.

فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه. حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.

قال: ويروى أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع ، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة لطول السجود، وأيدياً كثفنات الإبل ، وعليهم قمص مرحضة ، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من عند صهر رسول الله وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل علمتم أ، رسول الله أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان ، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن. خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم له قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم. ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له : إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال : ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله يقول: " تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل ". قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم ، وأشد توقياً على دينه، وأبعد بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها. ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.

وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?. غيلان بن خرشة ونيله منهم ومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة. مرداس بن أدية وزياد ومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص ، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " " النجم: 37 - 41 " وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم. والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك. آراء الفقهاء في مذهب الخوارج وهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً ، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس. ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر . فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق! قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة يقول: رب العباد مالنا ومالـكـا قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبالكا فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة وأشهد أن الخلق جميعاً عباده. وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه: أبني عقيل لا أبا لأبيكـم أيي وأي بني كلام أكرم وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري: يا قرط قرط حيي لا أبـالـكـم يا قرط إني عليكم خائف حـذر أأن روى مرقس واصطاف أعنزه من التلاع التي قد جادها المطر قلتم له اهج تميمـاً لا أبـالـكـم في كف عبدكم عن ذاكم قصـر فإن بيت تميم ذو سمـعـت بـه فيه تنمت وأرست عزها مضـر قوله: يا قرط قرط حيي نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا قرط حيي فأقحموا قرطاً توكيداً، وكذلك لجرير : يا تيم تيم عدي لا أبالكـم لا يلقينكم في سوءة عمر ومثله لعمر بن لجا : يا زيد زيد اليعملات الذبل تطاول الليل عليك فانزل


فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: يا زيد زيد اليعملات ويا تيم تيم عدي، كما تقول: يا زيد أخا عمرو على النعت. ومثل الأول في التوكيد يا بؤس للحرب فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء لا أبالك ولا أبا لزيد ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت لا أباك كما قال الشاعر: أبالموت الذي لا بد أني ملاقي لا أباك تخوفيني وقال آخر: وقد مات شماخ ومات مزرد وأي كريم لا أباك يخـلـد! وقوله: أأن روى مرقس رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة ، وأصغرهن الطبع : وقوله: واصطاف أعنزه، يريد افتعلت، من الصيف، أي أصابت البقل فيه. والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع. وقوله: ذو سمعت به يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى الذي، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال: إني أرى في عامر ذو ترون وقال عارق الطائي: فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه يريد الذي. ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه. قال الحسن بن هانئ الحكمي: حب المدامة ذو سمعت به لم يبق في لغيرها فضلا وقال حبيب بن أوس الطائي: أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة فأنا المقيم قـيامة الـعـذال وقال الحسن بن وهب الحارثي: عللاني بذكرها عـلـلانـي واسقياني أو لا فمن تسقـيان أنا ذو لم يزل يهون على الند مان إن عز جانب الندمـان ويكون العزيز في ساعة الرو ع بصدق الطعان يوم الطعان ثم نرجع إلى ذكر الخوارج : قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: " وعجلت إليك رب لترضى " " طه: 84 ". ويروى عن النبي أنه لما وصفهم قال: " سيماهم التحليق يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد " . وفي حديث عبد الله بن عمرو: " رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة "، أو " الخنيصرة ". وروي عن النبي : أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: " ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: " ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله : لو قتل لكان أول فتنة وآخرها ". حديث المخدج ويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها. من أخبار نافع بن الأزرق ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم. قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله. حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: " والليل وما وسق " " الإنشقاق: 17 "، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز: إن لنا قلائصاً حـقـائقـا مستوسقات لو يجدن سائقا هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير. قوله: حقائقا إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على فعلية مثل حقيقة ولذلك جمعها على حقائق ويقال: استوسق القوم، إذا اجتمعوا. وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سريا " " مريم: 24 " فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده: سلماً ترى الدالج منها أزورا إذا يعج في السري هرهرا السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال: لها مرفقان أفتلان كأنما أمرا بسلمى دالج متشدد والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: تر الدالي منه أزورا وهذا خطأ لا وجه له. وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: " عتل بعد ذلك زنيم " " القلم: 13": ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت: زنـيم تـداعـاه الـرجـال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة ، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك. قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه. ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: " والتفت الساق بالساق " " القيامة: 29 "، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرتعن ساقها الحـرب شـمـرا قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه: أقول لها من ليلة ليس طـولـهـا كطول الليالي ليت صبحـك نـورا أخاف على نفس ابـن أحـوز إنـه جلا حمماً فوق الوجوه فأسـفـرا جعلت لقبر لـلـخـيار ومـالـك وقبر عدي في المقابـر أقـبـرا وأطفأت نيران المزون وأهـلـهـا وقد حاولوها فتـنة أن تـسـعـرا فلم تبق منهم راية يعـرفـونـهـا ولم تبق من آل المهلب عسـكـرا ألا رب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت: فأما الأزد أزد أبي سعيد فأكره أن أسميها المزونا وقال آخر يعني الحرب: فإن شمرت لك عن ساقها فويهاً حذيف ولا تسـأم ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما ، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء ، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر. ومما سأله عنه: " الم ذلك الكتاب " " البقرة: 1 - 2 "، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن. هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: ذلك الكتاب أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: " فلا جاءهم ما عرفوا كفروا به " " البقرة: 89 "؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " " البقرة: 146 "، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل ، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة: وإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت هالكا وقفت له علوى وقد خام صحبتي لأبني مجداً أو لأثأر هـالـكـا أقول له والرمح يأطر متـنـه تأمل خفافاً إننـي أنـا ذلـكـا يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا. وقوله: يأطر متنه أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه. ومما سأله عنه قوله عز وجل: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 "، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول: وترى خلفهن من سرعة الرج ع منينـاً كـأنـه إهـبـاء قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها. والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد: يا ريها إن سلمت يميني وسلم الساقي الذي يليني ولم تخني عقد المنـين يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله فعيلا من المنة، والمعروف هو الأول. وقال غير ابن عباس: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 " لا يمن عليهم فيكدر عندهم. ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده: أمن آل نعم أنت غـاد فـمـبـكـر غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر! بحاجة نفس لم تقل فـي جـوابـهـا فتبلغ عذراً والـمـقـالة تـعـذر تهيم إلى نعم فلا الشـمـل جـامـع ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر

ولا قرب نعم إن دنت لـك نـافـع ولا نأيها يسلي ولا أنت تصـبـر وأخرى أتت من دون نعم ومثلـهـا ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر إذا زرت نعمـاً لـم يزل ذ قـرابة لها كلـمـا لاقـيتـه يتـنـمـر عزيز عليه أن أمـر بـبـابـهـا مسر لي الشحناء والبغض مظهر ألكني إليهـا بـالـسـلام فـإنـه يشهر إلمامـي بـهـا وينـكـر بآية ما قالـت غـداة لـقـيتـهـا بمدفع أكنان أهذا الـمـشـهـر! قفي فانظري يا أسم هل تعرفينـه أهذا المغيري الذي كـان يذكـر! فقالت: نعم، لا شك غـير لـونـه سرى الليل يحيي نصه والتهجـر لئن كان إياه لقـد حـل بـعـدنـا عن العهد، والإنسان قـد يتـغـير رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فـيخـسـر فقال: ما هكذا قال، إنما قال فيضحى وأما بالعشي فيخصر قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها . وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن ، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: " وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى " " طه: 119 "، والضح: الشمس، وليس من: ضحيت، يقال: جاء فلان بالضح والريح يراد به الكثرة، قال علقمة: أغر أبرزه للضح راقـبـه مقلد قضب الريحان مفغوم له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله : " كن أبا خيثمة "، فكانه. وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول. الحجاج وامرأة من الخوارج وذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي. والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه. عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارج وذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً ، فرغب فيه، فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول ، والله لأقتلنك إن لم تطع. فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.

قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي ؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة الله ، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك. ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع. وفود رجل من أهل الكتاب على معاوية وتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال ، ويصطنع الرجال، ويجنب الخيول، ويبيح حرمة الرسول ، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه ظاهراً، ويكون له قرين مبير لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قل: شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض ،قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت. فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته. وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: " هذا فراق بيني وبينك " " الكهف: 78 ". صديق عبد الملك بن مروان قال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان. حديث ابن جعدبة للمنصور قال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ? قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها? قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله? قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد? قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء. قتال أهل النخيلة قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، فرأى تعطيل إحداهما طعناً على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه، ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " " النساء: 95 "، فكل أجاب وبايع. فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، " إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " " هود: 56 "، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً. وفيهم يقول عمران بن حطان: إني أدين بما دان الـشـراة بـه يوم النخيلة عند الجوسق الخرب وقال الحميري يعارض هذا المذهب: إني أدين بما دان الوصـي بـه يوم النخيلة من قتل المحلـينـا وبالذي دان يوم النهر دنت بـه وشاركت كفه كفي بصفـينـا تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ومثلها فاسقني آمـين آمـينـا مناظرة أهل النخيلة لابن عباس وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً. المستورد التيمي وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه. كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة. وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك. وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب. وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك. وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد. وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت. الخوارج ومعاوية قال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار. فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً أكثره أهل الكوفة ثم قال لأبيه، فأداره فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر ، فقال: يا أبا حوثرة، عتا هذا جداً!. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!. فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول: أكرر على هذي الجموع حوثره فعن قليل ما تنال المغـفـرة فحمل عليه رجل من طيئ فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً. وأنا أحسب أن قول القائل: وأجرأ من رأيت بظهر عـيب على عيب الرجال ذوو العيوب إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه. وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره: تعتبت تطلب ما استحـق بها لهجر منك ولا تقـدر وماذا يضيرك من شهرتي إذا كان سرك لا يشهـر أمني تخاف انتشار الحديث وحظي في ستره أوفـر ولو لم تكن في بقيا عليك نظرت لنفسي كما تنظر من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله ، فقال لعلي: " يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: " أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه " - ووضع يده على لحيته - من هذا، ووضع يده على قرنه. ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه. ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!. ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت. وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان: وكنا قبل مهلكـه زمـانـاً نرى نجوى رسول الله فينا قتلتم خير من ركب المطايا وأكرمهم ومن ركب السفينا ألا أبلغ معاوية بن حـرب فلا قرت عيون الشامتينـا ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور! وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا مفرداً لهم، ولكنا نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة. الخوارج وزياد خرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي: لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فعرد عنهم الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم. ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لو لا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً . وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره. وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا. قتل مصعب لامرأة المختار ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: إن من أعظم الكبائر عنـدي قتل حسناء غادة عطـبـول قتلت باطلاً عل غـير ذنـب إن لله درها مـن قـتـيل! كتب القتل والقتال عـلـينـا وعلى المحصنات جر الذيول قال: وكان الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم. ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغوا مروا كراما" " الفرقان: 72 "، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " " الإسراء: 36 ". عبد الله بن زياد والخوارج عاد الحديث إلى أمر الخوارج. وكانت من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " " التحريم: 12 " وقال جل ثناؤه: " إلا عجوزاً في الغابرين " " الشعراء: 171 " - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس. ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم . لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع . فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?! من أخبار مرداس أبي بلال ويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ بعيراً له، فهرج البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً! وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل . والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي ، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم. ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله: أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتـقـى ومن خاض ف تلك الحروب المهالكا أحـب بـقـاء أو أرجـي سـلامة وقد قتلوا زيد بن حصن ومالـكـا?! فيا رب سلم نـيتـي وبـصـيرتـي وهب لي التقى حتى ألاقي أولـئكـا قوله: وقد قتلوا ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل : هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مـصـروم لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له. وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى. ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً! وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللات بن ثعلبة، في كلمة له: فلما أصبحوا صلوا وقاموا إلى الجرد العتاق مسومينا فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونـا بقية يومهم حتـى أتـاهـم سواد الليل فيه يراوغونـا يقول بصيرهم لما أتـاهـم بأن القوم ولوا هاربـينـا أألفا مؤمن فيما زعمـتـم ولكن الخوارج مؤمنونـا هم الفئة القليلة غير شـك على الفئة الكثيرة ينصرونا ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!. وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول: أقاتلهم وليس علـي بـعـث نشاطاً ليس هذا بالـنـشـاط أكر على الحروريين مهـري لأحملهم على وضح الصراط فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال. وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال : فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف. فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله. فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً. فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي. وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لو لا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي: ألا في الله لا في الناس شالت بداود وإخوتـه الـجـذوع مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلبـاً تحوم عليهم طـير وقـوع إذا ما الليل أظلـم كـابـدوه فيسفر عنهم وهـم ركـوع أطار الخوف نومهم فقامـوا وأهل الأمن في الدنيا هجوع وقال عمران بن حطان: يا عين بكي لمرداس ومصرعـه يا رب مرداس اجعلني كمرداس تركتني هائماً أبكي لمـرزئتـي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفـه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بـكـأس دار أولـهـا على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عـجـلاً منها بأنفاس ورد بعـد أنـفـاس عباد بن أخضر المازني قال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك . فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق: لقد أدرك الأوتـار غـير ذمـيمة إذا ذم طلاب التراث الأخاضـر هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر فنالوا التي ما فوقها نـال ثـائر أفادوا به أسداً لها في اقتحامـهـا إذا برزت نحو الحروب بصـائر ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه: كفعل كليب إذ أخلت بجارهـا وصر اللئيم معتم وهو حاضر وما لكليب حين تـذكـر أول وما لكليب حين تذكر آخـر وقال معبد بن أخضر: سأحمي دماء الأخـضـريين إنـه أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا عروة بن أدبة وكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من الحبس منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر ! وكان مع هذا ألكن يرتضخ لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو في سرب العلاء بن سوية. ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ. فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره . وأصحه عندنا أنه قال: لقد جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد مضى ذكره. قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي: ولقد قالت لجـارات لـهـا وتعرت ذات يوم تبـتـرد أكما ينعتني تبصـرنـنـي عمركن الله أم لا يقتصـد! فتهانفن وقد قـلـن لـهـا حسن في كل عين من تود حسد حملنه من أجـلـهـا وقديماً كان في الناس الحسد أمر زياد مع الخوارج وكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه. فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي . قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون. وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة ، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم ، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات. الرهين المرادي وشعره وقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم. وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي: يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي لا تأمنن لصرف الدهر تنقـيصـا إني لبائع مـا يفـنـى لـبـاقـية إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا وأسأل الله بيع النفس محتـسـبـاً حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية. وابن المنيح ومرداساً وإخـوتـه إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم. وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به. فأما قول جرير: ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع. وقوله: ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد. وأما قول ابن الرقيات: والذي نغص ابن دومة ما تـو حي الشياطين والسيوف ظماء فأباح العراق يضربهم بالسيف صلتاً وفي الضـراب غـلاء فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره. وقوله: ما توحي الشياطين، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل. فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة. وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً. المختار بن عبيد وبعض أخباره ويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير: تخبـر مـن لاقـيت أنـك عـائذ بل العائذ المظلوم في سجن عـارم ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى من الناس يعلم أنه غـير ظـالـم سمي النبي المصطفى وابن عمـه وفكاك أغلال وقاضـي مـغـارم وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً: بلد تأمن الحـمـامة فـيه حيث عاذ الخليفة المظلوم وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير: ألا من لقلب معنى غزل بذكر المحلة أخت المحل وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده ، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل . فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك ، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد . فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب. فلما صار ابن الأشتر بخازر وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول. قال أبو الحسن: السكوني أكثر ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام. فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج . وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم. قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة، وهو متوشح السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً. فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا. فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد. وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين . وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر : وليس بمنقذ لك منه إلا براكاء القتال أو الفرار وهذا باب اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم. وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا . فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس. والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر: يا للرجال ليوم الأربعـاء أمـا ينفك يبعث لي بعد النهى طربا وقال آخر: تكنفني الوشاة فأعجونـي فيا للناس للواشي المطاع وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!. وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت: يا لعنة الله والأقـوام كـلـهـم والصالحين على سمعان من جار فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم. وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت. والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم. فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في عمرو وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في زيد لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله. ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من زيداً? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً. ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر: يبكيك ناء بعيد الدار مغترب يا للكهول وللشبان للعجب! فقد أحكمت كل ما في هذا الباب. ثم نعود إلى ذكر الخوارج خالد بن عباد السدوسي قال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم ، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الزينبي. فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً ، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح ، يتتبعها فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران ، فلقيه بالمربد وهو يسأل عن لقحة صفي ، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال:ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي: آليت لا أغدو إلى رب لقحة أساومه حتى يعود المثلـم ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة. تفرق الخوارج ومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب. الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض. والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم.. ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس . ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي. وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته الخوارج بامتناعه من قتال علي. الخوارج وابن الزبير فكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك. فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع: لسانك لا ينكى بـه الـقـوم إنـمـا تنال بكفيك النجـاة مـن الـكـرب فجاهد أناساً حاربوا اله واصطـبـر عسى الله أن يخزي غوي بني حرب ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة. فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير. ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا . فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: " فقولا ل قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " " طه: 44 "، وقال رسول الله : " لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى " فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا " " لقمان: 15 " وقال جل ثناؤه: " وقولوا للناس حسناً " " البقرة: 83 "، وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله. فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه . ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله ، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله : " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ". فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: " سبقته إلى الجنة "، وقال: " أوجب طلحة ". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " " الفتح: 18 "، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم . ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " " الأحزاب: 6 ". فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه. وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة: يا صاحبي ارتجلا ثم املسـا لا تحسبا لدى الحصين محبسا إن لدى الأركان ناسناً بؤسا - قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا -: وبارقات يختلسن الأنفسا إذا الفتى حكم يوماً كلسا قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد. ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام ، من رهط الفرزدق: يا ابن الزبير أتهوى عصـبة قـتـلـوا ظلماً أباك ولمـا تـنـزع الـشـكـك ضحوا بعثمان يوم النـحـر ضـاحـية ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا! فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها. الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر: ومدججاً يسعى بشكته محمرة عيناه كالكلب فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج ، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً. خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهواز ويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس. وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس: سيكفيك عبس أخو كهمس مواقفة الأزد بالمـربـد وتكفيك عمرو على رسلها لكيز بن أقصى وما عددوا - لكيز هو عبد القيس -: وتكفيك بكراً إذا أقبلـت بضرب يسيب له الأمرد فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء. خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهما ولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك ، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، " وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً أو كفاراً " " نوح: 26 - 27 "، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: " إذا فرق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " " النساء: 77 "، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " " المائدة: 54 ". فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: " إلا أن مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه " " غافر: 28 "، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " " النساء: 95 ". ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان. فلما تتابع نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة والعرمة كالسكر ، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد: " فأرسلنا عليهم سيل العرم " " سبأ: 16 "، وقل النابغة الجعدي: من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " " التوبة: 91 ". ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: " ما على المحسنين من سبيل " " التوبة: 91 ". ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " " الأنعام: 164 " وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " " النساء: 95 "، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: " لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " " لقمان: 33 "، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام. فكتب إليه نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله. أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: " كنا مستضعفين في الأرض " " النساء: 97 "، فقيل لهم: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " " النساء: 97 "، وقال: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " " التوبة: 81 "، وقال: " وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم " " التوبة: 90 "، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " " التوبة: 90 ". فانظر إلى أسمائهم وسماتهم. وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " " إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " " نوح: 26، 27 "، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر " " القمر: 43 "، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام. وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق ، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به. كتاب نافع إلى ابن الزبير وكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره: أما بعد، فإني أحذرك من الله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه " " آل عمران: 30 "، فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " " آل عمران: 28 "، وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " " المائدة: 51 ". كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: " وقاتلوا المشركين كافة " " التوبة: 36 "، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: " انفروا خفافاً وثقالاً " " التوبة: 41 "! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين، فقال: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " " النساء: 95 "؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة ، وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " " البقرة: 197 "، والسلام على من اتبع الهدى. فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم ، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته. وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم: سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً: فارقت نجدت والذين تزرقوا وابن الزبير وشيعة الكذاب والصفرة الأذان الذين تخيروا ديناً بلا ثقة ولا بـكـتـاب - خفف الهمزة من الآذان ولو لا ذلك لانكسر الشعر -. وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج. إلى ههنا انتهت المقالة. مقتل نافع بالأهواز وتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد ، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار ، ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى ، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق. وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً. وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد ، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن ، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه: اللـه أيد عـمـرانـاً وطـهـره وكان عمران يدعو الله في السحر يدعوه سراً وإعـلانـاً لـيرزقـه شهادة بـيدي مـلـحـادة غـدر ولى صحابته عن حر مـلـحـمة وشد عمران كالضرغامة الهصر قول الربيع: استشلتني، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها، قال رؤبة: إن سليمان اشتلانا ابن علي وقول الناس: اشليت كلبي أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته. وقولها: بيدي ملحادة مفعال من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة. وغدر فعل من الغدر، ولفعل باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة. والضرغامة: من أسماء الأسد. والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمـحـت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب فعل. لقطري في يوم دولاب قال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري: لعمرك إني في الـحـياة لـزاهـد وفي العيش ما لم ألـق أم حـكـيم من الخفرات البيض لم ير مثلـهـا شفـاء لـذي بـث ولا لـسـقـيم لعمرك إني يوم ألطـم وجـهـهـا على نائبـات الـدهـر جـد لـئيم ولو شهدتني يوم دولاب أبـصـرت طعان فتى في الحرب غير ذمـيم غداة طفت علماء بـكـر بـن وائل وعجنا صدور الخيل نحـو تـمـيم وكان لعبـد الـقـيس أول جـدهـا وأحلافها من يحـصـب وسـلـيم وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى تعوم وظلنا في الـجـلاد نـعـوم فلم أر يوماً كان أكثر مـقـعـصـاً يمـج دمـاً مـن فـائظ وكـلـيم وضاربة خدا كريماً علـى فـتـى أغر نـجـيب الأمـهـات كـريم أصيب بدولاب ولم تـك مـوطـنـاً له أرض دولاب ودير حـمـــيم فلو شهـدتـنـا يوم ذاك وخـلـنـا تبيح من الـكـفـار كـل حـريم رأت فتية باعوا الإله نـفـوسـهـم بجنـات عـدن عـنـده ونـعـيم قوله: ولو شهدتنا يوم دولاب فلم ينصرف دولاب فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب، فوعال مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب. وقوله: غداة طفت علماء بكر بن وائل وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون علماء بنو فلان كما قال الفرزدق: وما سبق القيسي من ضعف حيلة ولكن طفت علماء قلفة خـالـد وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم. وقال آخر نم الخوارج: يرى من جاء ينظر من دجيل شيوخ الأزد طافية لحاهـا وقال رجل منهم: شمت ابن بدر والحوادث جمة والحائرون بنافع بن الأزرق والموت حتم لا محالة واقـع من لا يصبحه نهاراً يطـرق فلئن أمير المؤمنين أصـابـه ريب المنون فمن يصبه يغلق نصب بعد إن لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفساً أهلكتـه وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي وقال ذو الرمة: إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى. هذا باب فعل اعلم أن كل اسم على مثال فعل مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال: قد لفها الليل بسواق حطم وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: " أهلكت مالاً لبدا " " البلد: 6 ". فإن كان الاسم على فعل معدولاً عن فاعل لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث. وإنما قالت: بيدي ملحادة غدر في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به ملحادة كما قال الحطيئة: أجول ما أجول ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها غدر بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة فعل في المذكر، ولو سميت رجلاً حطماً لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة صرد في الأسماء. هذا باب النسب إلى المضاف النسب إلى العلم المضاف اعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري. قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي. النسب إلى المضاف غير العلم فإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي. النسب إلى الجماعة فأما قولهم: صفري فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا صفراً اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة. فأما قولهم: الأزارقة، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة. ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك. وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " " الصافات: 130 "، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال: قدني من نصر الخبيبيين قد يريد أبا خبيب ومن معه. وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره. عاد القول في الخوارج قال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة. الأزارقة وولاة البصرة ويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً. وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته ، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب ، وفيه يقول رجل من قومه : ألم تر أن حارثة بـن بـدر يصلي وهو أكفر من حمار ألم تر أن للفتـيان حـظـاً وحظك في البغايا والقمار فكتب إليه القباع: تكفيني حربهم إن شاء الله. فقام حارثة يدافعهم. فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر: مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز وأعقبنا هذا الحجازي عـثـمـان فأرعد من قبل اللقاء ابن معـمـر وأبرق والبرق اليمـانـي خـوان فضحت قريشاً غثها وسمـينـهـا وقيل بنو تيم بـن مـرة عـزلان فلولا ابن بدر لعراقـين لـم يقـم بما قام فيه للعـراقـين إنـسـان إذا قيل من حام الحقـيقة أومـأت إليه معد بالأنـوف وقـحـطـان قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله: أرعد وأبـرق يا يزيد فما وعيدك لي بضائر وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله: أنبضوا معجس القسي وأبرق نا كما ترعد الفحول الفحولا وأنه لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وهو يرعد ويبرق وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر: فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد وروى غير الأصمعي أرعد وأبرق على ضعف. وقوله: والبرق اليماني خوان، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن يمني ويجوز يمان بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز يماني فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب: ضربناهم ضرب الأحامس غدوة بكل يماني إذا هز صـمـمـا تولية المهلب لقتال الخوارج وأخباره معهم ثم إن حارثة تفرق الناس عنه أقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب وأصحابه يركض، حتى أتى دجيلاً، فجلس في سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه، فكانوا معه، وأتاه رجل من بني تميم وعليه سلاحه، والخوارج وراءه وقد توسط حارثة، فصاح به: يا حارث؛ ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف، ولا فرضة هناك . فطفر بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعاً. وأقام ابن الماحوز يجبي كور الأهواز ثلاثة أشهر، ثم وجه الزبير بن علي نحو البصرة، فضج الناس إلى الأحنف، فأتى القباع فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزلاً، قال: فسموا رجلاً، فقال الأحنف: الرأي لا يخيل ، ما أرى لها إلا المهلب بن أبي صفرة، فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة! اجتمعوا إلي في غد. وجاء الزبير حتى نزل الفرات، وعقد الجسر ليعبر إلى ناحية البصرة، فخرج أكثر أهل البصرة إليه. وقد اجتمع للخوارج أهل الأهواز وكورها، رغبة ورهبة، فأتاه البصريون في السفن وعلى الدواب ورجالة. فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما رآهم: أبى قومنا إلا كفراً، فقطع الجسر، وأقام الخوارج بالفرات بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً، وكانوا ثلاث فرق، فسمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، فصرفهم، ثم اختبر ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن ذلك ، وعاد إليه من أشار بهما وقالوا: قد رجعنا عن رأينا، ما نرى لها إلا المهلب، فوجه الحارث إليه فأتاه، فقال له: يا أبا سعيد، قد ترى ما رهقنا من هذا العدو، وقد اجتمع أهل مصرك عليك، وقال الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك بها ولكنا لم نر من يقوم مقامك. فقال الحارث - وأومأ إلى الأحنف - إن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثاراً للدين، وكل من في مصرك ماد عينه إليك، راج أن يكشف الله عز وجل هذه الغمة بك، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبياً ما دعوتم إليه، على شروط أشترطها. قال الأحنف: قل، قال: على أن أنتخب من أحببت، قال: ذاك لك، قال: ولي إمرة كل بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال: ولي فيء كل بلد أظفر به. قال الأحنف: ليس ذاك لك ولا لنا، إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم، ولكن لك أن تعطي أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت، وتنفق منه ما شئت على محاربة عدوك، فما فضل عنكم كان للمسلمين. فقال المهلب: فمن لي بذلك? قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك، قال: قد قبلت. فكتبوا بذلك كتاباً ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، وانتخب المهلب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته اثني عشر ألفاً، ونظروا ما في بيت المال، فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت، فبعث المهلب إلى التجار: إن تجارتكم مذ حول قد كسدت، عليكم بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلم بايعوني واخرجوا معي أوفكم إن شاء الله حقوقكم، فتاجروه، فأخذ من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوة بالصوف. ثم نهض وأكثر أصحابه رجالة، حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأحضرت وأصلحت، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها، ثم أمر الناس بالعبور إلى الفرات، وأمر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس، فلما قاربوا الشاطئ خاضت إليهم الخوارج، فحاربهم المغيرة ونضحهم بالسهام حتى تنحوا، فصار هو وأصحابه على الشاطئ، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم، حتى عقد المهلب الجسر، وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن اتباعهم. ففي ذلك يقول شاعر من الأزد: إن العراق وأهلـه لـم يخـروا مثل المهلب في الحروب فسلموا أمضى وأيمن في اللقاء نـقـيبة وأقل تهليلاً إذا ما أحـجـمـوا التهليل: التكذيب والانهزام. وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، وكان من فرسان بني تميم وشجعانهم، فقال عطية: يدعى رجال للعطاء وإنمـا يدعى عطية للطعان الأجرد وقال الشاعر: وما فارس إلا عـطـية فـوقـه إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما به هزم اللـه الأزارق بـعـدمـا أباحوا من المصرين حلاً ومحرما فأقام المهلب أربعين يوماً يجبي الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلب التجار وأعطى أصحابه، فأسرع إليه الناس رغبة في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم، وللتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رياح ومعاوية بن قرة المربي - وكان يقول - يعني معاوية -: لو جاء الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية - وأبو عمران الجوني، وكان يقول: كان كعب يقول: قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أنوار. ثم نهض المهلب إليهم إلى نهر تيرى، فتنحوا عنه إلى الأهواز، وأقام المهلب يجبي مال حواليه من الكور، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج، فإأتوه بأخبارهم ومن في عسكرهم، فإذا حشوة ؛ ما بين قصار وصباغ وداعر وحداد. فخطب المهلب الناس، فذكر من هناك، وقال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم! فلم يزل مقيماً حتى فهمهم وأحكم أمره، وقوى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتام إليه زهاء عشرين ألفاً. ثم مضى يؤم سوق الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، وفي مقدمته المغيرة بن المهلب، حتى قاربهم المغيرة، فناوشوه، فانكشف عنه بعض أصحابه، وثبت المغيرة بقية يومه وليلته، يوقد النيران، ثم غاداهم القتال، فإذا القوم قد أوقدوا النيران في ثقلة متاعهم، وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة، وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز، وكتب بذلك إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كتاباً