انتقل إلى المحتوى

العقد الفريد (1953)/الجزء الأول/كتاب اللؤلؤة في السلطان/تحلم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تحلُّم السلطان

على أهل الدين والفضل إذا اجترءوا عليه

أبو جعفر مع مالك وابن طاوس

زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إليّ وإلى ابن طاوس؛ فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضّدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة1 بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا. فأطرق عنا طويلا2، ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له: حدّثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت ابي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله» . فأمسك ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا بن طاوس قال: نعم يا أمير المؤمنين، [إنّ] الله تعالي يقول ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، ثم قال: يا بن طاوس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه. ثم قال: ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه؛ فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم.

قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله.

أبو هريرة ومروان حين أبطأ بالجمعة

أبو بكر بن أبي شيبة قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة

فقال له: أتظل عند ابنة فلان تروّحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحرّ؟ لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال:

اسمعوا من أميركم.

بين أبي جعفر وابن أبي ذئب

فرج بن سلام عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني رجل من أهل المدينة كان ينزل بشقّ بني زريق، قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدّث قال: سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو ينظر فيما بين رجل من قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من قريش؛ فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد. وكان عامله على المدينة. قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ بالإحنة «1» ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشّر، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أعفني. قال: لا بدّ أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسويّة. قال: فتغير وجه أبي جعفر. فقال ابراهيم بن يحي ابن محمد بن علي صاحب الموصل: طهّرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال: اقعد يا بنيّ، فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. قال: ثم تدارك ابن أبي ذئب الكلام فقال: يا أمير المؤمنين، دعنا مما نحن فيه؛ بلغني أنّ لك ابنا صالحا بالعراق، يعني المهدي قال: أما إنك قلت ذلك، إنه الصّوام القوّام البعيد ما بين الطرفين3 قال: ثم قام ابن أبي ذئب فخرج، فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق العقل، ولقد قال بذات نفسه. مقال الاصمعي: ابن أبي ذئب، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم.

المأمون والحارث بن مسكين

قال: ودخل الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد، وذكر قوله فلم يعجب المأمون. فقال: لقد تيّست فيها وتيّس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين من التّيسين أتيس؛ فتغيّر وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج وتندّم على ما كان من قوله، فلم يستقرّ في منزله حتى أتاه رسول المأمون، فأيقن بالشر ولبس ثياب أكفانه؛ ثم أقبل حتى دخل عليه، فقرّبه المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا، إن الله قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شرّ مني، فقال لنبيه موسى صلّى الله عليه وسلّم إذ أرسله إلى فرعون: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب، وأستغفر الرب. قال: عفا الله عنك، انصرف إذا شئت.

المنصور وأبو سفيان الثوري

وأرسل أبو جعفر إلى سفيان الثّوريّ، فلما دخل عليه قال: عظني ابا عبد الله. قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ فما وجد له المنصور جوابا.

أبو النضر وعامل للخليفة

ودخل أبو النضر سالم مولي عمر بن عبد الله على عامل للخليفة، فقال له أبا النضر، إنّا تأتينا كتب من عند الخليفة فيها وفيها، ولا نجد بداّ من إنفاذها، فما ترى؟ قال له أبو النضر؛ قد أتاك كتاب من الله تعالى قبل كتاب الخليفة؛ فأيّهما اتبعت كنت من أهله.

ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشّعبيّ. أنّ زيادا كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاريّ، وكان على الصائفة 4: إن أمير المؤمنين معاوية كتب إليّ يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة [واقسم ما سوى ذلك5] فكتب إليه: «إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين.

والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقا على عبد فاتقى الله لجعل له منها مخرجا» ثم نادى في الناس فقسّم فيهم ما اجتمع له من الفيء.

ابن هبيرة والحسن البصري والشعبي

ومثله قول الحسن حين أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذنها وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك، الشعبيّ فقيه الحجاز. فسأله فرقّق له الشعبيّ وقال له: قارب وسدّد، فإنما أنت عبد مأمور، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا بن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه؛ فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن وقال: هذا الشيخ صدقني وربّ الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف، وللشعبي بألفين؛ فقال الشعبي: رققنا فرقق لنا. فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرّقها، وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها.

معاوية والأحنف في استخلاف يزيد

ونظير هذا: قول الأحنف بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد. فسكت عنه، فقال: مالك لا تقول؟ فقال: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله! فقال له: صدقت.

كتاب أبي الدرداء إلى معاوية

وكتب أبو الدرداء إلى معاوية: أما بعد. فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.

كتاب عائشة إلى معاوية

وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: أما بعد فإنه من يعمل بمساخط الله

يصر حامده من الناس ذامّا له. والسلام.

هشام وناصح نصحه بأربع

أبو الحسن المدائني قال: خرج الزّهري يوما من عند هشام بأربع، قيل له: وما هن؟ قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمين، احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك. فقال: هاتهن. فقال: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال لا يغرّنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا. قال: هات الثالثة. قال: واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال: هات الرابعة. قال: واعلم أن الأمور بغتات فكن على حذر.

قعد معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم! فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل فاستوص به خيرا.

عبد الملك والحارث في ابن الزبير

وقال عبد الملك بن مروان للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: ما كان يقول الكذّاب في كذا وكذا؟ - يعني ابن الزبير-؛ فقال: ما كان كذابا. فقال له يحيى بن الحكم: من أمّك يا حار؟ قال: هي التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمّك.

الوليد ابن عبد الملك والزهري

دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ما حديث يحدّثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال يحدّثوننا أن الله إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا أمير المؤمنين، أنبىّ خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال بل نبيّ خليفة. قال: فإن الله يقول لنبيه داود: ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبيّ خليفة؛ فما ظنك بخليفة غير نبيّ؟ قال: إن الناس ليغروننا عن ديننا.

بين ابن يسار وعبد الملك

الأصمعي عن إسحاق بن يحيى عن عطاء بن يسار قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب: «وددت أني خرجت من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي» .

فقال : كذبت. فقلت : أو كُذِّبْتُ. فما أفلتُّ منه إلا بجُرَيْعَةِ الذَّقَن6.


  1. الجلاوزة : الشرطة.
  2. في بعض الأصول «قليلا»
  3. معد العارفين : كناية عن شرف النسب.
  4. الصائفة: الغزاة في الصيف،
  5. لتكملة من البيان والتدبین.
  6. مثل يضرب لمن نجا من التلف وقد أشرف.