انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثامن/وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
البداية والنهايةالجزء الثامن المؤلف ابن كثير
وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله



وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله


وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين.

وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

أسلم معاوية عام الفتح، ورُوي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية، ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آلَ نفسي جهدا.

قال معاوية: ولقد دخل عليّ رسول الله مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب بي، وكتبت بين يديه.

قال الواقدي: وشهد معه حنينا، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة.

وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف.

وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده.

وصحب معاوية رسول الله ، وكتب الوحي بين يديه مع الكتّاب، وروى عن رسول الله أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان معاوية طويلا، أبيض، جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.

حدثني محمد بن يزيد الأزدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.

وقال غيره: كان أبيض طويلا، أجلح أبيض الرأس واللحية، يخضبهما بالحناء والكتم.

وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبدا دعا لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.

وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما.

وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه.

فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.

وقال الشافعي: قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه.

فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه.

فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.

وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول:

إنّ بني معرقٍ كريمٌ * محببٌ في أهله حليم

ليس بفاحشٍ ولا لئيمٌ * ولا ضجورٌ ولا سؤوم

صخر بني فهرٍ به زعيمٌ * لا يخلف الظن ولا يخيم

قال: فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني؟

فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.

فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزّى أبا سفيان في ابنه يزيد.

فقال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟

قال: أخوه معاوية.

قال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين.

وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.

وقال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعا، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك.

فلم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان.

وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبا من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها.

فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم.

فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت.

فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.

ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا.

فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية.

والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.

وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس.

قال: قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن.

قال: «نعم»

قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.

قال: «نعم!»

قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.

قال: «نعم»: وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة.

فقال: «إن ذلك لا يحل لي»، وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه ولله الحمد.

والمقصود منه: أن معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول الله الذين يكتبون الوحي.

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس.

قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء فقلت: ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: «اذهب فادع لي معاوية» - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.

فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل.

فقال: «اذهب فادعه»، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته.

فقال في الثالثة: «لا أشبع الله بطنه».

قال: فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.

أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.

وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.

أن رسول الله قال: «اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة».

فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.

وقال المسيب بن واضح: عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

قال: أتى جبريل إلى رسول الله فقال: يا محمد أقرئ معاوية السلام واستوص به خيرا؛ فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين.

ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضا من رواية علي، وجابر بن عبد الله: أن رسول الله استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين.

ولكن في الأسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن غيره أيضا.

وقال أبو عوانة: عن سليمان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو.

قال: كان معاوية يكتب للنبي .

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني، ثنا السري، عن عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه هشام بن عروة، عن عائشة.

قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي ، دق الباب داق، فقال النبي : «انظروا من هذا؟»

قالوا: معاوية.

قال: «ائذنوا له»، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: «ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟»

قال: قلم أعددته لله ولرسوله.

فقال له: «جزاك الله عن نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قمصا» - يعني: الخلافة -؟

فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمصه قميصا؟

قال: «نعم! ولكن فيه هنات وهنات».

فقالت: يا رسول الله فادع الله له.

فقال: «اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى».

قال الطبراني: تفرد به السري، عن عاصم، عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام.

وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث موضوعة، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها، والله الموفق للصواب.

وقد أوردنا من طريق أبي هريرة، وأنس، وواثلة بن الأسقع مرفوعا: «الأمناء ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية».

ولا يصح من جميع وجوهه.

ومن رواية ابن عباس: «الأمناء سبعة: القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية».

وهذا أنكر من الأحاديث التي قبله، وأضعف إسنادا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني: ابن صالح - عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية السلمي.

قال: سمعت رسول الله يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: «هلم إلى الغداء المبارك»، ثم سمعته يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب»، تفرد به أحمد.

ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي.

وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بإسناده مثله.

وفي رواية بشر بن السري: «وأدخله الجنة».

ورواه ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس.

قال: قال رسول الله : «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب».

وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الأشيب قال: ثنا أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد.

وقال الأشهب: قال أبو هلال: أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب: أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد.

قال: أما إني أقول لك هذا وقد سمعت رسول الله يقول: «اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد وقه العذاب».

وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس.

وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا: ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي - أن رسول الله قال لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب».

قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث العرباض الذي تقدم.

ثم روي من طريق الطبراني، عن أبي زرعة، عن أبي مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.

قال: سمعت رسول الله يقول لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به».

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي أنه ذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».

وهكذا رواه الترمذي: عن محمد بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به.

وقال: حسن غريب.

وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني، كما رواه الوليد بن مسلم، وأبو مسهر، عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.

ورواه محمد بن المصفى، عن مروان بن محمد الطاطري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن ابن أبي عميرة: أن رسول الله دعا لمعاوية فقال: «اللهم علمه العلم، واجعله هاديا مهديا، واهده واهد به».

وقد رواه سلمة بن شبيب، وصفوان بن صالح، وعيسى بن هلال، وأبو الأزهر، عن مروان الطاطري، ولم يذكر أبا إدريس في إسناده.

ورواه الطبراني: عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.

أنه سمع رسول الله وذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده».

قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.

وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه، وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد.

وقال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية، قال للناس: عزل عمر عميرا وولى معاوية.

فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله يقول: «اللهم اهد به».

تفرد به الترمذي، وقال: غريب.

وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الأطراف في مسند عمير بن سعد الأنصاري.

وعندي: أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذرا له في توليته له.

ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال: حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان - قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا: ولى حدث السن.

فقال: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله يقول: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».

وهذا منقطع يقويه ما قبله.

قال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله : استشار أبا بكر وعمر في أمر، فقال: «أشيروا عليَّ».

فقالا: الله ورسوله أعلم.

فقال: «ادعوا معاوية؟».

فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول الله ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله إلى غلام من غلمان قريش؟

فقال: «ادعو لي معاوية».

فدعي له، فلما وقف بين يديه قال رسول الله : «أحضروه أمركم وأشهدوه أمركم، فإنه قوي أمين».

ورواه بعضهم: عن نعيم وزاد: «وحملوه أمركم».

ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضعات والمنكرات.

ثم قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة، عن ابن عباس: أنه كان كاتب النبي منذ أسلم.

أخرجه مسلم في صحيحه.

وبعده حديث العرباض: «اللهم علم معاوية الكتاب».

وبعده حديث ابن أبي عمير: «اللهم اجعله هاديا مهديا».

قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب: ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا الحسن بن بشر، ثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: أوتر معاوية بركعة بعد العشاء، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله .

حدثنا ابن أبي مريم: ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة.

قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟

فإنه ما أوتر إلا بواحدة!

قال: أصاب، إنه فقيه.

ثنا عمرو بن عباس، ثنا جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت حمران، عن أبان، عن معاوية.

قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني: الركعتين بعد العصر -.

ثم قال البخاري بعد ذلك: ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة: حدثنا عبدان، ثنا عبد الله يونس، عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت: «جاءت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان إلى رسول الله - فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ من أن يذلُّوا من أهل خبائك.

ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك.

فقال: «وأيضا والذي نفسي بيده».

فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟

قال: «لا إلا بالمعروف».

فالمدحة في قوله: «وأيضا والذي نفسي بيده»، وهو أنه كان يود أن هندا وأهلها وكل كافر يذلوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني: أهل خبائها -.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال: سمعت جدي يحدث: أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله بها - وكان أبو هريرة قد اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل».

قال معاوية: فما زلت أظن أني سأبتلي بعملٍ لقول النبي حتى ابتليت. تفرد به أحمد.

ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني، سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.

ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم، عن عمرو بن يحيى به.

وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن معاوية قال: اتبعت رسول الله بوضوء، فلما توضأ نظر إليّ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق واعدل».

فما زلت أظن أني مبتلى بعمل حتى وليت.

ورواه غالب القطان عن الحسن.

قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: صببت يوما على رسول الله وضوءه، فرفع رأسه إليّ فقال: «أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم».

وقال: فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا.

وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير.

قال قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله : «إن ملكت فأحسن».

قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد.

وروى ابن عساكر بإسناده عن نعيم بن حماد: ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذٍ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مه! إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها.

قلت: ومن أرسلك؟

قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة.

فقلت له: ومن معاوية؟

قال: معاوية بن أبي سفيان.

ورواه الطبراني عن أبي يزيد القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جدا، ولعل الجميع مناما، ويكون قوله إذا انتبهت من نومي مدرجا لم يضبطه ابن أبي مريم، والله أعلم.

وقال محمد بن عائذ: عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس، عن الزهري قال: قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان، فقال لأبي سفيان: احتسب يزيد بن أبي سفيان.

قال: من أمرت مكانه؟

قال: معاوية.

فقال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام وعمير بن سعد حتى قتل عمر رضي الله عنهم.

وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذا، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات، واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر، وولى عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم أمره عثمان بن عفان على الشام.

وقال إسماعيل بن أمية: أفرد عمر معاوية بإمرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين دينارا.

والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه إنما ولاه بعض أعمالها.

وقال بعضهم: لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها: إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفا من أحد؟ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رُمي به فيها لخرج من أي أعراضها - نواحيها - شاء.

وقال آخرون: ذكر معاوية عند عمر، فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له.

قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟

قال: هو ما بلغك من ذلك.

قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز.

قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.

فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت.

قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت.

قال: لا آمرك ولا أنهاك.

فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؟!

فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.

وفي رواية: أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا.

فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين؟!

فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه.

وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وبّاص؛ أبضّ الناس وأجملهم.

فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.

فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك إنا بأرض الحمامات والريف والشهوات.

فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب.

فقال: يا أمير المؤمنين علمني امتثل.

قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب.

فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما؟!.

فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني.

قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.

وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.

وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده.

قال: دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء؛ فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين الله الله فيّ.

فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين؟ وما في قومك مثله؟

فقال: والله ما رأيت إلا خيرا، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.

وقد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا ابن أبي مريم: أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره.

قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت: حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله يقول: «من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره».

قال: فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلا على حوائج الناس. ورواه الترمذي وغيره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز.

قال: خرج معاوية على الناس فقاموا له.

فقال: سمعت رسول الله يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».

وفي رواية: قال: خرج معاوية على ابن عامر وابن الزبير، فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير.

فقال معاوية لابن عامر: اجلس! فإني سمعت رسول الله يقول: «من أحب أن يتمثل له العباد قياما فليتبوأ مقعده من النار».

ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد. وقال الترمذي: حديث حسن.

وروى أبو داود من حديث الثوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري الحمصي، عن معاوية.

قال: قال رسول الله : «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم».

قال: كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها.

تفرد به أحمد - يعني: أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية.

أنه قال: سمعت رسول الله يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون».

وفي رواية: «وهم على ذلك».

وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يخامر يخبر عن معاذ أن رسول الله قال وهم بالشام - يحث بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق: «وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها» وهذا مما كان يحتج به معاوية لأهل الشام في قتالهم أهل العراق.

وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب.

وقال غيره: وفتح قبرص سنة خمس.

وقيل: سبع.

وقيل: ثمان وعشرين في أيام عثمان.

قالوا: وكان عام غزوة المضيق - يعني: مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين في أيامه، وكان هو الأمير على الناس عامئذ.

وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام.

وقيل: إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح: عثمان.

واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام -كما ثبت في الحديث الصحيح: «تمرق مارقة على خير فُرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق» فكانت المارقة الخوارج وقتلهم علي وأصحابه.

ثم قُتل علي، فاستقل معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين.

وفيها: أوفى التي بعدها أغزاه بلاد الروم، فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية.

وقد ثبت في الصحيح: «أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم».

وقال وكيع: عن الأعمش، عن أبي صالح.

قال: كان الحادي يحدو بعثمان فيقول:

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني: معاوية -.

فقال: يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي والزبير وأصحاب محمد ؟.

فقال: أنت صاحبها.

ورواه سيف عن بدر بن الخليل، عن عثمان بن عطية الأسدي، عن رجل من بني أسد.

قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول:

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب: كذبت! بل صاحب البغلة الشهباء بعده - يعني: معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال: نعم! أنت الأمير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي هارون قال:

قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم.

ورواه الواقدي من وجه آخر: عن عمر رضي الله عنه.

وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي: أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك -.

وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته، لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك.

وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل.

وقد قدمنا أكثره، فقرأه معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف.

فقال معاوية: انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر معاوية مناديا فنادى في الناس: الصلاة جامعة.

فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان برهانا، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم؛ لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته.

ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما، وفي أعلام الخير عظاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما، ويخيفون آمنا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا.

وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم.

أيها الناس: قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه.

قال الله تعالى في كتابه: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا } [الإسراء: 33] وقد علمتم أنه قتل مظلوما، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.

فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك.

فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه.

وقال معاوية لجرير: إن ولاني عليّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده على بيعة.

فقال: اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ عليا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا } [الكهف: 51] .

ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي.

وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره، فركب إليه فاجتمعا على حرب علي.

وقد قال عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه:

معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فإن عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا يشيب النواصيا

وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تكُ مخشوش الذراعين وانيا

وإلاّ فسلم إن في الأمن راحةً * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتابا يا بن حربٍ كتبته * على طمع جانٍ عليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا

إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعةٍ * وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرةً * فراك ابن هندٍ بعد ما كنت فاريا

وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟

فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إليَّ؟

فقولوا له: فليسلم إليَّ قتلة عثمان، وأنا أسلم له أمره.