يقول فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد: فإنا منذ خرجنا نؤم هذا العدو في نعم من الله متصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين، الذي من عنده النصر، وهو العزيز الحكيم. فكتب إليه الحارث: هنيئاً لك أخا الأزد، الشرف في الدنيا، والذخر في الآخرة، إن شاء الله! فقال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز! أما ترونه عرف اسمي واسم أبي وكنيتي! وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن، كما يبثهم في الخوف، ويذكي العيون في الأمصار، كما يذكيها في الصحارى، ويأمر أصحابه بالتحرز، ويخوفهم البيات ، وإن بعد منهم العدو، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا: هزمنا وغلبنا، فإن القوم خائفون وجعون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيباً فقال: يا أيها الناس؛ إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم. فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله، والمعصي المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعاً وقتلوا، فالقوهم بجد وحد، فإنما هم مهنتكم وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطأوا حريمكم. ثم سار يريدهم، وهم بمناذر الصغرى، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلاً، فيهم صالح بن مخراق، إلى نهر تيرى، وبها المعارك بن أبي صفرة، فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيرى وقد خرج واقد منها، فاستنزله ودفنه، وسكن الناس، واستخلف بها، ورجع إلى أبيه وقد حل بسولاف ، والخوارج بها، فواقعهم، وجعل على بني تميم الحريش بن هلال، فخرج رجل من أصحاب المهلب، يقال له عبد الرحمن الإسكاف، فجعل يحض الناس وهو على فرس له صفراء، فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب، فيحض الناس ويهون أمر الخوارج، ويختال بين الصفين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحية? فحمل جماعة منهم على الإسكاف، فقاتلهم وحده فارساً، ثم كبا به فرسه ، فقاتلهم راجلاً، قائماً وباركاً، ثم كثرت به الجراحات، فذبب بسيفه، وجعل يحثو التراب في وجوههم، والمهلب غير حاضر، ثم قتل رحمه الله، وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وعطية العنبري: أأسلمتما سيد أهل العسكر، لم تعيناه ولم تستنقذاه، حسداً له، لأنه رجل من الموالي! ووبخهما، وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه وقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتلوا سبعين رجلاً، وثبت المهلب، وأبلى المغيرة يومئذ وعرف مكانه، ويقال: حاص المهلب يومئذ حيصة . وتقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أبارهم، فقال رجل من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعد بن مناة بن تميم: بسولاف أضعت دماء قومي وطرت على مواشكة درور قوله: مواشكة يريد سريعة، ويقال: نحن على وشك رحيل. ويقال: ذميل مواشك، إذا كان سريعاً، قال ذو الرمة: إذا ما رمينا رمية في مفازة عراقيبها بالشيظمي المواشك ودرور، فعول من در الشيء، إذا تتابع. وقال رجل من بني تميم آخر: تبعنا الأعور الكذاب طوعـاً يزجي كل أربعة حـمـارا فيا ندمى على تركي عطائي معاينة وأطلبـه ضـمـارا إذا الرحمن يسر لي قـفـولاً فحرق في قرى سولاف نارا قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب، ويقال: غارت عينه بسهم كان أصابها. وقال: الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله من قوله: " كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد ". وجاء عنه : " إنما أنت رجل، فخذل عنا، فإنما الحرب خدعة ". وقال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وهما سيدا الحيين، الخزرج والأوس: " إيتيا بني قريظة، فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحناً أعرفه. ولا تفتا في أعضاد المسلمين. فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقرة. قال: فقال رسول الله : " أبشروا فإن الأمر ما تحبون ": قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما: عضل والقارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله . فأرادا في الانحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين. قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج. فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم: أنت الفتى كل الفـتـى لو كنت تصدق ما تقول فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصار في أربعة آلاف. فخطب أصحابه فقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن الضعف والطمع والطبع، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. فسيروا إلى عدوكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك! فإن بالقوم جراحاً وقد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه ومضى المهلب في عشرة، فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منهم أحداً يتحرك فقال الحريش: ارتحل عن هذا الموضع، فارتحل، فعبر دجيلاً، وصار إلى عاقول لا يؤتى إلا من وجه واحد. فأقام به وستراح الناس ثلاثاً، وقال ابن قيس الرقيات: ألا طرقت من آل بثنة طـارقـه على أنها معشوقة الدل عاشقـه تبيت وأرض السوس بيني وبينهـا وسولاف رستاف حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنـا عـصـابة حرورية أضحت من الدين مارقه أجازت إلينا العسكرين كليهـمـا فباتت لنا دون اللحاف معانـقـه وقد ذكرنا الضمار ومعناه الغائب. وأصله من قولك: أضمرت الشيء أي أخفيته عنك، ويقال: مال عين، للحاضر. ومال ضمار، للغائب. قال الأعشى: ومن تـضـيع لـه ذمة فيجعلها بعد عين ضمارا وقال أيضاً: أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم تـرم أرانا إذا أضمرتك البـلا د تجفي وتقطع منا الرحم والفعل من هذا أضمر يضمر، والمفعول به مضمر، والفاعل مضمر، والضمار، اسم للفعل في معنى الإضمار. وأسماء الأفعال تشرك المصادر في معانيها، تقول أعطيته عطاء، فيشر كالعطاء الإعطاء في معناه، ويسمى به المفعول. وتقول: كلمته تكليماً وكلاماً في معناه. والمصدر ينعت به الفاعل في قولك: رجل عدل، ورجل كرم، ورجل نوم، ويوم غم وغيم، وينعت به المفعول في قولك: رجل رضحاً، وهذا درهم ضرب الأمير، وجاءني الخلق، تعني المخلوقين. وقال رجل من الخوارج في ذلك اليوم: وكائن تركنا يوم سلاف مـنـهـم أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها قوله: وكائن معناه كم وأصله كاف التشبيه دخلت على أي فصارتا بمنزلة كم، ونظير ذلك له كذا وكذا درهماً، إنما هي ذا دخلت عليها الكاف. والمعنى له كهذا العدد من الدراهم. فإذا قال له كذا كذا درهماً، فهو كناية عن أحد عشر درهماً إلى تسعة عشر، لأنه ضم العددين. فإذا قال: كذا وكذا، فهو كناية عن أحد وعشرين إلى ما جاز فيه العطف بعده. لكن كثرت كأي فخففت، والتثقيل الأصل، قال الله تعالى: " وكأين من قريت أمليت لها وهي ظالمة " " الحج: 48 ". " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " " آل عمران: 146 ". وقد قرئ بالتخفيف. كما قال الشاعر: وكائن رددنا عنكم من مـدجـج يجيء أمامك الألف يردي مقنعاً وقال آخر: وكائن ترى يوم الغميصاء من فتى أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا قال أبو العباس: وهذا أكثر على ألسنتهم، لطلب التخفيف، وذلك الأصل، وبعض العرب يقلب فيقول: كيئ يا فتى. فيؤخر الهمزة لكثرة الاستعمال. قال الشاعر: وكيئ في بني دودان منهم غداة الروع معروفاً كمي قال أبو العباس: فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى وسلبرى. قال الأخفش: سلى وسلبرى بفتح السين فيهما: موضعان بالأهواز، وسلى بكسر السين موضع بالبادية. وكذا ينشد هذا البيت: كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق في بلد قفـار فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدهم? فقال له وافد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة. فإن أصبتهم لم يكن ظفراً هنيئاً. لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا. فإن غلبوا ذهب الدين، فقال أصحابه، نافق وافد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم. فإنه إنما قال هذا نظراً لكم، ثم توجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم، فأتاهم في مائتين. فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس. حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبية صحيحة، فالتقوا بسلى وسلبرى فتصافوا. فخرج من الخوارج مائة فارس، فركزوا رماحهم بين الصفين واتكأوا عليها. وأخرج إليهم المهلب عدادهم، ففعلوا مثل ما فعلوا، لا يريمون إلا لصلاة حتى أمسوا، فرجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هذا ثلاثة أيام. ثم إن الخوارج تطاردو لهم في اليوم الثالث، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة. ثم إن رجلاً من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه، فحمل الخوارج بأجمعهم، كما صنعوا يوم سولاف، فضعضعوا الناس، وفقد المهلب. وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم المهلب في مائة فارس، وقد انغمست كفاه في الدماء، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر ، محشوة قزاً، وقد تمزقت. وإن حشوها ليتطاير. وهو يلهث. وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحارهم إلى الليل. حتى كثر القتل في الفريقين. فلما كان الغد غاداهم، وقد كان وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم بن الأزد يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده. فقال: إن الأمير أذن لي، فبعث إلى المهلب فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف، وقد تفرق أكثر الناس، فغاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلة، أيعجز أحدكم أن يرمي رمحه ثم يتقدم فيأخذه، ففعل لك رجل من كندة يقال له عياش، وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة. وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس وتصرع الراجل، ففعلوا. ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه. يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو. ففعل، حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا المهلب بسيدهم. وهو معاوية بن عمرو، فجعل يركله برجله وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير! أعفني من أم كيسان والركبة تسميها الأزد أم كيسان. ثم حمل المهلب وحملوا. فاقتتلوا قتالاً شديداً. فجهد الخوارج، فنادى مناديهم: ألا إن المهلب قد قتل! فركب المهلب برذوناً قصيراً أشهب، وأقبل يركض بن الصفين، وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر بها، وهو يصيح: أنا المهلب! فسكن الناس مع العصر، فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم، ففعل، وصاح بذكوان مولاه، قدم رايتك، ففعل. فقال له رجل من ولده: إنك تغرر بنفسك. فذمره ثم صاح: يا بني تميم، أآمركم فتعصونني! فتقدم وتقدم الناس، واجتلدوا أشد جلاد. حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز. وانصرف الخوارج، ولم يشعر المهلب بقتله. فقال لأصحابه: ابغوني رجلاً جلداً يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا: إنا لم نر رجلاً قط أشد منه، قطوف ومعه النيرا، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال: كافر ورب الكعبة! فأجهز عليه، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله. وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان نصف الليل وجه رجلاً من اليحمد قال الأخفش: اليحمد من الأزد، والخليل من بطن منهم، يقال لهم الفراهيد. والفرهود في الأصل الحمل. فإن نسبت إلى الحي قلت: فراهيدي، وإن نسبت إلى الحملان قلت: فرهودي لا غير. في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج. فإذا القوم قد تحملوا إلى أرجان. فرجع إلى المهلب فأعلمه. فقال: أنا لهم الساعة أشد خوفاً، فاحذروا البيات. قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوماً: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات. فإن كان ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون. فإن رسول الله كان يأمر بها ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما أصبح المهلب غدا على القتلى، فأصاب ابن الماحوز فيهم. ففي ذلك يقول رجل من الخوارج: بسلى وسلبرى مصارع فـتـية كرام وجرحى لم توسد خدودها وقال آخر: بسلى وسلبرى مصـارع فـتـية كرام وعقرى من كميت ومن ورد وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت بحجر واحد ثلاثة. رميت به رجلاً فأصبت أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر فضربت به آخر على هامته فصرعته، ثم صرعت به ثالثاً. وقال رجل من الخوارج: أتانا بأحجار لـيقـتـلـنـا بـهـا وهل تقتل الأبطال ويحك، بالحجر! وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز: ويوم سلى وسلبرى أحاط بهـم منا صواعق ما تبقي ولا تذرد حتى تركنا عبيد الله منـجـدلاً كما تجدل جذع مال منقعـر قال أبو العباس: تقول العرب: صاعقة وصواعق. وهو مذهب أهل الحجاز، وبه نزل القرآن، وبنو تميم يقولون: صاقعة وصواقع. والمنقعر: المنقلع من أصله. قال الله أصدق القائلين: " كأنهم أعجاز نحل منقعر " " القمر: 20". ويورى أن رجلاً من الخوراج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله بمثلك المسلمين! فضحك الخارجي وقال: أمك خير لك مني صاحبا تسقيك محضاً وتعل رائبا وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس سرجه، وحمل من تحتها فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، حتى تخرمت الميمنة من أجله. وكان أشد ما تكون الحرب أشد ما يكون تبسماً، فكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشر في وجهه. فإن تلك قتلى يوم سلى تتابعت فكم غادرت أسيافنا من قماقم! غداة نكر المشرفـية فـيهـم بسولاف يوم المأزق المتلاحم المأزق: هو يوم تضايق الحرب. والمتلاحم: نعت له. والمشرفية: السيوف. نسبت إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب موته الذي قتل به جعفر بن أبي طالب وأصحابه. قال الأخفش: كان المبرد لا يهمز مؤتة. ولم أسمعها من علمائنا إلا بالهمز. قال أبو العباس: فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإنا لقينا لأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر، بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد. فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة رماحنا، وضرائب سيوفنا . وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، ارجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام. وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام، وقولوا له: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف. فلما لم يره قال لأصحابه: أما كتب إلينا? فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه. فقال: هذه أحب إلي من هذه الكتب. واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بني سليط بن يربوع. من رهط ابن الماحوز. فرأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً. فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف. وقد أصبتم فيهم مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر. وأشجيتم المهلب. وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس " " آل عمران: 140 "، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين. ثم تحمل لمحاربة المهلب، فنفحهم المهلب نفحة، فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض ، يقرب من عسكره، مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوماً يطوف بعسكره ويتفقد سواده، فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كميناً. فبعث عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة. فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا، وكسفت الشمس، فصاحوا بهم: يا أعداء الله! لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعاً إلى أرجان، وقد جمع جموعاً. وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعاً، فلا ترهبوهم فتخبث قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان فألفوه مستعداً آخذاً بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهوراً بيناً. ففي ذلك يقول رجل من بني تميم، أحسبه من بني رياح بن يربوع: سقى الله المهلب كل غـيث من الوسمي ينتحر انتحارا فما وهن المهلب يوم جاءت عوابس خيلهم تبغي الغوارا وقال المهلب يومئذ: ما وقعت في أمر ضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق . وكانوا صبروا معه في غير موطن. وقال رجل من بني تميم، من بني عبشمس بن سعد: ألا يا من لصب مسـتـحـن قريح القلب قد صحب المزونا لهان على المهلب ما لقـينـا إذا ما راح مسروراً بطـينـا يجر السابري ونحن شـعـث كأن جلودنا كسيت طحـينـا المزون: عمان. وهو اسم من أسمائها، قال الكميت: فأما الأزد أزد أبي سعيد فأكره أن أسميها المزونا وقال جرير: واطفأت نيران المزن وأهلها وقد حاولوها فتنة أن تسعرا وحمل يومئذ الحريش بن هلال على قيس الإكاف، وكان قيس من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدق صلبه. وقال: قيس الإكاف غداة الروع يعلمني ثبت المقام إذا لاقيت أقرانـي وقد كان فل المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة. ذكروا أن المهلب أصيب، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره. فأقام الناس، وتراجع من كان ذهب منهم. فعند ذلك يقول الأحنف بن قيس: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يقال له فلان بن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: رأيت رجلاً من الخوارج وقد مكن رمحه من صلبه. فقدم المنعي، فقيل له ذلك. فقال: صدق ابن أرقم، لما أحسسن برمحه بين كتفي صحت: البقية! فرفعه عني، وتلا: " بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " " هود: 86 ". ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأي عبيد الله بن بشير بن الماحو إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع. فلما صار بكريج دينار لقيه حبيب وعبد الملك وعلي، بنو بشير بن الماحوز، فقالوا له: ما الخبر? ولا يعرفهم. فقال: قتل الله المارق ابن الماحوز، وهذا رأسه معي. فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا الرأس، فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا? فخبر فقتله. ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول، وكانت زين بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها. توليه مصعب بن الزبير على البصرة واستقدامه للمهلب فلم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع، حتى عزل الحارث وولي مصعب بن الزبير، فكتب إليه أن أقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، ففعل، فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبراً وتبجيلاً، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صواباً قط إلاسبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب. وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته. وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليتك، فشمر واتزر وجد واجتهد. ثم شخص المصعب إلى المذار فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد. وقال للمهلب: أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك فقال: أذكر لك واحداً من ثلاثة: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي. أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي. أو داود بن قحذم. فقال: أو تكفيني? قال: أكفيك إن شاء الله. فولاه الموصل. فشخص المهلب إليها. مشاورة مصعب الناس فيمن يكفيه أمر الخوارج وصار مصعب إلى البصرة، فسأل: من يستكفي أمر الخوارج وفد إلى أخيه? فشاور الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم. وبلغت المشورة الخوارج. فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره؛ وإن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه لا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فولى عليهم عمر بن عبيد الله. وولاه فارس، والخوارج بأرجان، وعليهم الزبير بن علي السليطي. فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعباً ولى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها. فجمعوا له وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور، فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ. فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت? قال: قد سلم الله عز وجل، ولم يكونوا يطمعون من المهلب مثلها. فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا لعدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيراً. ثم زحف الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرة. فكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها، ثم عبروا، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل فقال قطري: لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور. ولم يعلم عمر بقتل ابنه؛ حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد، فصاح به: يا نعما، أين ابني? فقال: احسبه أيها الأمير فقد استشهد رحمه الله صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها. وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً من الخوارج، فلما استقروا قال لهم قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف! فجعلوه وجوههم حتى خرجوا من فارس. وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره، وأراد قتله، فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له: وشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي إلى قطري ذي الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم وحججتهـم وما دينهم غير الهوى والتخلق ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا. قال الأخفش: تكانفوا: أعان بعضهم بعضاً واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض. وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر، وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة. فرزق الله عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة. ورزقنا عليهم الظفر. فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة، فيممتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل. فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعيد، فالتقوا، فألح عليهم حتى أخرجهم. وانفرد عمر من أصحابه. فعمد له أربعة عشر رجلاً منهم، من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلاً منهم ضرة إلا صرعه. فركض إليه قطري على فرس طمرة وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة! إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري عن قربوسه. فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط عنه جلده ونجا. ارتحل القوم إلى أصبهان فأقاموا بها برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر، فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعاً، فقال له : كم جبيت? قال: تسعمائة ألف. فقال: هي لك. فقال يزيد بن الحكم الثقفي لمجاعة: ودعاك دعوة مرهق فأجبتـه عمر وقد نسي الحياة وضاعا فرججت عادية الكتيبة عن فتى قد كاد يترك لحمـه أوزاعـا وعزل مصعب بن الزبير وولي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجه المهلب إليهم، فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم رد مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك شيئاً يجبون القرى. ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يحاربك! والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك، وخرج مصعب من البصرة يريدهم. وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم. فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا المدائن، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، ففي ذلك يقول الشاعر: تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ بساباط لم يعطف عليه خليل ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها، وواليها الحارث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخروج وكان جباناً. فذمره إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر: إن القباع سار سيراً نكرا يسير يوماً ويقيم شهـرا وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج. والخوارج يفشون ، حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها. وكانت جميلة، ثما أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها، ثم قربوا أخرى، وهم بحذاء القباع والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع، وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقول : علام تقتلونني? فوالله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت! والناس يتفلتون إلى الخوارج، والقباع يمنعهم، فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر، فأقام بين دباها ودبيرى خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غداً فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح، ثم السلة، فثكلت رجلاً أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل? وقال الراجز: إن القباع سار سيرا ملسا بين دباها ودبيرى خمساً فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وصاروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء. وإنما سمي الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة القباع، لأنه ولي البصرة فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرآة العين وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه، يقال: انقبع الرجل، إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع، وذلك أنه يخنس رأسه. قال أبو العباس: وأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا منه بكبير، فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها. وشاور مصعب الناس فيهم ، فاجتمع رأيهم على المهلب، فبلغ الخوارج مشاورته ، فقال لهم القطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء اللازم، والمكروه الدائم. وعزم المصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك، فلما أحس به الزبير بن علي خرج إلى الري، وبها يزيد بن الحارث بن رؤيم، فحاربه ثم حصره، فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن رؤيم، ونادى يومئذ ابنه حوشباً ففر عنه وعن أمه لطيفة، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رؤيم يعود ابنه يزيد، فقال له: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ. وفي ذلك يقول الشاعر: مواقـفـنـا فـي كــل يوم كـــريهة أسر وأشفى مـن مـواقـف حـوشـب دعـاه يزيد والـرمـــاح شـــوارع فلم يستجب بـل راغ تـرواغ ثـعـلـب ولو كان شهم الـنـفـس أو ذا حـفـيظة رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى. وقال آخر: نجى حليلته وأسلـم شـيخـه نضب الأسنة حوشب بن يزيد وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف ابن عمر: يا ابن حوراء. فقال بلال وكان جلداً: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة. وزعم الكلبي أن بلالاً كان جلداً حين ابتلي قال الكلبي: ويعجبني أن أرى الأسير جلداً قال وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف بن عمر: الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للعصبية فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن علي: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب. وإنما جرى إلى هذا، لأنه يقال إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وإنهم أشابة دخلت في بني منقر من الروم.