فأتوا عليا فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحدا، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية.

وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، وأبي جعفر الباقر.

قال: بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فملأوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟

فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال.

ثم نادى معاوية في الناس: أن أخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره.

فأمر علي مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي؟

فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد.

ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطا في سنة ست وثلاثين.

وقد قال أبو بكر بن دريد: أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة.

قال: قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول:

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

فقيل له: فمعاوية؟

قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، رحم الله معاوية.

وقال علي بن المديني: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليا.

وقيل لشريك القاضي: كان معاوية حليما؟

فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا.

رواه ابن عساكر.

وقال سفيان الثوري: عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولا شديدا، ثم بلغه أن عليا لبى عشية عرفة فتركه.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عمر بن عبد العزيز.

قال: رأيت رسول الله في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أُتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة.

ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.

وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي، أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية.

فقال له: ولم؟

قال: لأنه قاتل عليا.

فقال له أبو زرعة: ويحك إن معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما.

وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134] .

وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال الأوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا.

وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتلينا جميعا.

وقال كلثوم بن جوشن: سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي؟

فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل.

قال: فعمر أفضل أم علي؟

فقال: مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل.

ثم قال: عثمان أفضل أم علي؟

فقال: مثل قوله الأول، ثم قال: عثمان أفضل.

قال: فعلي أفضل أم معاوية؟

فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية.

وقد رُوي عن الحسن البصري: أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتاله عليا، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه.

وقال جرير بن عبد الحميد: عن مغيرة.

قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي.

فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟

فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.

وفي رواية: أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟.

قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد: إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين.

والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له: أدرج.

وقيل: بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية الأنبار، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين.

قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب.

وقيل: بل كان: لا قوة إلا بالله.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور قالا: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد.

قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني: خارج الكوفة - الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.

رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد، عن الأعمش به.

وقال محمد بن سعد: حدثنا عارم، ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بَعُدَ عن ذلك.

وقال نعيم بن حماد: حدثنا ابن فضيل، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين.

قال: لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية».

فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.

وقال مجالد: عن الشعبي، عن الحارث الأعور.

قال: قال علي بعد ما رجع من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.

وقال ابن عساكر: بإسناده عن أبي داود الطيالسي، ثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله في الخلافة؟

فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار.

وقال الزهري: حدثني القاسم بن محمد: أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد، إلا ذكوان أبو عمر عمرو، ومولى عائشة.

فقالت: أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا؟

فقال: صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضّت معاوية على العدل واتباع أثرهم.

فقالت في ذلك: فلم يترك له عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله ، الناصحة المشفقة، البلوغة الموعظة، حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعي.

وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا.

فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله أبلغ من عائشة.

وقال محمد بن سعد: حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال، حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي بأنبجانية رسول الله وشعره.

فأرسلت به معي أحمله، حتى دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده.

وقال الأصمعي: عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك.

فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد!

فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه.

وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت عليّ وأين مثل هؤلاء؟

ومن يقدر على أعمالهم؟

هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟

رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك.

ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.

والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهتموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله. ثم نزل.

قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.

والظاهر: أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.

وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها.

فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا.

فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟

وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك.

وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك أبي سعيد.

أن رسول الله قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعا.

وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وأرسله عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب.

ورواه الخطيب البغدادي بإسناد مجهول، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه، فإنه أمين مأمون».

وقال أبو زرعة الدمشقي: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم: أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك.

ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله تأويل القرآن.

ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يدا من جماعة في أمة محمد .

وقال أبو زرعة: عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.

قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويُشَتُّوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى.

وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعا إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم.

وقال ابن وهب: عن يونس، عن الزهري قال: حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهرا.

وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.

وقال غيره: سنة إحدى وخمسين فالله أعلم.

وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني: معاوية -.

وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، ثنا المسور بن مخرمة: أنه وفد على معاوية.

قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال: سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟

قال: قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.

فقال: لتكلمني بذات نفسك.

قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به.

فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من الذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟

قال: قلت: نعم!

إن لي ذنوبا إن لم تغفرها هلكت بسببها.

قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليّ من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات.

والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه.

قال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.

قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.

وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بنحوه.

وقال ابن دريد: عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: يا أيها الناس!

ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلبا.

وقد رواه أصحاب محمد، عن ابن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية: أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك.

وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول:

أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.

تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقلٌ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي، ثنا محمد بن سيرين.

قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله لم يتهم.

ورواه أبو القاسم البغوي: عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل.

قال: كان معاوية يبعث رجلا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟

أو قدم أحد من الوفود؟

فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني: ليجري عليه الرزق -.

وقال غيره: كان معاوية متواضعا ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس.

وقال هشام بن عمار: عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.

قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفيا عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.

وقال الأعمش: عن مجاهد أنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.

وقال هشيم: عن العوام، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.

قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية.

قال: قلت: ولا عمر؟

قال: كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.

ورواه أبو سفيان الحيري: عن العوام بن حوشب به.

وقال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله أسود من معاوية.

قيل: ولا أبو بكر؟

قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه، وهو أسود.

وروى من طرق عن ابن عمر مثله.

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية.

وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.

وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا حمزة، عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك وآخر خليفة.

قلت: والسُنَّة أن يقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له خليفة حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا».

وقال عبد الملك بن مروان يوما وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه.

وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدا أعظم حلما ولا أكثر سؤددا ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجا، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية.

وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما سيئا شديدا، فقيل له: لو سطوت عليه؟

فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.

وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟

فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.

وقال الأصمعي عن الثوري: قال: قال معاوية: إني لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.

وقال الشعبي والأصمعي: عن أبيه قالا: جرى بين رجل يقال له: أبو الجهم وبين معاوية كلام فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية، فأطرق معاوية.

ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس.

ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمالٍ.

فقال أبو جهم في ذلك يمدح معاوية:

نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا

نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا

وقال الأعمش: طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن: ما أشبه أليتيه بأليتي هند؟!

فالتفت إليه معاوية فقال: أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان.

وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم لمعاوية: أن فلانا يشتمني.

فقال له: طأطئ لها فتمر فتجاوزك.

وقال ابن الأعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك.

فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا.

وقال أبو عمرو بن العلاء: قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.

وقال: ما يسر بي بذل الحلم عز النصر.

وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما.

وقال: آفة الحلم الذل.

وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.

وقال عبد الله بن الزبير: لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيس -.

وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس؟

فقال: أسخاهم نفسا حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقا، وأحلمهم حين يستجهل.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيرا:

فما قتل السفاهة مثل حلمٍ * يعود به على الجهل الحليم

فلا تسفه وإن ملِّئت غيظا * على أحدٍ فإن الفحش لوم

ولا تقطع أخا لك عند ذنبٍ * فإن الذنب يغفره الكريم

وقال القاضي الماوردي في الأحكام السلطانية: وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال:

يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكانا يشينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها * ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية: كيف أصنع بك؟

قد قطعنا أصحابك؟

فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين! اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها.

فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام.

وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا.

وقال غيره: كتب معاوية إلى نائبه زياد:

إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه.

وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز.

قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.

وقال هشام بن عروة: عن أبيه قال: بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم.

فقالت لها خادمتها: هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما تفطري عليه؟

فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.

وقال زيد بن الحباب: عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة.

قال: قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له: لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف.

ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي.

فقال له الحسين: ولم تعط أحد أفضل منا.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير بن مغيرة.

قال: أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك عليا فقال لهما: ألا تستحيان؟

رجل نطعن في عينه غدوةً وعشيةً تسألانه المال؟

فقالا: بل حرمتنا أنت وجاد هولنا.

وروى الأصمعي قال: وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال للحسن: مرحبا وأهلا بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف.

وقال لابن الزبير: مرحبا وأهلا بابن عمة رسول الله ، وأمر له بمائة ألف.

وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف.

وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفا وحبس خمسين ألفا، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف.

فقال معاوية: إنه لمقتصد يحب الاقتصاد.

وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول: لم جئت بها بالنهار؟

هلا جئت بها بالليل؟

ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدا شيئا.

فقال معاوية: إنه لخب ضبّ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله.

وقال ابن دآب: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما فأعطاه المال وقضى له الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف.

فطاف على رؤوس الأشهاد والأمراء من أهل الشام وأمراء العراق، ممن قدم مع الأحنف بن قيس، فكلهم يقولون: عليك بعبد الله بن جعفر، فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة.

وأمر الكاتب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم.

فقال له ابن جعفر: اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن.

فبلغ ذلك معاوية فقال: لأن يكون يزيد قالها أحب إليّ من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرما.

وقال غيره: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف، فألحّ عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء، فركب إليه فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر؟

فقال: دين ألحّ علي غرماؤه.

فقال: وكم هو؟

قال: خمسمائة ألف.

فقضاها عنه وقال له: إن الألف ألف ستأتيك في وقتها.

وقال ابن سعيد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا ابن هلال، عن قتادة.

قال: قال معاوية: يا عجبا للحسن بن علي!! شرب شربة عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي.

فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين.

قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء.

وقال: خذها فاقسمها في أهلك.

وقال أبو الحسن المدايني: عن سلمة بن محارب قال: قيل لمعاوية: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟

قال: كنا أكثر أشرافا وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، وكان فيهم عبد المطلب لم يكن فينا مثله.

فلما مات صرنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي.

فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد ، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف؟.

وروى ابن أبي خيثمة: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص قصّ على معاوية مناما رأى فيه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وهم يحاسبون على ما وَلَّوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه.

فقال له معاوية: وما رأيت ثم دنانير مصر؟.

وقال ابن دريد: عن أبي حاتم، عن العتبي.

قال: دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص:

تموت الصالحون وأنت حي * تخطاك المنايا لا تموت

فقال له معاوية:

أترجو أن أموت وأنت حي* فلست بميت حتى تموت

وقال ابن السماك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها.

وقال الزهري: عن عبد الملك، عن أبي بحرية.

قال: قال معاوية: المروءة في أربع: العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار.

وقال أبو بكر الهذلي: كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له أهله: قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر؟

فارتاح يوما فقال:

صرمت سفاهتي وأرحت حلمي * وفيّ على تحملي اعتراض

على أني أجيب إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض

وقال مغيرة: عن الشعبي: أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه.

وكذا روي عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسا يوم الجمعة معاوية.

وقال أبو المليح عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس في الجلوس.

وقال قتادة: عن سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية.

وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ الأبواب معاوية.

وقال أبو اليمان: عن شعيب، عن الزهري: مضت السُنَّة أن لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده.

وبه قال الزهري، ومضت السنة: أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه.

وقال ابن وهب: عن مالك، عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله فقال لي: اسمع يا زهري، من مات محبا لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقا على الله أن لا يناقشه الحساب.

وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز.

وقال محمد بن يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد.

فقيل له: أيهما أفضل؟

هو أو عمر بن عبد العزيز؟

فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز.

وقال غيره: عن ابن المبارك، قال معاوية: عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القول - يعني: الصحابة -.

وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل؟

معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟

فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.

وقد قال رسول الله : «دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وكذا قال الفضل بن عتيبة.

وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لأصحاب محمد ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.

وقال الميموني: قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام.

وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟

فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.

وقال ابن مبارك: عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة.

قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسان شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطا.

وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمرا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليا فذاك خصمه النبي ، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية.

وقال بعضهم: رأيت رسول الله وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله هذا يتنقصنا، فكأنه انتهره رسول الله .

فقال: يا رسول الله إني لا أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني: معاوية -.

فقال: «ويلك أوليس هو من أصحابي؟» قالها ثلاثا، ثم أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية فقال: «جابها في لبته».

فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.

وروى ابن عساكر: عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا.

وقال العتبي: قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب؟

فقال: كيف لا ولا أزال أرى رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود.

وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لوقة.

وروى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني: فرجها - ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية.

ثم قال: لا!

ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد.

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإنها لا تصلح له.

فقال: نعم ما رأيت.

قال: ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله ، وكان أسود.

فقال له: بيض بها ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [النساء: 22] .

وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي.

وذكر ابن جرير: أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم.

قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم.

وقال: إني لأظن عمرا قد تقدم إليهم في شيء؟.

فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول الله .

فلما نهض عمرو من عنده قال: قبحكم الله! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة.

وذكر أن رجلا سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب.

فقال له معاوية: أين دارك؟

قال: بالبصرة.

قال: وكم اتساعها؟

قال: فرسخان في فرسخين.

قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري.

وذكر أن رجلا دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلا ذريعا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول.

فقال له معاوية! أين ابنك التلقامة؟

قال: اشتكى.

قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.

قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل يزدريه.

فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من بها.

وقال معاوية: أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر.

وكتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها

وجعلت أسقامها تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها.

فقال معاوية: نعى إليّ نفسي.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني هارون بن سفيان، عن عبد الله السهمي، حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس! إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني.

وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرا مني، ويا يزيد إذا دنا أجلي فولِّ غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير.

ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله ، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون لفافي.

ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.

وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل يقول:

لعمري لقد عمرت في الدهر برهةً * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر

وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر

فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحكمٍ مضى في المزمنات الغوابر

فيا ليتني لم أعنِ في الملك ساعةً * ولم أسمع في لذات عيشٍ نواضر

وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ * فلم يك حتى زار ضيق المقابر

وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله.

وذكروا: أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشيء ثقيل يغمه، فاتخذ له ثوبا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك.

فقال: تبا لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تبا للدنيا ولمحبيها.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير.

قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لأهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال: أسندوني.

ثم قال: إيذنوا للناس فليسلموا عليّ قياما ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا متدهنا فيقول متقول الناس: إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس.

فلما خرجوا من عنده، قال معاوية في ذلك:

وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع

وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع

قال: وكان به النقابة - يعني: لوقة - فمات من يومه ذلك رحمه الله.

وقال موسى بن عقبة: لما نزل بمعاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئا.

وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر:

إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب

أو تجاوز تجاوز العفو واصفح * عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب

وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه.

فقال لهم: أي شيخ تقلبون؟ إن نجاه الله من عذاب النار غدا.

وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.

وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق:

هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع

ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.

ورواه ابن دريد: عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد: ثم مات.

وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات رحمه الله.

وقد روى أبو مخنف: عن عبد الله بن نوفل.

قال: لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفانُ معاوية على يديه -

فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن معاوية الذي كان سُور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، إلا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله.

ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى.

ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجيء.

ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين.

فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين.

وقيل: ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين.

قاله ابن إسحاق وغير واحد.

وقيل: لأربع خلت من رجب، قاله الليث.

وقال سعد بن إبراهيم: لمستهل رجب.

قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله الذي كساه إياه، وكان مُدَّخرا عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.

وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل: بدار الإمارة وهي الخضراء.

وقيل: بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم.

وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة.

وقيل: جاوز الثمانين وهو الأشهر والله أعلم.

ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العُقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالإمارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس.

فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه.

فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعد ما دفن ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.

ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين.

فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عزّ وجلّ فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه.

وقد وليت الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئا كان.

وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله.

قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول:

جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا

فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا

ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا

فما نبالي إذا بلغن أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات أو طلعا

لما انتهينا وباب الدار منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا

من لا تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا

أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كأنا جميعا خليطا سالمين معا

أغر أبلج يستسقى الغمام به * لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا

لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا

وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين من الأعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد.

ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم.

وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:

ألا أنعى معاوية بن حربٍ * نعاة الحل للشهر الحرام

نعاه الناعيات بكل فجٍ * خواضع في الأزمة كالسهام

فهاتيك النجوم وهن خرسٌ * ينحن على معاوية الهمام

وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا:

رمى الحدثان نسوة آل حربٍ * بمقدارٍ سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا

فإنك لو شهدت بكاء هندٍ * ورملة إذ يصفقن الخدودا

بكيت بكاء معولةٍ قريحٍ * أصاب الدهر واحدها الفريدا

البداية والنهاية - الجزء الثامن
سنة إحدى وأربعين | معاوية بن أبي سفيان وملكه | فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه | خروج طائفة من الخوارج عليه | رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان | ركانة بن عبد العزيز | صفوان بن أمية | عثمان بن طلحة | عمرو بن الأسود السكوني | عاتكة بنت زيد | سنة ثنتين وأربعين | سنة ثلاث وأربعين | أما عمرو بن العاص | وممن توفي فيها عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي | سنة أربع وأربعين | وفى هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين | سنة خمس وأربعين | سنة ست وأربعين | سراقة بن كعب شهد بدرا وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد | سنة سبع وأربعين | ثم دخلت سنة ثمان وأربعين | سنة تسع وأربعين | الحسن بن علي بن أبي طالب | سنة خمسين من الهجرة | وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي صحابي جليل | صفية بنت حيي بن أخطب | وأما أم شريك الأنصارية | وأما عمرو بن أمية الضمري | أما جبير بن مطعم | وأما حسان بن ثابت | وأما الحكم بن عمر بن مجدع الغفاري | وأما دحية بن خليفة الكلبي | وأما عقيل بن أبي طالب | وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي | المغيرة بن شعبة | جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية | سنة إحدى وخمسين | وذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة | فأما جرير بن عبد الله البجلي | وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب | وأما حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري | وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي | وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني | وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث | وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية | ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين | خالد بن زيد بن كليب | وفيها كانت وفاة أبي موسى الأشعري | قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد | الحطيئة الشاعر | عبد الله بن مالك بن القشب | قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي | معقل بن يسار المزني | أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه | عبد الله بن المغفل المزني | وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد | كعب بن عجزة الأنصاري أبو محمد المدني | معاوية بن خديج | هانئ بن نيار أبو بردة البلوي | ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين | وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي | رويفع بن ثابت | صعصعة بن ناجية | جبلة بن الأيهم الغساني | سنة أربع وخمسين | أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي | ثوبان بن مجدد | جبير بن مطعم | الحارث بن ربعي | حكيم بن حزام | حويطب بن عبد العزى العامري | معبد بن يربوع بن عنكثة | مرة بن شراحيل الهمداني | النعيمان بن عمرو | سودة بنت زمعة | ثم دخلت سنة خمس وخمسين | أرقم بن أبي الأرقم | سحبان بن زفر بن إياس | سعد بن أبي وقاص | فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي | قثم بن العباس بن عبد المطلب | كعب بن عمرو أبو اليسر | ثم دخلت سنة ست وخمسين | سنة سبع وخمسين | قال ابن الجوزي وفيها توفي عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي | سنة ثمان وخمسين | قصة غريبة | توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف | شداد بن أوس بن ثابت | عبد الله بن عامر | عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما | قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام | عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب | أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق | ثم دخلت سنة تسع وخمسين | سنة ستين من الهجرة النبوية | وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله | ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له | فصل قضاء معاوية | صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو | أبو مسلم الخولاني | يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه | قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله | صفة مخرج الحسين إلى العراق | ثم دخلت سنة إحدى وستين | وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب | فصل مقتل الحسين رضي الله عنه | وأما قبر الحسين رضي الله عنه | وأما رأس الحسين رضي الله عنه | فصل شيء من فضائله | فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه | الحسين بن علي رضي الله عنهما | جابر بن عتيك بن قيس | حمزة بن عمرو الأسلمي | شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي | الوليد بن عقبة بن أبي معيط | أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة | ثم دخلت سنة ثنتين وستين | بريدة بن الحصيب الأسلمي | الربيع بن خيثم | علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي | عقبة بن نافع الفهري | عمرو بن حزم | مسلم بن مخلد الأنصاري | مسلم بن معاوية الديلمي | ثم دخلت سنة ثلاث وستين | ثم دخلت سنة أربع وستين | وهذه ترجمة يزيد بن معاوية | أولاد يزيد بن معاوية وعددهم | إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية | إمارة عبد الله بن الزبير | ذكر بيعة مروان بن الحكم | وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه | وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري | وفيها توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل | المنذر بن الزبير بن العوام | مصعب بن عبد الرحمن بن عوف | وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين | ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير | ثم دخلت سنة خمس وستين | وقعة عين وردة | ترجمة مروان بن الحكم | خلافة عبد الملك بن مروان | ثم دخلت سنة ست وستين | فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه | مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسنا | مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين | مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين | فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير | فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد | ثم دخلت سنة سبع وستين | وهذه ترجمة ابن زياد | مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير | وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي | فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة | ثم دخلت سنة ثمان وستين | عبد الله بن يزيد الأوسي | وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي | وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن | ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل | فصل تولي ابن عباس إمامة الحج | صفة ابن عباس | ثم دخلت سنة تسع وستين | وهذه ترجمة الأشدق | أبو الأسود الدؤلي | جابر بن سمرة بن جنادة | أسماء بنت يزيد | حسان بن مالك | ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة | عاصم بن عمر بن الخطاب | قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي | قيس بن ذريج | يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري | بشير بن النضر | مالك بن يخامر | ثم دخلت سنة إحدى وسبعين | وهذه ترجمة مصعب بن الزبير | إبراهيم بن الأشتر | عبد الرحمن بن عسيلة | عمر بن سلمة | سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم | عمر بن أخطب | يزيد بن الأسود الجرشي السكوني | ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين | وهذه ترجمة عبد الله بن خازم | الأحنف بن قيس | البراء بن عازب | عبيدة السلماني القاضي | عطية بن بشر | عبيدة بن نضيلة | عبد الله بن قيس الرقيّات | عبد الله بن حمام | ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين | وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير | عبد الله بن صفوان | عبد الله بن مطيع | عوف بن مالك رضي الله عنه | أسماء بنت أبي بكر | عبد الله سعد بن جثم الأنصاري | عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي | مالك بن مسمع بن غسان البصري | ثابت بن الضحاك الأنصاري | زينب بنت أبي سلمى المخزومي | توبة بنت الصمة